الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه، وبعدُ:
كم مِن المجازر التي تعرَّض لها أهل غزة منذ أن عملتْ فيهم آلات القتل «الإسرائيلية»؟! عشرات الآلاف استُشهدوا بكل صنوف القتل؛ حرقًا، وجوعًا، وصبرًا تحت جدران هُدِّمت، ولم يُسمَع لهم صوت.
مئات الآلاف أُصيبوا، بقيت أرواحهم، ولم يبقَ من أجسادهم إلا القليل.
وأكبر فواجع هؤلاء المظلومين هو الشُّعور بالخذلان، وأن رائحة شواء لحومهم بنيران الصهاينة لم تصل لأنوف إخوانهم، أو ربما وصلت، ولكنّها لم تُحرِّك قلوبهم.
كنتُ وأنا طالب يُعجزني فَهْم درس فيزيائي يُقارن بين طاقة الحركة وطاقة الوضع، وكان يُعييني فَهْم كيف لطاقة الوضع، وهي طاقة ساكنة، أن تزداد! إلى أن جاءت الإجابة من مُعلِّم ليس متخصصًا في الفيزياء؛ قال لي: هل جرَّبت مرة الشعور بالألم مع محاولة كتم مشاعر الحزن والغضب أو الصراخ؟ قلت: نعم. قال: ماذا لو ازداد الألم ولم تستطع تحمُّله؟ قلت: ساعتها سأنفجر صارخًا صُراخًا يجمع بين أوّل الألم وآخره. قال: فذاك الذي تبحث عنه.
إن مشهد البائع الفقير، وهو يلقي حبات من فاكهة فوق سيارة؛ قيل: إنها تحمل مساعدات لأهلنا في غزة، أو سائق يعمل على مركبة بالكاد تكفيه قوت يومه، ينفجر بكاءً لعجزه عن أن يُقدِّم شيئًا لإخوانه في فلسطين؛ إلا تنازله عن أجرة الشاب الفلسطيني الذي يركب معه. أمثلة موجزة عن ذلك.
مخطئ مَن يظن أن مشاهد القتل وصور القهر والجوع لا تفعل شيئًا، أو أن صرخات النساء المسلمات في فلسطين تذهب سدًى. هذه هي الطاقة المختزنة في الشعوب تزداد يومًا بعد يوم.
إن غاية أمنيات كثير من المؤمنين أن يتوقف القتل في غزة، وربما تحمل الدعوات رغبةً في الانتقام من الصهاينة، وسقوط حكومة نتنياهو، أو زوال دولة «إسرائيل»، لكن مع عِظَم الصبر تكون عظمة النتائج؛ فالأُمَّة في حاجة إلى يقظة شاملة، في المناحي كلها، والقلوب جميعها.
كم مِن السنوات ظل بنو إسرائيل تحت وطأة التذبيح من فرعون وجنوده! كم من الأنفس أُزْهِقَت؟ سنوات طويلة. ثم ماذا؛ ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
إن وعد الله آتٍ لا محالة، وكما أدهَش ثبات أهل غزة وصبرهم قلوب المؤمنين وغير المؤمنين وأيقظها؛ سيكون فتح الله على هذه الأُمَّة عظيمًا، ربما أكبر بكثير من مجرد زوال دولة «إسرائيل».