الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيِّنا مُحمَّد وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، وبعدُ:
مهما طال الزمن فإن الأفراد والأمم مُتعلّقة بأملِ تَحقُّق أمانيها التي تتفاوت كثيرًا؛ فالمتغلِّب حريص على بقاء علوّه وسيطرته، والمُستضعَف يسعى لبلوغ مُنَاه بالتمكين والخروج من تَبِعات الاستضعاف.
وهذا هو الذي أدَّى إلى أزليَّة تبدُّل الأحوال؛ كما في قول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: ١٤٠].
وهي رسالة ربانية لكل زعيم سياسي، أو عالِم رباني، أو حتى فرد من عوام الناس؛ أن التغيُّر سُنّة، وأن الفوز الحقيقي هو تحقيق مراد الله الذي حضَّنا على لزوم المنهج حتى نهاية الطريق؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]؛ وقال -سبحانه-: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
فما أكثر مَن يُفرِّطون في النهايات! فكم مِن مُنتصِر في ميادين الحرب تكون هزيمته في دهاليز السياسة والمساومات! وكما أنّ عدوّنا لا ييأس، فما أحرانا ألَّا نطمئن ونركن حتى الوصول النهائي للغايات الشريفة.
ونستشهد هنا بما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد عنه وهو يحتضر فكان يُغمَّى عليه، حتى يظنون أن قد قَضَى، ثم يُفيق، ويقول بيده هكذا: لا! بَعْدُ، لا! بَعْدُ، لا! بَعْدُ، ثلاث مرات. فلما أفاق سألوه عن ذلك؟ فأجاب: «إنّ إبليس بجانبه يعضّ أنامله، ويقول: فُتَّنِي يا أحمد. فأقول: لا بعدُ، حتى أموت». [طبقات الحنابلة 1/175، وحلية الأولياء 9/ 183، وصفة الصفوة 1/ 488، والبداية والنهاية: 14/ 422].
وفي أمالي القالي (1/ 113):
دَبَبْتَ للمجد والساعون قد بلغوا
جَهْدَ النفوس وألقوا دونه الأُزُرا
وكابدوا المجدَ حتى مَلَّ أكثرهم
وعانَق المجدَ مَن أوفى ومَن صبرا
لا تحسب المجدَ تمرًا أنت آكِلُه
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرَا
والشاهد هنا أنّ كلّ مَن انتصر في مرحلةٍ فلا يغترّ بإطراء الأعداء، ولا بمديح الأصفياء؛ فالعبرة بالخواتيم النهائية وليس بالأحوال المرحلية.
نسأل الله للجميع الثبات والتسديد.