(خامنئي).. الأخ الأكبر للجمهورية الإيرانية!
"لم أوافق على الاتفاق النووي، لكنني سمحت بالمفاوضات"، بهذه الكلمات عبر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية "علي خامنئي"، قبل أيام أمام عدد من ممثلي الطلبة الإيرانيين، عن استيائه من الطريقة التي عقد بها الرئيس الإيراني "حسن روحاني" وفريقه الاتفاق النووي مع دول 5+1 عام 2015م، مضيفاً: "لكن الطريقة التي أدير بها الاتفاق، أنا غير مقتنع بها، ولقد ذكرت تحفظاتي للرئيس ووزير الخارجية، وحذرتهما عدة مرات"، هذه التصريحات تبدو بوضوح أنها تحميل خبية الفشل لغيره ووسيلة لحفظ ماء وجهه أمام الشعب المخدوع فيه، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية في مايو الماضي. فالمرشد الأعلى الذي حرم التفاوض مع الشيطان الأكبر (كما يحب وصف الولايات المتحدة) بالأمس، قبل به بخصوص الملف النووي، ثم غدا ألان يتنصل من موافقته وقراراته ويحمل المسؤولية للرئيس، بالرغم من أن سلطات الرئيس الفعلية لا تمكنه من إتخاذ قرار مهم كالتفاوض بخصوص الملف النووي الإيراني، وأن هذا الأمر ما كان ليتم لولا مباركة المرشد.
القائد الأعلى لكل شئ!
قبل أكثر من عقدين، وتحديداً في عصر اليوم التالي لرحيل الخميني، اجتمع مجلس الخبراء في العاصمة الإيرانية طهران بغية تعيين وريثاً له، كان هناك نقاش حاد حول أن تكون القيادة فردية أو على شكل شورى، هنا تدخل أكبر هاشمي رفسنجاني لسرد رواية عن اجتماع عقده مع الخميني قبل وفاته، حيث قال الخميني: "إن خامنئي هو الأنسب للقيادة"، فتمت مبايعته مرشداً أعلى للثورة الإيرانية عام 1989م، وقد قال "علي الحسيني خامنئي" ذات مرة معقباً على اختياره: "الضرورات هي التي أجبرتنا على حمل المسؤوليَّة، لقد أرادت الثورة ذلك منَّا ونحن لبّينا". بمجرد مبايعته مرشداً.. وجد نفسه في مواجهة الداخل الإيراني المعقد بمشكلاته وعثراته، والخارج الإقليمي بقضاياه ومعاركه المستمرة، لم يكن جديداً على السلطة، فقد تدرج في الكثير من المناصب من قبل، لكن أن يكون المرشد الأعلى، فهذا يعني أنه المتحكم الأول والأعلى في كل شيء، تعمل كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الحكومة رسمياً أو غير ذلك تحت السيادة المطلقة له، بمعنى أوضح هو رئيس الدولة وقائدها الأعلى ومنظرها الأول، تتبنى سياسة الدولة آراءه كمرجعية لها، وتوجه الدولة العام يكون وفقاً لأفكاره، وكل كلماته هي أقوال مأثورة يتم تضمينها في المناهج الدراسية لاحقاً.
لـخامنئي آلاف الممثلين ينتشرون في جميع مؤسسات الدولة الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية والأمنية، مع حضور قوي في الجامعات، فضلاً عن ممثلين له في عدد من الدول، فكأنه دولة داخل الدولة!، رجل الدين المعارض "أحمد قابل" قال: "إن المرشد يتدخل في قضايا البلاد كافة وهو يسيطر على كل شيء ولا يسمح للآخرين بالاستفادة من سلطاتهم القانونية وأمور البلاد كافة تتم تحت إشرافه وحده"، ولا عجب في ذلك، فخامنئي هو القائد الأعلى للثورة الموصوفة بالإسلامية، والولي الفقيه، والمرشد الأعلى، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بيده إعلان الحرب والسلام والنفير العام، يقوم بالإمضاء على حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب، أي إنه الوصي الأكبر على الشعب، بإمكانه عزل وتعيين كل المناصب في الدولة بدءاً من الرئيس حتى عامل النظافة، وبعيداً عن السلطات التي كفلها له الدستور فإنه قد عمل على توسيع سلطاته لتشمل كل شئ في الجمهورية الإيرانية.
المرشد والشيطان الأكبر!
كان لدى "خامنئي" اعتقاد دائم بأن واشنطن مصرّة على تغيير النظام في إيران، سواء كان ذلك عن طريق إسقاطه من الداخل أو اندلاع ثورة ديمقراطية أو ممارسة ضغوط اقتصادية أو شن غزو عسكري، قد يكون هذا الاعتقاد صحيحاً، وقد ظهرت الكثير من بوادره خلال السنوات الماضية، لكنه صار أوضح خلال الفترة الرئاسية الحالية لدونالد ترامب، وقد انبرى خامنئي دائماً للدفاع عن الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران إبان الثورة، كان يعتبر ذلك "خدمة عظيمة وجليلة لصالح ثورتنا" - على حد تعبيره. لكن على الرغم من أنه حاول مراراً أن يظهر في صورة الرجل الصلد الذي لا تغيره الأحداث، ولا يمكن للمستجدات أن تنال من صمود أفكاره وآرائه، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بأمريكا، فإننا نجد مفارقة غريبة في هذا الشأن، ففي أغسطس عام 1989، بعد مرور شهرين على انتخابه مرشداً أعلى، صرح بأنه "لم يجر أي شخص إيراني مفاوضات في وقت مضى مع الولايات المتحدة الأمريكية مطلقاً، ولن يحدث ذلك، فنحن نرفض تماماً إقامة أية علاقات بيننا وبينهم"، وبعد مرور 17 عاماً، تناول الموضوع ذاته عند اجتماعه مع طلاب بوسط مدينة يزد في شهر ديسمبر عام 2007، حيث قال: "إحدى سياساتنا الأساسية تتمثل في قطع العلاقات مع الولايات المتحدة. ولكننا لم نقل يوماً إننا سنقطع هذه العلاقات إلى الأبد، لا، ليس هناك أية أسباب لقطع العلاقات مع أية دولة إلى الأبد".
الرجل الذي رفض رفضاً تاماً إقامة أي علاقة أو تفاوض أو إجراء أي حوار أو نقاش مع الشيطان الأكبر، قبل ذلك بالأمس القريب عندما أعطى الضوء الأخضر للتفاوض مع الغرب بشان الملف النووي لبلاده، وعندما زادت وتيرة الاستغراب والتكهنات حول مدى مصداقيته بخصوص مواقفه ومبادئه، ظهر معللاً المفاوضات النووية وقبوله بها: "قبلنا بالتفاوض مع أمريكا بالشأن النووي فحسب ولأسباب معينة، ولن نسمح بالتفاوض ولن نتفاوض مع أمريكا في مجالات أخرى"، لكن رجل المبادئ الصارمة الذي حرم التفاوض مع الشيطان الأكبر ذات يوم، ثم قبل به، ههو اليوم يلقي بلائمة فشل الاتفاق على من تفاوضوا، بالرغم من أنه هو من أعطاهم الموافقة للتفاوض، وكل خطوات التفاوض كانت تتم تحت ناظريه ومباركته.
الرجل المتحول!
في الأيام الأولى للثورة الإيرانية، ووفقاً للرئيس الإيراني الأسبق "علي أكبر رفسنجاني"، يقول إنه لم يؤيد هو أو خامنئي خطوة الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، مضيفاً: "أصبنا بالصدمة، لأننا لم نكن نتوقع مثل هذا الحدث"، لكن بعد أن خرج الخميني مؤيداً للاستيلاء على السفارة، تبدلت مواقف كثير ممن عارضوا ذلك في البداية، خامنئي كان واحداً من هؤلاء، واستمر على نهجه الجديد بعد ذلك، حيث أشار في خطاب له عام 1993 قائلًا: "قطعت قضية وكر الجواسيس (وهو المصطلح الذي يستخدمه للإشارة إلى السفارة الأمريكية) آخر خيط يمكن أن يصل بين الثورة وأمريكا". وأضاف: "أن احتلال السفارة كان خدمة عظيمة وجليلة لصالح ثورتنا"، سيسأل القارئ متعجباً: أليس هذا هو خامنئي نفسه الذي شعر بالصدمة حين سمع نبأ احتلال السفارة؟!
الصحفي الإيراني "هوشانغ أسدي"، ذكر في كتاب مذكراته (رسائل إلى معذبي)، يتذكر أسدي كلمات قالها له خامنئي، باكياً عندما عانقه قبل أن يفترقا في نهاية فترة احتجازهما في الزنزانة نفسها في سجن مشترك أيام الشاه رضا بهلوي، حيث قال خامنئي: "في ظل حكومة إسلامية، لن يذرف بريء دمعة واحدة"، بعد أقل من عشر سنوات، في عام 1984، وجد أسدي نفسه في سجن مشترك مجدداً، هذه المرة في ظل الحكومة الإسلامية التي قصدها خامنئي، يخضع لتعذيب ممنهج استمر نحو عامين، بريئاً يذرف دموعاً، ويتذكر وعد خامنئي له، لكن دون جدوى!، وفي فصول أخرى من الكتاب يتذكر "أسدي" صداقته بخامنئي التي استمرت سنوات أثناء الحبس وبعده، ويصف كيف تغير هذا الرجل ليتحول عبر السنوات من رجل دين عرفه طيباً، ليصبح رأس السلطة التي لا تعرف سوى التعذيب والقتل لإسكات معارضيها.
"شاه" في مظهر "فقيه"!
في ستينيات القرن الماضي خرج خامنئي ورفاقه من رجال الدين واليساريين من أجل محاربة ما اعتبروه ظلماً وديكتاتورية، اليوم وبعد كل هذه الأعوام من الثورة على نظام الشاه، أصبحت الأوضاع في إيران كما كانت في العهد البهلوي، بل ربما أسوأ منها، ولم يفرق نظام الشاه عن نظام خامنئي بشيء سوى أنه شاه في ثوب ولي فقيه، ثمة فارق غير بسيط، هو أن الشاه المخلوع كان متصالحاً مع فساده بينما الشاه الجديد يدعي العفة، فالرجل الذي لا يأكل سوى لحوم السمان والنعام لخلوها من الدهون والكولسترول، وكذلك سمك السلمون المرقط، إضافة إلى الكافيار الرشتي وهو أجود أنواع الكافيار الإيراني، يملك طائرة إيرباص خصوصية وخمس طائرات هليكوبتر و17 سيارة ضد الرصاص و1200 سيارة حديثة وكرافان ضد الرصاص للرحلات البرية، كثيراً ما ينصح الوزراء والمسؤولين الحكوميين في خطاباته بضرورة توفير النفقات الحكومية والمحافظة على مال الشعب، كما يبلغ تعداد فريق حماية خامنئي عشرة آلاف شخص، كما أنه يستخدم كل قصور الشاه التي حولتها الثورة إلى متاحف، لا بل أضاف إليها أجنحة خاصة لا تقل بذخاً عما بناه الشاه. وهو يستعمل كل الأدوات الموجودة فيها، خصوصاً ملاعق الذهب والأواني الفضية وأكواب الكريستال.
الجانب الآخر من حياة خامنئي، كشفه الوثائقي ذي العنوان "خفايا حياة خامنئي"، الذي أنتجه المخرج الإيراني المنفي "محسن مخملباف"، ويتحدث فيه عن الحياة المترفة التي يعيشها المرشد الأعلى، نصير الفقراء والمظلومين والمدافع الأول عنهم، حيث يأكل أفخر أصناف الطعام، وينفق الملايين لاقتناء الخيول وجمع أنواع الخواتم المرصعة بأحجار كريمة والغليونات والعصي والعباءات، فبينما ينفق المرشد الأعلى الأموال على الهوايات الشخصية وترفيه العائلة والأقارب والحاشية المقربة، تسري حالة من العوز والفقر في طبقات واسعة بالمجتمع الإيراني، الفيلم يتعمق في توضيح جوانب كثيرة من حياة خامنئي التي تتسم بالبذخ، لدرجة أنه أنفق مبلغ 500 ألف دولار على شراء آلة أمريكية الصنع لفحص الطعام، تصدر إشارة في حال كان مسموماً، كما أنه لا يتناول طعامه قبل أن يتذوقه أحد حراسه، وذلك بعكس ما يصوّره الإعلام في إيران الذي يظهره زاهداً ومتواضعاً كي يضفي هالة من القداسة على شخصه. ويبدأ الفيلم بعبارة لـ "جومو كيانتا" مؤسس كينيا الحديثة، حيث يقول: "حين جاء المبشرّون إلى أرضنا، كانوا يحملون بأيديهم الكتاب المقدس، ونحن كنا نملك الأرض، وبعد سنوات عديدة، حملنا نحن الكتاب المقدس، وصارت أرضنا بأيديهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* هامش:
ـ "الأخ الأكبر" هي شخصية خيالية في رواية (1984) للكاتب البريطاني "جورج أورويل"، وهو الحاكم الغامض لأوشنيا الدولة الدكتاتورية، وبعد نشر الرواية أصبحت كلمة الأخ الأكبر تستعمل كمرادف للتعسف في استعمال السلطة.