الهوية الحقيقية للأمة تنبثق من إرثها الديني والحضاري وذاكرتها الجمعية، بينما الهويات المصطنعة سياسياً وثقافياً زائلة وتُبنى على الطمس وإعادة التشكيل لخدمة مصالح ضيقة، فالوعي بهذه العملية خطوة أساسية لاستعادة هوية الأمة الأصيلة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد:
من أوائل الأسئلة التي يسعى الإنسان للإجابة عنها، وتتدرج في مراحلها مع تعدُّد
الأدوار التي يقوم بها؛ هو سؤال الذات في مضمونها الصغير الفردي إلى معناها الكبير
الذي يسعى للاتصال بكيان أكبر، وهو الأُمّة.
والأمة ككيان كبير وشامل تتعدّد أوجه تعريفه من الأفكار إلى الأشخاص والرموز إلى
الحدود والأوطان، هذا التصوُّر المُتخيَّل يصعب على الفرد أن يُحيط به إلا أنه
يتسرّب إلى داخله من خلال البيئة والثقافة والإعلام والتعليم.
الهويات الكبرى مهما بدت صلبة ومتماسكة، ليست عملية تلقائية، بل هي -كما بيّن
«بندكت
أندرسون»
في نظريته حول الجماعات المتخيَّلة-، نتاج عمليات تخييلية تنتج رابطة بين أفرادٍ لا
يعرف أحدهم الآخر معرفة مباشرة. إنهم لا يلتقون في ساحة واحدة، ومع ذلك يشعرون
بانتماءٍ عميق إلى شيء اسمه الأُمَّة.
ومع أن كلمة
«جماعات
مُتخيَّلة»
قد تُوحي للبعض بأنّ الأمر مَحْض وَهْم أو خيال كاذب؛ فإن أندرسون كان يقصد قدرة
الإنسان على نَسْج وَعْي جمعي عبر وسائط رمزية: اللغة، النصوص، الصحافة، التعليم،
التاريخ المشترك، والعقيدة المُوحَّدة. هو تخيُّلٌ لا لنفي الحقيقة، بل لصناعة
الحقيقة: حقيقة الانتماء.
وهذه القدرة على صناعة الوعي الجمعي هي التي جعلت من مفهوم الأُمَّة -مهما اختلفت
تعريفاته- كيانًا قابلاً للإنشاء والهدم وإعادة التشكيل.
ما أراده
«بندكت
أندرسون»
هو أنه ما دامت الأمة، كمفهوم صناعة متخيّلة، فثمة قدرة على تعديلها أو تغييرها عبر
عدد من الآليات والأساليب.
من هنا، لم تكن القومية العربية مجرد حركة فكرية معزولة، بل كانت أولى المحاولات
الكبرى لفصل هويةٍ ناشئة عن هويةٍ أعمّ:
«الأمة
الإسلامية».
بدأ مشروع الأُمَّة العربية بهدف صناعة رواية تاريخية جديدة، تبتعد عن الانتماء
الإسلامي الجامع الذي ظلّ قرونًا طويلة يربط بين شعوبٍ تمتدّ من المغرب إلى الهند.
تمحورت هذه السردية الجديدة حول رموز وأشخاص مُحدّدين، وضُيِّقت ضمن إطار قومي
ضيّق، فبدلاً من أن تُعزّز الصلابة والوحدة، أدَّت إلى المزيد من التفكك والانفصال
عن الرابطة الإسلامية الكونية. فالأمة ليست مشروعًا قابلًا لإعادة التعريف، بل هو
أصل ثابت في الدين؛ {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
ومع مرور الوقت، لم تتوقف عملية تجزئة الهوية عند هذا الحد، بل ظهرت هويات محلية
أضيق نطاقًا من الهوية العربية نفسها، مثل القومية الفرعونية في مصر، والفينيقية في
الشام، والبربرية في شمال إفريقيا، والنوبية في الجنوب... كلّ واحدة من هذه الهويات
الفرعية رُوِّج لها تحت عناوين
«الخصوصية»،
و«العمق
التاريخي»؛
مما أدّى إلى تمزق الهوية الشاملة إلى وحدات أصغر وأكثر تباعدًا، لتتعدد السرديات
وتدخل في منافسة وتنازع داخل سوق سياسي وثقافي شديد التداخل والتأثير. فلم يكن
التفرُّق قدَرًا بريئًا، بل مخالفة لمقصد الشريعة؛ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].
لم يكن ذلك حراكًا ثقافيًّا محضًا؛ بل كان جزءًا من مشروع سياسي يَستخدم التاريخ
لتوليد ولاءات جديدة، ويُعيد توزيع الذاكرة بانتقاء شديد. فالهويات تُصنَع بوعي،
وتُشكَّل عبر أدوات.
التاريخ حين يُعاد تأويله، واللغة حين يُعاد توظيفها، والمتاحف حين تُصمَّم لتروي
قصة معينة، والعمران نفسه حين يحمل رموزًا ورسائل، كل ذلك يتحوَّل إلى أدوات في يد
السلطة: سلطة استعمارية تسعى إلى خلق هوية تناسب مشروعها، أو سلطة وطنية مستأنفة
تتبنَّى نفس الأساليب لإعادة إنتاج ولاءات جديدة.
وهذه القدرة على تشكيل وعي جماعي تعني بالضرورة قدرةً على تفكيكه وإعادة بنائه.
ولذلك تجيء الهوية دائمًا عُرْضة للاستغلال، يمكن للسلطة أن تنحت منها ما تشاء،
ويمكن للإعلام أن يُغذِّي منها ما يشاء، ويمكن للتعليم أن يُوجِّه مساراتها.
تلك الظواهر الهوياتية المُجَزَّأَة لم تكن نابعة في الحقيقة من حاجة المجتمع
الصافية، بل من مشاريع سياسية استغلت كلّ أدوات السيطرة لتثبيت نفوذها. هوية
تُصنَع، وأخرى تُطْمَس، وثالثة تُعاد هندستها. وهذا ما يُراد بأُمتنا أن تتصادم
بداخلها السرديات، وتتنافس الهويات في إطارٍ لا يخلو من التلاعُب والتوظيف.
إنّ أخطر ما في الهويات المصطنعة أنها لا تتعامل مع الحاضر وحده، بل تضع يدها على
الماضي والمستقبل معًا؛ مُحاوِلةً إعادة تشكيل الماضي لتمنح الشرعية للحاضر،
وتُصوِّر المستقبل باعتباره امتدادًا طبيعيًّا لمسار قومي أو حضاري صُنِعَ بعناية.
حينها لا يُصبح المجتمع مجرد مُتلقٍّ للهوية، بل أسيرًا داخل إطارٍ ضيِّق يَصْعُب
الفكاك منه.
فالاحتلال البريطاني والفرنسي خصوصًا؛ لم يكتفِ برسم الحدود على الخرائط، بل أعادوا
تشكيل التاريخ ذاته. وأنشأوا متاحف تُبرز جوانب مُعيَّنة وتُخفي أخرى، وأعادوا
كتابة الكتب المدرسية لتُؤكِّد على روايات محددة، وربُّوا أجيالًا ترى العالم من
خلال تلك الروايات.
في مصر، مثلاً، ركَّز البريطانيون على الماضي الفرعوني لخَلْق وَعْي قومي مستقلّ عن
الرابطة الإسلامية. وفي الجزائر ركَّز الفرنسيون على الأصول الأمازيغية لخَلْق
مسافات بين الشعب الواحد. وفي سوريا ولبنان، روَّج الفرنسيون لسردية الفينيقية
باعتبارها هوية أرقى من الانتماء العربي أو الإسلامي.
كانت هذه الإستراتيجيات جزءًا من سياسة
«فرِّق
تَسُد»،
لكنّها أخذت مع الزمن شكلًا فكريًّا وثقافيًّا راسخًا. ومع رحيل الاستعمار بقيت
أدواته فاعلة: التعليم، الإعلام، المتاحف، والخطابات الرسمية.
فالتعليم هو القوة الأكثر تأثيرًا. فالكتب المدرسية تُدْخِل إلى عقل الطفل سرديات
جاهزة: من نحن، وما تاريخنا، وما أهم رموزنا. هنا تبدأ عملية البرمجة الحقيقية. طفل
يتربَّى على سردية قومية مُعيَّنة سيكبر على أنها حقيقة، ثم يدافع عنها باعتبارها
جزءًا من ذاته. والحقيقة أنها -غالبًا- نتاج قرار سياسي في غرفة مغلقة قبل عشرات
السنين.
والإعلام بدوره يضخّ رموز الهوية عبر المسلسلات والأغاني والأخبار والتحليلات؛
يُقنع الناس بأن
«الهوية»
التي يُروّجها هي الأصل، وأنّ كلّ ما عداها دَخِيل أو رجعي أو غير حضاري. وهكذا يجد
الفرد نفسه بين مطرقة السلطة وسندان الثقافة، فيصبح الانتماء مُسلَّمًا لا يُسأل
عنه.
والمتاحف -وهي أداة مُجرَّبة-، ليست مجرد قاعات للعرض، بل مؤسسات تُنْتِج الوعي.
حين تُبْرِز دولة ما حقبةً بعينها وتُهمِّش أخرى، فهي تَرسم الوعي القومي. وحين
تَعرض تماثيل ملوك قدامى وتُخْفِي رموزًا دينية أو اجتماعية، فهي تُعيد إنتاج
المعنى. وحتى تخطيط المدن، ونمط العمارة، وشعارات الدولة، كلها عناصر تساهم في
صناعة الهوية.
لكنّ الهوية لا تُصنَع فقط بالترسيخ، بل أيضًا بالطمس. الهوية الإسلامية مثلاً
-بجذورها الحضارية والإنسانية العميقة-، تعرَّضت لعمليات طمس منهجي على مدار قرن.
تم تجزئة جغرافيتها، وتفكيك خطابها، وتهميش رموزها في التعليم والإعلام، مقابل
تضخيم هويات محلية أو قومية.
ورغم ذلك فالهوية الحيّة هي تلك التي تنسجها الأمة بعقلها الجمعي، بتاريخها
الحقيقي، وبرؤيتها المستقبلية، فهي تُلْهِم الإنسان وتَفتح له أبواب الارتباط
بالقِيَم والأفكار التي تبني الحضارة.
الهوية الحيَّة لا تموت. فهي تعود إلى السطح في لحظات الانكشاف، حين يتصدع السرد
الرسمي، أو حين تُختبر الأمم في أزمات وجودية. عندها يعود الأفراد إلى جذورهم
الأكثر أصالة، إلى قِيَم الدين، إلى امتداد التاريخ، إلى المعنى الحضاري الذي لا
يمكن اختزاله في حدود ضيّقة أو شعارات عابرة.
بينما الهويات المُصطنعة، هي في الحقيقة ظلالٌ زائلة مهما تضخَّمت في لحظات القوة؛
لأنها تنشأ من فراغ وجودي لا يربط الإنسان بخالقه، فهي تَقتات
«وتعتاش»
على الخوف والتقسيم. ومهما تضخمت بسلطة الإعلام أو الدولة؛ فإنها تنهار سريعًا أمام
الوقائع حين يغيب عنها المعنى الحقيقي.
كم كانت محاولات الفرنسيين في الجزائر لطمس هوية الشعب الجزائري! عقود من التغريب
والتغرير لم تنجح إلا في جعل المجتمع الجزائري أكثر صلابة وتمسكًا بإسلامه وهُويته
الصلبة. وكم كانت هزيمة 1967م لحظة كاشفة لطريق عودة المجتمع المصري من لحظة التيه
التي أصابته ودرّنت جسده جراء تمحُّكه في فلسفات يسارية وشيوعية عَفِنَة.
الهويات، إذن، ليست مسألة بريئة، إنها مشاريع؛ مشاريع تتداخل فيها السياسة
بالتاريخ، والتعليم بالأيديولوجيا، والإعلام بالرموز. مشروعٌ يستطيع أن يحشد
شعوبًا، ويُشعل الحروب، ويُقنع ملايين بأن مصيرهم مرتبط بحدود رسمها محتلّ أو بفكرة
نشأت في عقل أيديولوجي مُستعبَد لمستعمرٍ.
وفي المقابل، يبقى سؤال الهوية الحقيقية: كيف نميِّز بين الهوية التي تنبع من إرث
طبيعي متراكم، وبين الهوية المصنوعة على عجل المطبوخة لأغراض سلطوية ضيّقة؟ وكيف
نحافظ على الهوية الحقيقة التي تُعبِّر عن المعنى الحقيقي للأمة دون أن نقع في فخّ
الهويات الضيِّقة أو المختزلة؟
الوعي بهذه العملية -عملية الصناعة والطمس-، هو خطوة أولى لاستعادة الهوية، كاختيار
واعٍ وليس كفرض خارجي. فالهوية الحقيقية هي التي تصنعها الأُمَّة بذاكرتها الجمعية،
ودينها وقِيَمها الراسخة، ورؤيتها المستقبلية، لا تلك التي تُصنَع في غُرَف السياسة
أو مختبرات السلطة مهما استخدمت في ذلك من عمران زائف وتماثيل مطموسة كهوياتهم
الزائلة.
وفي الختام؛ كل مشروع لطَمْس الهوية الإسلامية أو استبدالها بهويات مصطنعة يصطدم
بوعد الله؛ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ
مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
*
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾
[الصف: ٨ - ٩].