تمثل غزة لمصر بوابتها الشرقية، وعلى مر العصور كان الأمن القومي لأيّ جهة تحكم مصر يقتضي تأمين حدَّيْن على الأقل من حدود مصر الجغرافية؛ شرقها وجنوبها.
تقف الحرب في غزة الآن على مفرق طرق.
فقد وصل الصراع إلى نقطة فاصلة حرجة، خاصةً مع اقتراب مخزون غزة من الغذاء والدواء وغيرها من مستلزمات الحياة من النفاد؛ نتيجة إستراتيجية التجويع التي يُمارسها الكيان الصهيوني، في الوقت الذي فشلت فيها كلّ خططه العسكرية لهزيمة المقاومة الفلسطينية.
فطوال العشرين شهرًا الماضية، عجَز جيش الكيان -المدعوم غربيًّا والمسلَّح بأحدث الأسلحة- عن الانتصار على حماس، والتي تقود حرب عصابات نموذجية ناجحة، يتحدَّث عنها اللواء احتياط بالجيش الصهيوني «يسرائيل زيف»: «حماس طوَّرت طرق قتالها، وإدخالنا قوات كبيرة لغزة لن يفيدنا».
ولكن في نفس الوقت تتعالى الأصوات بين العرب والمسلمين همًّا وغمًّا، وهم يرون أمام أعينهم تساقط أطفال غزة جوعًا، فضلًا عن قتلهم بالقنابل الأمريكية.
وتُلقي الشعوب باللوم على الدول العربية والإسلامية العاجزة عن إنقاذ الفلسطينيين من المجاعة والحصار الصهيوني، وتتصدَّر الدولة المصرية هذا اللوم؛ نظرًا لأنها الدولة الوحيدة التي تشترك حدودها مع غزة.
فما الذي يجعل مصر عاجزةً عن نجدة الفلسطينيين وفكّ الحصار الصهيوني الظالم عن غزة، والذي يطمع في إبادة الشعب بمنع الطعام والشراب والعلاج عن أكثر من مليونَي إنسان؟
ويبدو الموقف المصري الرسمي المُعلَن هو الوقوف بحزمٍ تجاه قضية تهجير أهل غزة، ولكن هل تكون تلك الإجراءات المصرية التي اتخذتها كفيلة لوقف سيناريو التهجير؟ ولماذا تقف مصر صامتة أمام سياسة التجويع والحصار المُشدَّد، خاصةً أن تلك السياسات جزء من إستراتيجية التهجير؟
لفَهْم هذا اللغز المصري، يلزمنا إدراك طبيعة الدولة المصرية، وحَجْمها وقوتها الذاتية، خاصةً في العقد الأخير، ومِن ثَم تتبُّع سياساتها تجاه غزة وما يجري فيها.
الدولة المصرية في العصر الحديث
لكي نفهم السياسة المصرية في غزة، لا بد من استعراض وتحليل لبنية النظام في مصر وسلوكه السياسي بصفة عامة في القرنيين الماضيين، وهو الوقت التي بدأت ملامح الدولة المصرية الحديثة تتشكل وتأخذ صورة مستقلة عن محيطها، فيما أطلق عليه العصر الحديث.
ويمكن تقسيم هذه الفترة إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى منذ تولّي «محمد علي» ذي الأصول الألبانية الحكم في مصر، ومن بعده أولاده وأحفاده، وقد انتهت تلك المرحلة بانقلاب الجيش المصري على آخر حكام أسرة «محمد عليّ»، وهو الملك فاروق، ومِن ثَم إعلان الجمهورية؛ ليتولى زمام الأمور في الدولة ضباط من الجيش حتى يومنا هذا.
في المرحلة الأولى، بدأت الدولة بظهور «محمد علي» واليًا على مصر مِن قِبَل الدولة العثمانية، اختاره الشعب المصري وفرَضه على السلطان العثماني، ثم تحوَّل إلى حاكم مستبدّ ونكَّل بمُعارضيه، وبالتدريج عمل على الاستقلال عن العثمانيين، بل حارَبهم، حتى كاد أن يُسْقِط الدولة العثمانية عندما توغَّل في الأناضول؛ لولا التدخل البريطاني، والذي أعاده من حيث جاء، ليُقِرّ العثمانيون بسلطة «محمد علي» على مصر والسودان كنوع من الحكم الذاتي تحت السيادة العثمانية الاسمية، وبتدخُّل غربي تدريجي في الحياة المصرية؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
أعاد «محمد علي» صياغة الدولة المصرية الموجودة لتكون دولة مستقلة، لها جيشها وصناعتها، واستغلال مواردها ليتم توجيهها لتكون قاعدة له لتحقيق طموحاته وأهدافه، بدلًا من أن تتَّجه موارد البلد لتكون جزءًا من الدولة العثمانية وتسهم في تحقيق أهدافها.
وبعده أصبح يُطلق على «محمد علي» مُؤسِّس مصر الحديثة، وهذه المقولة كان أول مَن روَّج لها هو «محمد علي» نفسه.
لقد اعتمدت إستراتيجية «محمد علي» في بنائه للدولة المصرية على أربعة أسس: العلمانية، وإذلال المصريين وإخضاعهم، والاستعانة بالأوروبيين، وإقامة مشروعات وإنجازات.
فحارَب العلماء ونكَّل بهم ونفَى بعضهم، وهم الذين كانوا قد قادوا الأهالي للثورة ضد الفرنسيين عدة مرات، كما قاوموا بإزاحة الوالي العثماني، والذي عُرِفَ بظلمه وبطشه، وأرغموا السلطان العثماني على تعيين «محمد علي»، والذي تقرَّب منهم حينها. ولكنّ أخطر ما قام به «محمد علي»، واستكمله خلفاؤه من بعده، هو استبدال قوانين الشريعة بالقوانين الغربية، وتقليص دور المحاكم الشرعية، وفي النهاية جعلها قاصرة على البحث في قضايا الأحوال الشخصية من زواجٍ وطلاقٍ.
وكان من بين الأوروبيين الذين استعان بهم «محمد علي» في حُكْم مصر: ضابط فرنسي اسمه الجنرال سيف، وهو الذي جمع أبناء المماليك وبعض أبناء الطبقات العليا في المجتمع المصري ليكونوا نواة لضباط الجيش المصري، فاستقدمهم إلى أسوان في أقصى جنوب مصر في مدرسة أُقيمت لذلك الغرض؛ لإبعادهم عن تأثير مجتمعهم وثقافتهم، وكان أول قرار له هو أمر هؤلاء الشباب بحلق لحاهم، ومَن يعترض يأمر بتعذيبه.
أما في مجال المشروعات، فقد حقَّق «محمد علي» إنجازات غير مسبوقة، مثل تغيير نظام ملكية الأرض، واستحداث زراعة القطن، واحتكار كل المحاصيل الزراعية، وإعادة النظام الضريبي بشكل عام.
غير أن الإنجازات التي حقَّقها «محمد علي» لم تَعُد بالنفع على المجتمع المصري، وخاصةً الفلاحين الذين يُشكّلون أغلبيته، ويؤكد المؤرخ المصري خالد فهمي (مؤلف كتاب «كل رجال الباشا»، والذي يؤرّخ بحيادية وعلمية إلى حدّ ما لفترة «محمد علي»)، أن عُمّال المصانع مثلًا كانوا يُعامَلُون كعبيد؛ حيث يُرْبَطُون بسلاسل في الآلات، بالإضافة إلى أن المجتمع المصري كان يحكمه نظام بوليسي صارم، ونُخْبَة شكَّلها «محمد علي»، تتكون من أعضاء أُسرته ومعارفه وطبقات أخرى لا يوجد فيها مصريون.
ورغم إقراره بأن «محمد علي» نجح في تأسيس آلة عسكرية جبّارة حقّقت انتصارات؛ يقول فهمي: «إن الجهاز الإداري والدولة التي أسَّسها لم تكن قادرة على الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها جيوشه».
وبلغت قمة التدخل الأجنبي في دولة «محمد علي» الذروة، في عهد أحد أحفاد «محمد علي»، وهو الخديوي إسماعيل، فقد اتصفت فترة حُكمه بالإسراف وإهدار المال العام على الحفلات وتشييد القصور وتجميلها؛ وقد بنى نحو ثلاثين قصرًا من القصور الفخمة، وبحسب كتاب (مصر في عهد الخديوي إسماعيل)، فقد بلغت تكلفة تجميل هذه القصور وتأثيثها ما لا يُحْصَى من الملايين.
ويذكر موقع رئاسة الجمهورية، في الجزء الخاص بالحكام السابقين لمصر، أنّ الخديوي إسماعيل «أسرف في المشروعات النهضوية ومظاهر العظمة؛ فلجأ إلى القروض؛ الأمر الذي أدَّى إلى تدخُّل الأجانب في الشأن المصري اقتصاديًّا وسياسيًّا».
بينما ذكَر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر إسماعيل» أن مسألة الديون هي الجانب المظلم من عهد إسماعيل؛ لأنها المأساة التي انتهت بتهدُّم بناء الاستقلال، وتدخُّل الدول الأجنبية في شؤون البلاد المالية والسياسية.
وبعد الاحتلال البريطاني لمصر؛ حرص الإنجليز على بقاء هيكل دولة «محمد علي»، ولكنّهم سارعوا في وتيرة نشر العلمانية، وألبسوها بالليبرالية الغربية، كما أنهم أصلحوا الاقتصاد، وربطوه بما يخدم الاقتصاد البريطاني، وكوَّنُوا نخبة سياسية وفكرية ورجال أعمال متشبّعة بالفكرة الغربية، وترتبط بالمصالح مع الغرب.
المرحلة الثانية بعد 1952م
عندما جاءت جمهورية الضباط (كما يصفها بعض الباحثين في مراكز الدراسات الغربية)، سارت على نفس العناصر الأربعة لإستراتيجية دولة «محمد علي»؛ وهي: العلمانية، وقمع المصريين، والاستعانة بالأجانب، وإقامة المشروعات والإنجازات. وإن كانت قد استبدلت النخبة المسيطرة من أسرة «محمد علي» وحاشيتهم، بطبقة الضباط وحاشيتهم ومَن دار في فلكهم مِن رجال الأعمال.
في إحدى خطبه المذاعة انفعل الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، قائلًا: «الغرب عايز مني إيه تاني؟! أنا حررت المرأة!»، وبالفعل في حقبة الستينيات وبداية السبعينيات، كاد الحجاب أن يختفي من شوارع المدن في مصر، ولم يكن يرتاد المساجد في تلك الحقبة إلا أرباب المعاشات.
كانت مسألة الهوية في مصر مَعْلَمًا بارزًا للنظام المصري، وإن كان يحاول إخفاءها في بعض المراحل، فالرئيس السيسي نفسه، في حديثه لصحيفة الواشنطون بوست بعد إزاحة الرئيس مرسي بشهور، سأله الصحفي عن سبب تحرُّك القوات المسلحة لإزاحته، فأجاب: «ليس الفشل هو الذي دفَعنا للتحرك، فلو كان كذلك لكنا صبرنا عليه الأربع سنوات، ولتم تغييره في الانتخابات، ولكن تحرّكنا سريعًا لأن الرجل كان يريد تغيير هوية مصر».
وكان السمت الأبرز أيضًا لجمهورية الضباط، هو قمع أيّ صوت معارض، حتى لو بدا خافتًا، حتى ولو كان يحمل نفس التوجه العلماني لتلك الجمهورية، ولكنه يريد نوعًا من حرية التعبير.
أما الاستعانة بالأجانب، فقد ارتكنت دولة الضباط في بدايتها على الولايات المتحدة، وتعاونت معها في إسقاط بريطانيا في حرب السويس وتأميم القناة، ثم انقلبت للتحالف مع الاتحاد السوفييتي بدون قطيعة تامة مع أمريكا، ثم عادت مرة أخرى للتحالف مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي استغلته أمريكا في إبرام صفقة «كامب ديفيد» بين الكيان الصهيوني والدولة المصرية؛ لكي تخرج الدولة المصرية من قيادة الصراع العربي مع دولة الكيان، مما أدّى إلى عزل مصر بعض الوقت عن محيطها العربي، ثم ما لبثت أن عادت الأجواء كما كانت، لتتسابق دول أخرى على التصالح مع الكيان الصهيوني، على حساب القضية الفلسطينية وتهويد فلسطين.
تلخَّصت «كامب ديفيد»، في قبول الكيان بالانسحاب من سيناء لتكون معظمها منزوعة السلاح، وفي نفس الوقت لضمان استمرار تلك الصفقة، قبلت الدولة المصرية بوضع الجيش تسليحًا وضباطًا تحت الرقابة الأمريكية، سواء بمنحة سنوية يتم إنفاق معظمها في شراء السلاح الأمريكي، أو بإرسال الضباط المصريين في دورات سنوية يتم فيها تلقينهم عسكريًّا وفكريًّا.
وكذلك تميزت جمهورية الضباط، بالمشروعات الضخمة العملاقة، وتشييد القصور، وغيرها من المشروعات الحضارية، والتي اختلف الخبراء في تقييمها وجدواها، ولكنهم اتفقوا على أنها استنزفت ميزانية الدولة المصرية وحوَّلتها مرة أخرى لدولة مَدِينَة بأموال طائلة، ومعها ازداد الشعب فقرًا.
غزة والدولة المصرية
تمثل غزة لمصر بوابتها الشرقية، وعلى مر العصور كان الأمن القومي لأيّ جهة تحكم مصر يقتضي تأمين حدَّيْن على الأقل من حدود مصر الجغرافية؛ شرقها وجنوبها. أما شمال مصر فيوجد البحر الأبيض، وهو مانع طبيعي لأيّ غزو أو تهديد، ومن جهة الغرب تمثل الصحراء الكبرى حاجزًا طبيعيًّا أمام أيّ خطر أو تهديد.
ولذلك، يلزم لمن يحكم مصر أن يقوم بتأمين جنوب البلاد الذي يكتسب أهميته من وجود منابع النيل شريان الحياة الأساسي.
ويتبقى شرق البلاد؛ حيث تقبع أرض الشام الكبرى ممثلة في سوريا والأردن ولبنان وفلسطين.
وبالإضافة إلى ذلك تكتسب غزة أهمية مضاعَفة لمصر، في أنها كانت تحت الإدارة المصرية لمدة تقارب العشرين عامًا منذ بدء حرب 1948م، وحتى الاحتلال الصهيوني في حرب يونيو 1967م.
وكثيرون من أهل غزة ارتبطوا بمصر خاصة بجامعاتها وبالعمل والزواج، فاقترب التشابه في العادات واللهجة بين المصريين وأهل غزة.
كما تتوزع القبائل بين سيناء وغزة، حتى إن مدينة رفح مقسومة إلى شطرين؛ رفح الفلسطينية ورفح المصرية، حيث يوجد الأشقاء وأولاد العم على طرفَي خط الحدود.
فالارتباط بين مصر وغزة ليس ارتباطًا فقط يتعلق بالأمن القومي المصري، بل هو ارتباط ديني اجتماعي قَبَلي، وأيضًا عاطفي، ولذلك تجد المصريين هم الأكثر حزنًا وألمًا، وهم عاجزون عن نُصرة أشقائهم في غزة وإنقاذهم من الإبادة والجوع، وهذا بلا شك ينعكس بطريقة ما على سياسات الإدارة المصرية مع غزة؛ بالرغم من أن لها حسابات أخرى أشمل وأكبر.
فما هي تلك الحسابات؟
ترتبط تلك الحسابات بعدة عوامل؛ منها: ميزان القوة العسكرية بين الجيش المصري وبين الكيان الصهيوني وداعميه، ومنها الضغوط الأمريكية.
أولًا: ميزان القوة العسكرية
وفقًا لأحدث تقرير «غلوبال فاير باور» لعام 2025م (أحد أشهر المواقع العالمية في تصنيف القوى العسكرية في العالم)؛ يحتل الجيش المصري المرتبة 19 عالميًّا، بينما يأتي جيش الكيان الصهيوني في المركز 15. وتعتمد هذه التصنيفات على عدد القوات والأسلحة والتكنولوجيا والقدرات اللوجستية لكل جيش.
والأخطر أن «إسرائيل» تُعدّ خامس قوة نووية في العالم؛ حيث تمتلك رؤوسًا نووية قادرة على الوصول إلى مدى 1.500 كيلو متر عبر صواريخ أريحا، إلى جانب القدرة على حمل القنابل النووية جوًّا، رغم أنها لا تعترف رسميًّا بامتلاك هذه الأسلحة.
وبالرغم من أن ميزان القوى يميل لصالح جيش الكيان الصهيوني؛ إلا أنه في الأشهر الأخير دأب المسؤولون الصهاينة على التحذير من التسلُّح المصري؛ فقبل انتهاء خدمته في الجيش الصهيوني، عبّر «هرتسي هاليفي»، رئيس الأركان، عن مخاوف الكيان الصهيوني بشأن ما وصفه بـتهديد أمني محتمَل من مصر، مشيرًا إلى أن التطورات العسكرية في المنطقة، لا سيما التسلح المصري، تثير قلق إسرائيل. ورغم تأكيده أن مصر لا تُشكِّل تهديدًا مباشرًا في الوقت الحالي، إلا أنه لم يَستبعد تغيُّر هذا الوضع في المستقبل.
وقبله في شهر يناير الماضي، أعرب «داني دانون»، المندوب الإسرائيلي الدائم لدى الأمم المتحدة، عن قلقه من حجم التسلح المصري، متسائلًا عن سبب امتلاك مصر لهذا العدد الكبير من الغواصات والدبابات.
ربما يكون سبب التحذيرات الصهيونية، انشغال الجيش الصهيوني في معارك في عدة جبهات، ولا يريدون فتح جبهة أخرى، فيكون استخدام التلميح، أو أن يكون الكيان يستعد بالفعل لحرب على الجيش المصري لإخراجه من سيناء تمهيدًا لسيناريو التهجير، أو أن هناك معلومات تتعلق بحصول تسليح نوعي للقوات المصرية يُخِلّ بموازين القوة.
فقد نشر «منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي» (وهو مركز بحثي يَعتبره البعض مجلسًا موازيًا في الشؤون الدفاعية والعسكرية في «إسرائيل»، ويقدم خبرات ونصائح العسكريين السابقين للحكومة والجيش)، تقريرًا يتحدث بالتفصيل عن أزمة توازن القوى الإقليمية الذي أخلّت به كل من تركيا وإيران ومصر، عندما تسلّحت هذه الدول بسلاح نووي -كما يزعم التقرير-، وباتت جيوش هذه الدول تُهدِّد «إسرائيل».
ويشرح التقرير كيف حصلت مصر على قدرات عسكرية نووية، وأن هناك معلومات عن تعاون مصري نووي مع كوريا الشمالية وباكستان والصين، وتم نقل تلك المعلومات إلى أمريكا التي طلبت من مصر الكشف عن طبيعة العلاقات العسكرية بين مصر وكلّ من كوريا الشمالية والصين.
ويزعم التقرير أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صنَع فخًّا للإطاحة برئيس وزراء «إسرائيل» بنيامين نتنياهو عن طريق التدبير لإخفاق كبير حقَّقه نتنياهو في غزة.
ولكن التقرير يقول: «إن مجرد الصدام مع مصر في الوقت الحالي ليس خيارًا صائبًا، وأنه ينبغي مهادنة مصر ولو مؤقتًا، فـ«إسرائيل» -كما يقول التقرير- تحتاج لإعادة بناء الجيش من جديد».
وتدّعي مصادر صحفية أن بنيامين نتنياهو انتقد توصيات هذا التقرير؛ لأنه يرى أن الحل لعودة الهيمنة الصهيونية، وتوحيد الداخل في دولة الكيان المنقسم مرة أخرى، يمكن أن يتحقق عبر توحيد الصهاينة حول هدف مشترك هو الصدام مع مصر، وهذا ما أكَّدت عليه صحيفة «إسرائيل هيوم» في تقريرٍ نشرته نقلًا عن المنافسين السياسيين لنتنياهو من داخل الكنيست.
ثانيًا: الضغط الأمريكي
في بداية وصول ترامب إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، طرح خطة نقل سكان غزة إلى مصر، وإقامة منتجع سياحي أمريكي هناك، وعندما رفضت مصر هذا الطرح؛ طلب ترامب من السيسي لقاءه في واشنطن، ورفض السيسي الذهاب؛ حتى لا يتكرر سيناريو إهانة ملك الأردن. بعدها ارتفعت وتيرة تهديدات ترامب بقطع المعونة العسكرية السنوية لمصر، ثم ما لبث أن تراجَع بعد أن ذكَّره مستشاروه أن المعونة مصلحة أمريكية صهيونية أكثر من كونها مصلحة مصرية.
وعاد ليرفع وتيرة ضغوطاته بطلبه أن لا يدفع الأسطول الأمريكي رسوم عبور قناة السويس، باعتبار أن الولايات المتحدة قد ساهمت في حفرها. وهي معلومة مغلوطة.
كما تبنَّت الولايات المتحدة مطالب دولة الكيان الصهيوني تجاه الجيش المصري، بتفكيك كافة قواعده العسكرية والمطارات والبنية العسكرية الكاملة الموجودة في سيناء، وقبل كل هذا يتم الانسحاب الكامل للجيش المصري من المنطقة (ج)، والالتزام بالملحق الأمني والعسكري في اتفاقية كامب ديفيد.
كما تجاهل ترامب دعوة السيسي إلى اجتماع قادة دول الخليج بالرياض الشهر الماضي، عكس ما حدث في القمة المشابهة عام 2017م خلال ولاية ترامب الأولى.
ويتضح أن رؤية ترامب تجاه مصر، باتت تدور حول استبعاد مصر من ملف غزة، واستكمال الدور الذي بدأه الكيان عندما احتل محور فيلاديلفيا ليعزل مصر عمليًّا عن غزة؛ لأن التحكّم في مصير غزة يقتضي إبعاد مصر عن هذا الملف بالكامل.
التعامل المصري مع الأزمة
ولكن ماذا فعلت مصر لمواجهة تهديدات كلٍّ من دولة الكيان وأمريكا؟
فكما تحتاج غزة إلى مصر، فإن رأس الحكم في مصر بات يَعرف أن مصيره أصبح مرتبطًا باستمرار المقاومة الفلسطينية، وإفشال مخططات التهجير، لذلك عنون أحد كبار الصحفيين المصريين المستقلين مقاله بـ(هل قرأ ترامب فاتحة السيسي؟).
لذلك يبدو أن الدولة المصرية تنظر بجدية إلى سيناريو التهجير الصهيوني، ولا تستبعد احتمال أن خطة عربات جدعون، والتي نشرها الكيان سيجري تطبيقها فعليًّا، وأنها ليست جزءًا من الحرب النفسية على حماس لدفعها إلى الاستسلام.
ومن استقراء الواقع نجد أن الحكومة المصرية تحرَّكت في عدة اتجاهات:
عسكريًّا: استخدام إستراتيجية الردع لنزع الفكرة التي قد تتولد لدى قادة الكيان أو أمريكا بعمل سيناريو مثل سيناريو 1967م، وإضعاف قدرات الجيش المصري بعملية خاطفة.
وتقوم إستراتيجية الردع المصرية على شراء أسلحة صينية وروسية، وإجراء مناورات مع الجيش الصيني ومع تركيا، وقيام رئيس أركان الجيش المصري بزيارة تركيا؛ في إشارة إلى الاستعانة بالقدرات العسكرية التركية في أيّ مواجهة محتملة.
وكشف موقع «نزيف. نت» الصهيوني تقريرًا صادرًا عن الجيش الصهيوني يذكر فيه، أنه في أثناء مناورات الجيش المصري مع نظيره الصيني، وكجزء من المناورة قامت أجهزة تشويش مصرية بتعطيل رادارات «إسرائيل» لمدة ربع ساعة أو أكثر، وخلال هذه الفترة تمكَّن الطيران المصري من اختراق الأجواء الإسرائيلية، فدَخَل وخرج تحت نظر أبراج المراقبة الإسرائيلية، ولم تستطع الدفاعات الجوية «الإسرائيلية» ومنظوماته الجيش المنتشرة في جنوب «إسرائيل» التحرُّك فضلاً عن رصد الهدف.
وبحسب التقرير، فإن هناك مصدرين للتشويش؛ قدرات مصرية على الأرض، وقدرات أخرى في الفضاء، ويكشف التقرير عن أن مصر لديها أكثر من قمر صناعي عسكري تم إطلاقهم مؤخرًا في حدود ثلاثة أو أربعة أقمار صناعية.
وبحسب التقرير، فإن هذه الأقمار متطورة وقادرة على التشويش على إشارات الأقمار الصناعية والرادارات «الإسرائيلية». ويفصِّل التقرير، عن أن الجيش المصري لديه شركة تقوم بإنتاج وتصنيع وإطلاق الأقمار الصناعية، وهذه الشركة تتعاون في هذا المجال مع الصين بشكلٍ قويّ، وهذا غير أجهزة التشويش الأرضية التي اشتراها الجيش المصري من الصين؛ كما يزعم التقرير.
لقد أثبتت ضربات باكستان الناجحة ضد الهند مؤخرًا، أن النصر في الحروب الحديثة بات لا يعتمد على كمية السلاح ونوعه، فكما يقول الملحق العسكري الباكستاني في الصين: «كلمة السر هي العمل بأحدث أساليب الحرب الحديثة، وهي «العمليات متعددة المجالات»، التي تشترك فيها المجالات العملياتية الخمسة؛ وهي «الجوي، والبحري، والبري، والفضاء، والفضاء الإلكتروني، متضمنًا الحرب الإلكترونية ومشتملاتها».
ويعلق الخبير العسكري المصري اللواء سيد غنيم على تلك التصريحات قائلًا: «لقد ولَّى عهد القتال المنفرد والاعتماد فقط على كفاءة السلاح أو الفرد المقاتل بشكل منفرد، نحن الآن في عصر العمل الجماعي والقتال المشترك الذي يُحقّق النصر بشلّ العدو بشكلٍ تامّ، بكافة مجالات العمليات مجتمعةً، وليس المراهنة على ضعفه. بل الاعتماد على وسائل استخبارات متقدّمة وجهازية لكل الظروف، والعمل بآليات قيادة وسيطرة مستقرة ومنضبطة ذات كفاءة عالية تُحقّق التواصل الدائم بين القوات والمرونة في القتال، والعمل كجسم واحد».
أما على الصعيد السياسي؛ فإن النظام المصري يمارس سياسة ذات وجهين؛ محاولة تخفيف الضغط الأمريكي عليه، باستمراره في غلق معبر رفح، رغم أنه من الناحية العملية لم يَعُد له فائدة، بعد احتلال جيش الكيان ممر فيلاديلفيا.
كما يحاول المسؤولون المصريون استرضاء أمريكا، بالصمت الرسمي المصري تجاه المطلب الأمريكي بإعفائها سفنها من رسوم المرور في القناة، كما أرسلت الحكومة وفدًا مصريًّا على مستوى عالٍ إلى الرياض قبل أسبوع من زيارة ترامب للمملكة، للتفاوض على المطالب الأمريكية من المصريين، وتوسيط الرياض في التخفيف من الضغوط الأمريكية على القاهرة.
بل هناك ما هو أكثر، وهو تصريح الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، بأن الهيئة تبحث تخفيض رسوم عبور القناة لبعض الشركات بنسبة 15%، وأنه سيتم الإعلان عن هذا القرار خلال الأيام المقبلة، بعد تصديق رئيس الجمهورية.
أما الوجه الثاني للسياسة المصرية، فيتمثل في استمرار رهانها على صمود غزة والمقاومة الفلسطينية، ولا يزال السلاح يتدفق عبر الأنفاق، كما يؤكد كبار جنرالات الكيان السابقين، كما تؤكدها شواهد لا تخطئها العيون والعقول باستمرار المقاومة بعملياتها النوعية الناجحة، والتي تعني أن مخزون سلاحها يتجدَّد بالرغم من مرور أكثر من سنة ونصف في قتالٍ ضارٍ، وأشار أحد الإعلاميين المقربين من النظام المصري إلى زيارة وفد قطري للقاهرة، وعقد صفقة عسكرية لدعم الجيش المصري، ومما يدعم تلك الرواية تزامن الزيارة المزعومة مع هجومٍ شنّه رئيس وزراء دولة الكيان «نتنياهو» على الدور القَطري في المنطقة.
بل توجد مؤشرات ومعلومات على أنه تم إدخال قوافل إنسانية محدودة عبر تلك الأنفاق في الأيام الأخيرة.
ولكن هل تنجح تلك السياسة المصرية المزدوجة وتُحقّق أهدافها؟
هذا ما سوف تكشف عنه الأيام القادمة.