النووي هو أحد أكثر الملفات أولوية لدى النظام الإيراني، ومن أجل نشر أذرعه العسكرية حماية للمشروع الأعظم بالنسبة له، لذلك فهو يناور إقداما وتقهقرا حفاظا على مشروعه الأخطر بالنسبة له.
في تصعيد جديد للأزمة
النووية الإيرانية، أعلنت طهران تشغيل أجهزة طرد مركزي متطورة، ردًا على قرار مجلس
حكّام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي انتقدها بسبب ما وصفه بعدم التعاون
الكافي بشأن برنامجها النووي، ورغم أن القرار الإيراني يأتي في الأساس نتيجة ضغوط
أمريكية وأوروبية، إلا أنه يأتي وسط انقسام دولي واضح بشأن التعامل مع الملف
الإيراني، ليعكس استمرار التوتر في واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في السياسة
الدولية.
تصاعد التوترات
في خضم تصاعد التوترات بين
إيران والغرب، أعلنت طهران عن تفعيل مجموعة جديدة من أجهزة الطرد المركزي المتطورة،
ردًا على قرار صدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية انتقد عدم تعاونها الكافي في
إطار برنامجها النووي، هذا الإعلان جاء في وقت حساس، حيث يزداد الضغط الغربي على
إيران للامتثال لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، في حين تُظهر الخطوة الإيرانية
الأخيرة تصعيدًا واضحًا، ويمكن إيجاز ملامح الأزمة المتصاعدة التي تنبئ بغياب أي
تسوية قريبة للأزمة النووية الإيرانية في النقاط التالية:
*
زيادة قدرات التخصيب النووي:
أقل من 1% من اليورانيوم
الموجود في الطبيعة هو الشكل الأكثر إشعاعًا، والمعروف باسم "U-235". وترفع
عملية تخصيب اليورانيوم هذه النسبة إلى 3 إلى 5% لمحطات الطاقة النووية، وما يصل
إلى 20% لبعض أنواع الأبحاث، وتتطلب القنبلة الذرية التخصيب إلى 85% من "U-235" أو
أكثر، ومن الملاحظ أن الأجهزة المتطورة الجديدة تسمح لإيران بزيادة تخصيب
اليورانيوم إلى مستويات تقترب من الاستخدام العسكري، ما يثير مخاوف دولية. ورغم
ذلك، تؤكد إيران أن برنامجها النووي يهدف إلى تحقيق أهداف سلمية، مع حرصها على
استمرار التعاون الفني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضمن التزاماتها القانونية.
وفي نفس الوقت هناك نقاشات مكثفة داخل إيران حول احتمالية إسقاط الفتوى الدينية
التي تحظر إنتاج أسلحة نووية، فيما يدعي بعض المسؤولين الإيرانيين إتقان التقنيات
اللازمة لذلك.
*
منع المفتشين الدوليين:
|
مع اقتراب عودة ترامب إلى البيت الأبيض بعد أسابيع، تتزايد المخاوف من
تصاعد التوترات مجددًا، الأوروبيون يدركون أن عودة ترامب قد تعيد تشكيل
السياسة الأمريكية تجاه إيران، مما يدفعهم للاستعداد للتعامل مع استراتيجية
أمريكية أكثر صرامة. |
القوى الغربية تبدي قلقها
من منع إيران المفتشين الدوليين من الوصول إلى مواقعها النووية، إلى جانب التراكم
السريع لليورانيوم المخصب الذي أصبح قريبًا من مستويات قابلة للاستخدام في تصنيع
الأسلحة، فالتقرير الأخير للوكالة أشار إلى زيادة كبيرة في مخزون اليورانيوم
الإيراني بنسبة 60%، وفي اجتماعه الأخير اعتمد مجلس حكام الوكالة قرارًا انتقد
إيران، بدعم من القوى الغربية، بينما عارضته روسيا والصين، ويعكس هذا الانقسام
استمرار الاستقطاب الدولي حول الملف الإيراني، ويعقد الجهود للوصول إلى حلول شاملة.
*
بين التصعيد والمناورة:
إيران لم تُغلق باب
التفاوض رغم إعلانها الأخير، وتشير تقارير إلى استعداد طهران للنظر في بعض المطالب
الغربية، مثل تحديد مخزون اليورانيوم المخصب، شرط رفع الضغوط الدولية. ومع ذلك،
يواجه هذا العرض تشكيكًا واسعًا بوصفه مناورة لتجنب المزيد من القرارات العقابية،
وتصرّ الولايات المتحدة وإسرائيل على عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، مع
مواصلة تشديد العقوبات الاقتصادية كبديل عن التدخل العسكري.
رهانات عودة ترامب
منذ انسحاب الرئيس السابق
دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 2018، فالانسحاب لم يكتفِ بتقويض مسار
الدبلوماسية، بل خلق واقعًا جديدًا أتاح لإيران توسيع أنشطتها النووية بشكل غير
مسبوق، حيث دخل البرنامج النووي الإيراني مرحلة تصعيد غير مسبوقة، تجلت في رفع
إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب في خطوة تُقربها من العتبة الحرجة لإنتاج سلاح
نووي، في ظل ذلك يبقى دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية محوريًا لكنه محدود
التأثير، فإيران لا تزال تقيّد عمليات التفتيش وتعطل آليات المراقبة، مما يزيد من
صعوبة تقييم أنشطتها النووية.
لقد فشلت سياسة الضغوط
القصوى التي انتهجها ترامب في كبح الطموح الإيراني، بل زادت من تعقيد المشهد
الدولي، ومع تعثر جهود إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، وجد المجتمع الدولي نفسه
أمام مفترق طرق محفوف بالتحديات، حيث تلوح إيران بالانسحاب من معاهدة عدم انتشار
الأسلحة النووية إذا فُرضت عليها عقوبات جديدة،
ومع اقتراب عودة ترامب إلى البيت الأبيض بعد أسابيع، تتزايد المخاوف من تصاعد
التوترات مجددًا، الأوروبيون يدركون أن عودة ترامب قد تعيد تشكيل السياسة الأمريكية
تجاه إيران، مما يدفعهم للاستعداد للتعامل مع استراتيجية أمريكية أكثر صرامة. في المقابل، تبدو إيران
مثقلة بأزمات داخلية، بما في ذلك اضطرابات اجتماعية واقتصاد مترنح، إلى جانب الضغط
الإسرائيلي المتزايد، هذه العوامل مجتمعة قد تفتح المجال أمام نقاش داخلي في طهران
حول جدوى السعي لإعادة إحياء الاتفاق النووي أو المضي قدمًا نحو بناء سلاح نووي
بشكل أكثر وضوحًا.
استراتيجية
المناورة
تتبع إيران نهجًا قائمًا
على الموازنة بين التصعيد النووي والحفاظ على الحد الأدنى من الانفتاح على الحوار
مع الغرب، ففي خطوة تعكس هذا النهج، دعت طهران المدير العام للوكالة الدولية للطاقة
الذرية، رافائيل غروسي، لزيارة منشآتها النووية، في محاولة لتهدئة المخاوف الدولية
دون تقديم تنازلات جوهرية. لكن هذه التحركات لم تُقنع الدول الغربية، التي ترى في
التصعيد النووي الإيراني تهديدًا للأمن الدولي وتواصل الضغط لفرض قيود أشد على
برنامجها، كما ترى الدول الغربية أن الامتثال الإيراني هو حجر الزاوية للحفاظ على
معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ومنع دول أخرى، خاصة في الشرق الأوسط، من السعي
إلى تطوير قدرات نووية، وفي المقابل تصرّ إيران على تعزيز استقلاليتها في مواجهة
الضغوط، لكنها تدرك أن هذا التصعيد يُعمق عزلتها الدولية ويقوّض مكاسبها المحتملة
من أي مفاوضات مستقبلية.
|
لا يمكن فصل الملف النووي الإيراني عن الوضع الإقليمي المتأزم، إذ تلقي
سياسات طهران بثقلها على خارطة الصراعات في الشرق الأوسط، دعم إيران
العسكري والمالي للنظام السوري وللجماعات المسلحة مثل حزب الله والميليشيات
العسكرية العراقية يعمّق التوترات |
بالرغم من هذا الواقع
الضبابي لا تزال هناك احتمالات تفاوضية وفرص مشروط، حيث يرى المحللون أن طهران قد
تكون منفتحة على التفاوض بشأن اتفاق نووي جديد، خاصة إذا كان يضمن لها مكاسب
اقتصادية واضحة ويحميها من التهديدات الأمريكية والإسرائيلية، ومع ذلك هذا الانفتاح
مشروط بسياق سياسي مناسب، حيث يُفضل بعض صناع القرار الإيرانيين فرصة التفاوض مع
إدارة أمريكية تسيطر على الكونغرس وتجنح إلى تجنب التصعيد العسكري، ويبرز داخل
إيران نقاش محتدم حول مستقبل البرنامج النووي. يرى البعض أن التوصل إلى اتفاق جديد
قد يحقق مكاسب اقتصادية ويخفف من حدة المعارضة الداخلية، وفي المقابل يدفع جناح
متشدد، يُمثله بشكل كبير الحرس الثوري الإيراني، باتجاه سياسة أكثر صرامة، مؤكدًا
أن الغرب لا يمكن الوثوق به، وأن إيران بحاجة إلى تطوير قوة رادعة نووية لمواجهة
إسرائيل، في ظل هذه التحولات، يبقى مستقبل المفاوضات النووية محاطًا بالشكوك، إذ
تعكس أجواء عدم اليقين داخل النظام الإيراني حالة من التخبط. ومع ذلك، لا يبدو أن
إيران في عجلة من أمرها لاتخاذ قرارات حاسمة، مراهنةً على قدرتها على المناورة في
مواجهة الضغوط الدولية المتزايدة.
الوضع في
الإقليم
لا يمكن فصل الملف النووي الإيراني عن الوضع الإقليمي المتأزم، إذ تلقي سياسات
طهران بثقلها على خارطة الصراعات في الشرق الأوسط، دعم إيران العسكري والمالي
للنظام السوري وللجماعات المسلحة مثل حزب الله والميليشيات العسكرية العراقية يعمّق
التوترات، إذ
يُتهم النظام الإيراني بتزويد هذه الجماعات بأسلحة وتكنولوجيا متطورة، ما يزيد من
تعقيد المشهد في لبنان وسوريا، علاوة على ذلك تستمر إيران في تقديم الدعم للحوثيين
في اليمن، مما يُطيل أمد الصراع ويُهدد أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق
باب المندب، هذا الانخراط الواسع يجعل من الملف النووي الإيراني عنصرًا محوريًا في
الاستراتيجية الإقليمية، بالإضافة لذلك نجد دعمها لروسيا في الحرب الأوكرانية، وهو
ما جعل الملف النووي جزءًا من مشهد جيوسياسي أكثر تعقيدًا.
ومع تنامي مخاوف الدول
الإقليمية، خاصة الكيان الصهيوني، يظل السؤال حول مدى إمكانية تحقيق تسوية شاملة
لملف إيران النووي قائمًا، فبينما تصرّ إيران على حقها في امتلاك برنامج نووي مدني،
تخشى الدول الأخرى أن يتحول هذا البرنامج إلى تهديد عسكري حقيقي، وفي هذا السياق
تظل الخيارات المتاحة محدودة؛ إما تصعيد يؤدي إلى مواجهة مباشرة، أو تسوية تتطلب
تنازلات مؤلمة من جميع الأطراف. وبين هذين الخيارين، تبقى المنطقة والعالم أمام خطر
دائم، يدفع ثمنه الجميع بلا استثناء.