• - الموافق2025/05/30م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
محاولة لدَفْع السودان  إلى سيناريو ليبيا!

ولقد استهدفت الضربات شَغْل الجيش السوداني عن مواصلة التقدم الجاري في كردفان وصولًا إلى دارفور. وطرحت تحديات مستجدة على تسليح الجيش في ظل هذا الظرف العربي والدولي بالغ التعقيد.

 

شهد السودان في الأيام الأخيرة تطوُّرات نوعية في المعارك العسكرية، طرحت تساؤلات جدية حول حدوث تغيير في اتجاه مسار الحرب، وحول ما إذا كان هذا التغيير سيحكم الصراع في المرحلة الحالية، ويُحدّد ملامح مستقبل الأوضاع في السودان، أم أن هذا التغيير هو مجرد حالة مؤقتة، سرعان ما سيجري تجاوزها والعودة إلى المسار الذي كان جاريًا قبلها.

كان الجيش السوداني قد حقَّق انتصارات كبرى على ميليشيا الدعم السريع؛ إذ تمكَّن من إنهاء وجود تلك الميليشيات في كل مكونات العاصمة الخرطوم، مُحرِّرًا كل المواقع السيادية، بما فيها القصر الجمهوري، ومطار الخرطوم، والمقارّ الحكومية السيادية، وجهاز المخابرات، وسلاح الإشارة، وغيرها.

وجميعها كانت مُحاصَرة أو محتلَّة مِن قِبَل الدعم السريع. وجاءت تلك الانتصارات استطرادًا وتطويرًا لانتصارات كان الجيش قد حقَّقها بعد تحوُّله من الدفاع إلى الهجوم؛ إذ جرى تحرير مدن وولايات عدة، من أهمها: ولاية الجزيرة وود مدني، وغيرها، كما جرى فكّ الحصار عن مدينة الأبيض، وجرى تحرير مناطق مُهمَّة في كردفان، وفي شمال ولاية دارفور عند مثلث الحدود الليبية التي يُنظَر إليها باعتبارها ممرًّا لوصول السلاح لميليشيات الدعم السريع.

وقد ساد اعتقاد بعد كل تلك الانتصارات بأن الجيش السوداني بات على طريق تحقيق انتصار حاسم في الحرب والقضاء على تلك الميليشيات؛ إذ لم تقتصر نتائج الانتصارات على تحرير ولايات ومدن، والسيطرة على طرق إستراتيجية؛ بل استطاع الجيش تعزيز قواته، وتمكَّن من تحسين أوضاعه العسكرية بعد فك الحصار عن معسكرات ومطارات كانت واقعة تحت حصار أو سيطرة قوات التمرُّد منذ وقوع الانقلاب في أبريل عام 2023م.

وكان للمجموعات الشعبية المسلحة التي عملت ظهيرًا لحركة الجيش دور بارز؛ باعتبارها أخف في حركتها وتسليحها وقتالها، وكذا باعتبارها نمطًا من التضامن والتعاضد المجتمعي مع الجيش في مواجهة ميليشيا الدعم السريع.

وفقًا لتلك الانتصارات المتواصلة واستنادًا إليها؛ اندفع الحكم في السودان نحو تعزيز وتشديد الخطاب الرسمي؛ إذ بات يؤكّد على أن الحرب لن تتوقف إلا بالقضاء على تلك الميليشيا، ويُشدّد على عدم التفاوض معها.

ووصل الحكم حدّ الاتهام المباشر لبعض الأطراف الخارجية بتقديم دعم عسكري ومالي وسياسي لتلك الميليشيا، والدخول في مواجهات سياسية ودبلوماسية وإعلامية علنية معها.

ووسط تلك التطورات والانتصارات التي توالت باطّراد؛ فوجئ المتابعون -ويبدو الحكم في السودان أيضًا-، بحملة واسعة ومستمرة ومتصاعدة من القصف بالطيران المُسيَّر قامت بها ميليشيات الدعم السريع.

بدأت بقصف القصر الجمهوري الذي كان قد تم تحريره من قبل، وتواصلت وباتت أخطر باتجاه العاصمة المؤقتة بورتسودان لتصيب مؤسسات ومراكز مدنية وعسكرية. وتحوَّلت لتصبح حملة تشمل معظم الولايات والمدن التي يسيطر عليها الجيش.

كما شهدت إحدى مدن ولاية شمال كردفان (النهود) هجومًا وسيطرة مِن قِبَل الدعم السريع أيضًا. وهي تطورات عسكرية جاءت عقب تطوُّر سياسي هجومي مِن قِبَل الميليشيا المتمردة أيضًا؛ تمثَّل في الإعلان عن توافق واتفاق تم في العاصمة الكينية نيروبي بين تلك الميليشيا وميليشيات متمردة أخرى، على تشكيل وإعلان حكومة موازية للحكومة القائمة في السودان، يكون مقرها الجغرافيا التي تسيطر عليها ميليشيات الدعم السريع على الأرض السودانية.

وهكذا بدا أن الانتصارات التي حققها الجيش لم تُغيِّر التوازن الكلي في الحرب، وأن ميليشيا الدعم السريع عادت لدورها العسكري -الذي كان قد تراجَع- وبشكل مؤثر، وظهر كأن الجيش السوداني ليس بقادر على تحقيق نصر نهائي عليها.

ما قبل الاعتداءات على بورتسودان

كانت الانتصارات التي حقَّقها الجيش السوداني متتالية، وبدا خلالها أن الجيش والقوات الشعبية -الحركات- التي تُقاتل إلى جانبه، باتوا يمتلكون خطة إستراتيجية ومُقدّرات حقيقية لحسم الحرب، وأن تحقيق النصر النهائي للجيش بات مسألة وقت. وإذا كان الجيش السوداني قد استمر لفترة طويلة في حالة الدفاع؛ فقد جاءت تلك الانتصارات ببريق وتأثير عالٍ، وهي انتصارات أظهرت أن الجيش أعدَّ خططه على نحو دقيق عسكريًّا، وبشكل احترافي، قبل التحوُّل إلى الهجوم.

لقد بدأ الجيش معاركه الهجومية بحركة إستراتيجية تَمكَّن من خلالها من فصل قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة إلى قسمين؛ أحدهما في مدينة مدني، والثانية في جنوب الخرطوم، وتحوَّل الجيش بعد ذلك إلى تحرير «ود مدني» التي أصبحت قوات الدعم فيها في موضع الحصار والعزلة، وتقدم بعدها ليحاصر قوات التمرُّد في قطاعات جغرافية بات يعزلها عن بعضها البعض -في العاصمة الخرطوم-، ليقضي عليها مجموعة تلو الأخرى.

وقد شهدت تلك المعارك مشاهد مستجدة في الحرب؛ إذ باتت مجموعات واسعة من الميليشيات تهرب في اتجاهات متفرقة دون انسحابات منظمة. وقد تزامنت المعارك في الجزيرة والخرطوم مع بدء تحرك الجيش باتجاه تحرير مدن في ولايات كردفان الثلاث؛ باعتبارها مناطق حاكمة في الجغرافيا السودانية؛ إذ إن السيطرة عليها يفتح الطريق للتوجُّه إلى دارفور لحسم المعركة إستراتيجيًّا هناك.

لقد تحرَّك الجيش باتجاه ولايات كردفان لاستعادة المناطق التي تتمركز فيها الحاضنة الاجتماعية لميليشيا الدعم السريع؛ إذ توجد قبائل المسيرية الداعمة للتمرد بكثافة هناك، وعلى نحو أكبر حتى من وجودها في دارفور. وكذلك لإنهاء التحالف الذي جرى بين ميليشيا الدعم السريع والمجموعات العسكرية لعبدالعزيز الحلو الموجودة في جنوب كردفان، والتي مثَّل وجودها ودورها رديفًا للدور العسكري والسياسي لميليشيا الدعم السريع.

وكان بارزًا أن تحققت نتائج سياسية ومجتمعية بعد انتصارات الجيش، زادت من قوة الدفع لتحقيق انتصار نهائي؛ فقد تحققت حالة حقيقية من الشعور بالأمن المجتمعي نتيجة استعادة ثقة المواطنين في النصر، وهو ما بدا جليًّا في بدء عودة المهاجرين واللاجئين بأعداد كبيرة إلى بلدهم وإلى مناطق سكناهم.

لقد عاد المُهجّرون إلى مدينة «ود مدني» وسط احتفالات شعبية واسعة. كما بدأت عودة المهاجرين السودانيين من مصر بأعداد كبيرة؛ خاصةً بعد استمرار تحقيق الجيش للانتصارات في الخرطوم والجزيرة وأم درمان والأبيض، وقيامه بتوجيه الضربات الجوية على تجمعات الميليشيات في مختلف أنحاء السودان، خاصةً في دارفور؛ حتى سرى شعور بالهزيمة بين أفراد الميليشيات وحاضنتها المجتمعية، وهو ما ظهر جليًّا في الفرار الجماعي خلال المعارك وفي انسلاخ مجموعات وقيادات عن الميليشيا والانضمام لقوات الجيش.

وقد استندت قيادة الدولة السودانية -ممثلة في مجلس السيادة برئاسة الفريق البرهان-، لتلك الانتصارات، فبدأت تحركات متسارعة باتجاه دول الخارج شملت مصر والمملكة العربية السعودية و5 من الدول الإفريقية؛ لتأكيد شرعية الحكم القائم، وإضعاف ما تحقق للميليشيا خلال الفترة السابقة من نفوذ ودور لدى أطراف خارجية.

لقد منحت تلك الانتصارات الحكم والدولة مساحة سياسية واسعة للحركة في الخارج، والتشدد في الموقف من ميليشيا الدعم السريع، وسمحت أيضًا بتركيز الهجوم السياسي للدولة السودانية على الأطراف الخارجية الداعمة للميليشيات، وقد مثَّل بيان الخارجية السودانية بشأن دور كينيا في الحرب مثالًا حيًّا على ذلك؛ إذ اتهمت الخارجية السودانية الرئاسة الكينية باحتضان وتشجيع مؤامرة تأسيس حكومة لميليشيا ترتكب الإبادة الجماعية.

نقلة خَطِرة في الحرب

ووسط تلك الأجواء -وعلى النقيض منها- شهدت الحرب انتقالةً خَطِرة وتحوُّلًا في اتجاه مسارها؛ إذ بدأت ميليشيات الدعم السريع استخدام طائرات مُسيَّرة ذات مدى يصل إلى نحو ألفي كيلو متر؛ بما مكَّنها من قصف بورتسودان وكسلا وعطبرة ومروي والخرطوم، وغيرها. وقد تركز القصف على المرافق والمُقدَّرات الحيوية من مطارات ومستودعات تخزين النفط ومحطات توليد الكهرباء. وأدَّى لاشتعال حرائق استمرت عدة أيام، ونتج عنها قطع للكهرباء في بورتسودان ومناطق في الخرطوم وأم درمان وبحري.

مثَّل هذا التغيير إعلانًا بأن ميليشيات الدعم السريع ما تزال قوية، ولديها خيارات متعددة، وأنها قادرة على هزّ استقرار الحكم في السودان حتى بعد السيطرة على العاصمة ومقارّ الحكم، وأنه يكفي لتلك الميليشيات أن تسيطر على أيّ منطقة جغرافية في السودان لمنع استقرار المجتمع؛ عبر تدمير أكبر قَدْر من مُقدّرات الدولة على صعيد محطات الكهرباء والموانئ والمطارات، وأوصلت الميليشيا رسالة قوية للخارج بأنه لا يوجد حلّ عسكري في السودان.

ولقد استهدفت الضربات شَغْل الجيش السوداني عن مواصلة التقدم الجاري في كردفان وصولًا إلى دارفور. وطرحت تحديات مستجدة على تسليح الجيش في ظل هذا الظرف العربي والدولي بالغ التعقيد.

وقد استهدفت الضربات استعادة الزخم لمشروع الفيدرالية أو التقسيم بفعل ما بدا من حدوث حالة من التوازن بين الجيش والدعم السريع، وجوهرها إظهار استحالة تحقيق النصر العسكري؛ بما يدفع الدول صاحبة المصلحة في الفيدرالية أو التقسيم أو حتى إشراك الدعم السريع في الحكم للضغط على الحكم للقبول بالمفاوضات. واستهدف القصف ممارسة حرب نفسية تمنع الشعور المتنامي بالأمن المجتمعي تحت سيطرة الجيش ووقف عودة المهاجرين من الخارج.

سيناريو التوازن والتقسيم

طرحت تلك التطورات أسئلة حرجة، يمكن وصفها بأنها أسئلة ذات طابع إستراتيجي، فقد صار الحكم والدولة في السودان أمام مفترق طرق؛ إما أن يُواصل الحرب، وهو ما يتطلب سرعة الحصول على وسائل قتالية تُمكِّن الجيش من تحييد خطر تدمير مرافق الدولة بما يضيف أعباء مالية ضخمة لإعادة إعمار المنشآت المُدمَّرة.

وإما أن يعود إلى فكرة التفاوض مع ميليشيات الدعم السريع وحلفائها لدَرْء هذا الخطر. وهنا لاحت في الأفق الحالة الليبية أو السيناريو الليبي؛ إذ تُوجد سُلطتان وحكومتان وجيشان على الجغرافيا الليبية، وبينهما وقف إطلاق النار، لا شك أنه سينتهي بالبلاد إلى التقسيم أو إلى خوض معارك وحرب جديدة لا تنتهي إلا بسقوط أحد الطرفين.

والبديهي حتى الآن أن الدولة والجيش السوداني قَبِلا التحدي، وأن القرار الإستراتيجي هو مواصلة الحرب، وعدم السماح بحدوث حالة توازن وانقسام سياسي وجغرافي وحكومي على الأرض السودانية.

ويبدو أن الفكرة الإستراتيجية لدى الدولة والجيش السوداني تقوم على ضرورة احتمال نتائج تلك الضربات، والعمل على امتلاك أسلحة مضادة للمُسيَّرات بأسرع وقت والاستمرار في خطة تحرير الأرض؛ إذ لم يبقَ للجيش الكثير حتى الانتهاء من الزحف البري باتجاه دارفور. كما يبدو أن الجيش يعتمد في هذا التقدير على أن كلّ المواجهات البرية التي جرت بين الجيش وميليشيات الدعم السريع انتهت لمصلحة الجيش.

وأن المعركة الجارية والمستقبلية لم تَعُد بها تعقيدات كتلك التي واجهها الجيش في الخرطوم المليئة بالمباني والمؤسسات المدنية.

ويمكن القول بأن الدولة والجيش السوداني يراهنان أيضًا على النتائج السلبية الخَطِرة التي لحقت بسُمْعة الميليشيات؛ سواء بسبب ما كُشِفَ الستار عنه من جرائم سَلْب ونَهْب قامت بها خلال احتلالها للخرطوم وأم درمان وبحري ومدني، وغيرها، أو بسبب ظهور الدعم السريع الآن كقوة تدمير للمقدرات التي تخدم المواطنين من طاقة ومياه وموانئ ومطارات بقصد التدمير.

والمتابع لمجريات المعارك يجد أن الجيش السوداني لم تتأثر خططه الإستراتيجية، وهو يتابع انتصاراته؛ فقد شهدت الأيام الأخيرة تأكيدات على ذلك؛ فالجيش يواصل تقدُّمه في منطقة صالحة جنوب الخرطوم، ويكاد يُنهي السيطرة الكاملة للميليشيا على كل جغرافيا أم درمان.

وإذ استهدفت الميليشيا قَطْع الطريق على حركة الجيش للسيطرة الكاملة على ولايات كردفان للوصول إلى دارفور عبر السيطرة على مدينة النهود؛ فقد تمكَّنت قوات الجيش من السيطرة مجددًا على منطقة الخوي لتأمين الأبيض، وللوصول مجددًا إلى النهود التي تقع على الخط الرابط بين شمال كردفان ودارفور، والجيش يُواصل تقدّمه في جنوب كردفان لإنهاء التحام قوات الدعم مع ميليشيا عبدالعزيز الحلو.

 

أعلى