يتقاطع التصعيد العسكري بين باكستان وأفغانستان بشكلٍ وثيق مع التطورات الجارية في الملف النووي الإيراني، ليس فقط جغرافياً بل استراتيجياً، إذ يعكس كله حالةَ إعادة تموضعٍ واسعة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط بعد تراجع الهيمنة الغربية
في بيان بدا كأنه إعلانُ خروجٍ صريحٍ من عباءة الرقابة الدولية، أعلنت طهران أنّ
قرار مجلس الأمن رقم 2231، الذي شكّل الإطار القانوني للاتفاق النووي لعام 2015، قد
انتهى مفعوله، وأن ما تبقّى من قيودٍ وآلياتٍ لم يعد سوى رمادٍ إداريٍّ في أرشيف
الأمم المتحدة.
بدا البيان كمن يطوي صفحةً من التاريخ ليفتح أخرى أكثر غموضًا، صفحةً تقول للعالم:
"لقد مضى زمن الوصاية، وآن أوان التعامل معنا كندٍّ لا كتابعٍ تحت التفتيش".
هذا الإعلان ليس مجرّد خطابٍ قانوني؛ بل هو إعلان تحوّلٍ في المزاج الإيراني، من
الدفاع إلى التحدّي، ومن اللغة الرمادية إلى الصيغة القطعية. حين تطالب طهران
بإزالة ملفها النووي من جدول أعمال مجلس الأمن، فهي لا تتحدث عن مسألة إجرائية، بل
عن استعادة السيادة الرمزية التي ظلت مُعلّقة منذ توقيع الاتفاق.
تريد أن تُعامل كأي دولة موقّعة على معاهدة عدم الانتشار، لا كمتّهمٍ يخضع للمراقبة
مدى الحياة. تلك المطالبة، في جوهرها، ليست قانونية بقدر ما هي سياسية، تُعيد رسم
موازين القوى بين إيران والغرب بعد عقدٍ من الشدّ والجذب.
أما الاتهام الموجّه إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا بإساءة استخدام آلية فضّ
النزاعات "بتوجيه من واشنطن"، فيكشف حجم التآكل في الثقة الأوروبية
–
الإيرانية. لقد كانت أوروبا هي "الوسيط المتزن" زمن الاتفاق، فإذا بها اليوم تُتهم
بأنها أداة في يد الإدارة الأمريكية.
المعنى العميق لهذا الاتهام أنّ إيران لم تعد تفرّق بين الغربَين، الأطلسي والقاري،
بل تضعهم جميعًا في سلة واحدة عنوانها "العداء الممنهج". هذه ليست مجرد لغة غضب
دبلوماسي، بل مؤشر إلى أن طهران تحوّل بوصلتها نهائيًا شرقًا، نحو موسكو وبكين،
بحثًا عن مظلة سياسية واقتصادية بديلة.
البيان لم يخلُ من لمسةٍ رمزية أخرى حين طالب الأمم المتحدة بتصحيح "المعلومات
الخاطئة" على موقعها بشأن إعادة تفعيل العقوبات، متهماً الأمانة العامة بتجاوز
صلاحياتها.
هنا لا يتحدث الإيرانيون إلى البيروقراطية الأممية فحسب، بل إلى النظام الدولي
برمّته: من يملك حق تفسير القرارات؟ ومن يرسم حدود الشرعية؟ لقد قلبت طهران السؤال
رأسًا على عقب، كأنها تقول إن الغرب لم يعد وحده حارس النظام الدولي، وإن زمن
التفسيرات الأحادية قد ولّى.
هكذا، يتحوّل بيان قصير من وزارة الخارجية إلى فصلٍ جديد في روايةٍ طويلة عن الصراع
بين الإرادة والسيطرة، بين دولةٍ تحاول انتزاع مكانها في النظام العالمي، وقوى كبرى
تخشى أن يتحوّل هذا المكان إلى منصةٍ لإعادة هندسة التوازنات.
إيران، بهذا الإعلان، لا تكتفي بإغلاق ملف قانوني؛ إنها تفتح ملفاً سياسياً أكبر:
ملف الشرعية الدولية نفسها، ومن يملك حق إعلان نهايتها.
يتقاطع التصعيد العسكري بين باكستان وأفغانستان بشكلٍ وثيق مع التطورات الجارية في
الملف النووي الإيراني، ليس فقط جغرافياً بل استراتيجياً، إذ يعكس كله حالةَ إعادة
تموضعٍ واسعة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط بعد تراجع الهيمنة الغربية.
|
إيران اليوم تقف في مفترق طرق: فهي تبلور علاقات عملية مع موسكو وبكين
ونيودلهي تُمنحها متنفساً سياسياً واقتصادياً أمام الضغوط الغربية، ما
يحوّل أي قرار دولي ضد طهران إلى ساحة تفاوض بين قوى كبرى لا إلى نزاع
ثنائي فقط.
|
وبينما ينشغل الغرب بتطويق إيران سياسياً بعد إعلانها انتهاء العمل بقرار مجلس
الأمن 2231، تتقدّم طهران بخطى ثابتة داخل شبكة تحالفات آسيوية ناشئة تجمعها بكلٍّ
من روسيا والصين والهند وأفغانستان، في ما يشبه "تحالف الممانعة الأوراسي" ضد
النفوذ الأمريكي.
في هذا السياق، يصبح الصراع الباكستاني–الأفغاني
أداة ضغط مزدوجة: من جهة، يُضعف الجبهة الشرقية لإيران ويهدد أمن حدودها ويُشغلها
عن مسارها النووي؛ ومن جهةٍ أخرى، يمنحها فرصة لتقديم نفسها كوسيطٍ ضروريٍّ بين
جارين مسلمين غارقين في الفوضى، وبالتالي تعزيز شرعيتها الإقليمية في مواجهة
محاولات عزلها دولياً.
أما الغرب، فيراقب من خلف الستار؛ يدرك أنّ استمرار النزاع على حدود كابل–إسلام
آباد سيُربك محور موسكو–بكين–طهران
الذي بدأ ينسّق مواقفه في ملفات الطاقة والأمن النووي.
لذلك يحاول تحريك أدوات الضغط الدبلوماسي والاقتصادي دون تورّط مباشر، آملاً أن
تؤدي الفوضى الإقليمية إلى إبطاء البرنامج النووي الإيراني أو تأجيل اندماج طهران
الكامل في محور الشرق. لكنّ المفارقة أنّ كلّ اضطرابٍ جديد في آسيا الوسطى لا يُضعف
إيران بقدر ما يُعيد تأكيد ضرورتها الجيوسياسية.
وهكذا يتحوّل الملف النووي الإيراني من قضية فنية تتعلق بالتخصيب والتفتيش إلى
ركيزة في معادلة أمن إقليمي متشابك، تبدأ من كابول ولا تنتهي عند الخليج، حيث
يتقاطع غبار القصف على الحدود الأفغانية بوميض أجهزة الطرد المركزي في نطنز.
الخلفية التاريخية وتحوّلات الملف النووي الإيراني:
منذ البذور الأولى للمشروع النووي الإيراني في سبعينات القرن الماضي، حين كان الشاه
يشرع لبرنامج طاقي مدعومًا بتقنية ومعرفة غربية ضمن رؤية صناعية وطنية واضحة، وُضعت
تلك المرحلة مقعد البداية لمسارٍ لم ينقطع رغم انقلاب 1979 الذي قطع أوصال الشراكات
الغربية وأعاد تشكيل أولويات الجمهورية الإسلامية.
بعد الثورة، تحوّل البرنامج من تعاونٍ تقني مرئي إلى مشهدٍ من التعافي الداخلي
والسرّية، وسط عقباتٍ ناجمة عن مقاطعة المصدرين الغربيين، ما دفع إيران إلى تطوير
قدراتها المحلية تدريجيًا واستعادة زخمها النووي عبر عقود متقطعة من التفاوض
والمراوغة.
المحطات اللاحقة كانت بمثابة فصول متباينة بين احتواء دولي ومحاولات تثبيت الاعتراف
بحقوقٍ مدنية نووية؛ ففي أوائل الألفية تفاوضت طهران مع الأطراف الأوروبية الثلاث
(2003 وما بعدها) تحت سقف الوساطات والأطر التي ربطت الحقوق بالالتزامات.
بلغت المفاوضات ذروتها في اتفاق فيينا عام 2015 (JCPOA)،
الذي فرض قيودًا تقنية صارمة على التخصيب ومخزون اليورانيوم ووسّع آليات التفتيش
مقابل رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية.
لكن هذا التسلسل انقلب رأسًا على عقب بعد إعلان الانسحاب الأميركي في 8 مايو 2018
وإعادة فرض العقوبات، ما قوّض سريعًا المكتسبات السياسية والاقتصادية للاتفاق،
وأعاد الملف إلى مربع التصعيد وسباق الضمانات الأمنية.
بهذا المعنى، لا يمكن فهم واقع الملف النووي الإيراني الحالي إلا كمحصلةٍ تاريخية
تراكمت فيها فصول الدعم الغربي القديم، وما تلاه من عزلةٍ ثورية، ومحاولات تفاوضية
متقطعة انتهت باتفاقٍ ثم بانسحابٍ أحادي.
الأبعاد الجيوسياسية والإستراتيجية:
إيران اليوم تقف في مفترق طرق: فهي تبلور علاقات عملية مع موسكو وبكين ونيودلهي
تُمنحها متنفساً سياسياً واقتصادياً أمام الضغوط الغربية، ما يحوّل أي قرار دولي ضد
طهران إلى ساحة تفاوض بين قوى كبرى لا إلى نزاع ثنائي فقط.
هذا التحوّل الجيوستراتيجي يجعل من البرنامج النووي أداة رمزية ومادية في آن؛
فإمكانية طهران تقليص الشفافية أو توسيع قدراتها تضع دول الخليج في حالة تأهب
مستمر، وتدفعها إلى إعادة تموضعٍ أمني
— من تعزيز التعاون مع
الولايات المتحدة إلى تسريع برامجها الصاروخية والدفاعية وتقوية الروابط مع قوى
خارجية لتأمين خطوط الطاقة. انعكاس ذلك لم يَقتصر على السياسة العسكرية فحسب، بل
امتدّ إلى الاقتصاد وميزانيات الضربات الاستباقية التي تُعدّها عواصم الخليج خشيةً
من سيناريوات تعطيل الإمدادات النفطية أو تصعيد بحري في مضيق هرمز.
أما إسرائيل فعمليتها ضد منشآت إيرانية أو دعمها لضربات استخباراتية تُقرأ داخل
طهران كخط أحمر يدفعها إلى مزيد من الاعتماد على أساليب الردع غير المتكافئ: تطوير
الصواريخ الباليستية، تحسين دقة الرؤوس، وتفعيل شبكة الوكلاء الإقليميين. هذه
الأذرع —
حزب الله في لبنان، الميليشيات الموالية في العراق، والحوثيين في اليمن
—
لم تَعد أدوات تكتيكية فقط، بل عنصر في منظومة ردع إقليمية تُربط سياسياً
واستراتيجياً بخيارات طهران النووية، بحيث يصبح أي تصعيد نووي محملاً باحتمال تحويل
المواجهة إلى مواجهة بالوكالة أو إلى تصعيد متسلسل عبر البحار والحدود.
الغرب، ومن ورائه واشنطن، يقف في خلفية هذه الصورة بمزيج من الضغوط والاحتواء،
محاولاً موازنة بين رغبة إسرائيل في إجراءات أكثر حزماً واعتبارات أميركية أوسع
تتعلق بإدارتها للأولويات العالمية (أوكرانيا، المنافسة مع الصين)، إضافة إلى
تباينات داخلية بين واشنطن وتل أبيب حول توقيت وأساليب العمل العسكري والدبلوماسي.
هذا التباين يمنح طهران هامش مناورة سياسي وميداني، ويجعل مسألة الاحتواء النووي
مرتبطة أكثر من أي وقت مضى بإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية
—
تحالفات لا تنفصل فيها السياسة عن التكتيك، ولا الأمن عن الاقتصاد، فتتحول نبرة
تهديد أو تفاوض في منصات دولية إلى ضربات سرية في الليل أو مناورات بحرية في
النهار؛ وفي كلتا الحالتين، يبقى الطريق إلى تسوية مستدامة محفوفاً بعوائق
استراتيجية تتجاوز ملف التخصيب إلى منافسات نفوذية كبرى.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل الملف النووي:
المشهد المحتمل لمستقبل الملف النووي الإيراني يتأرجح بين عدة مسارات متباينة الشدة
والآثار، ولكل مسار دوافعه وأدواته ونتائجه المحتملة على الاستقرار الإقليمي
والدولي.
أول هذه المسارات هو مسار التسوية المشروطة
—
أي عودة إلى اتفاق معدل يقيّد طهران جزئياً مقابل رفع جزئي للعقوبات
—
وهو ما تراه بعض العواصم الأوروبية كخيار عمليّ لاحتواء التدهور ومنع انزلاق
المنطقة إلى صراع مفتوح، لكنه مشروط بقدرة الغرب على تقديم حوافز اقتصادية ملموسة
ثمّة قبول داخلي إيراني لها، وفي المقابل بقدرة طهران على تقديم ضمانات شفافة قابلة
للتحقق عبر آليات الوكالة.
المسار الثاني الأكثر خطورة هو التصعيد والقطيعة:
انسحابٍ كاملٍ من أي قيود دولية يرافقه تسريع تقني نحو قدرات تخصيب أعلى وربما
إعلان سلاح نووي معلن أو شبه معلن
— سيناريو لا يزال
بعيد المنال لكنه بات أقرب مما كان عليه بفضل توسع مخزون التخصيب وتحسين بنى الطرد
المركزي، وهو ما يضع المنطقة أمام احتمال صراع مفتوح قد يدفع دولاً إقليمية إلى
تسريع برامجها الأمنية أو البحث عن مظلات نووية تحد من مخاطر التفوق الإيراني.
بين هذين المسارين يمتد ما يمكن تسميته الحرب الرمادية:
نموذج يجمع بين المراوغات الدبلوماسية والالتزام الجزئي بالتزامات تقنية مع تصاعد
الهجمات السيبرانية والضربات الخفية والتخريب الذي يستهدف منشآت نووية وبُنى تحتية
حيوية، وهو سيناريو مرجّح طالما بقت القنوات الرسمية للحوار متصدعة، إذ أظهرت
السنوات الأخيرة نماذج واضحة لاستهدافات غير معلنة وعمليات سيبرانية متبادلة تزيد
من مخاطر الانزلاق إلى صدام أوسع.
أخيراً، ثمة سيناريو الوساطة الدولية الذي قد تغير قواعد اللعبة:
تلعب روسيا والصين دوراً متزايد الأثر في تحييد الاحتكار الغربي للملف وإعادة إدماج
طهران في شبكة علاقات أوراسية
— عبر
مبادرات دبلوماسية ومشروعات اقتصادية واستثمارات طاقية
— ما يمنح
إيران بدائل للضغط الغربي ويغير حسابات التكلفة والمنفعة أمام خيار التصعيد أو
الاستسلام للضغوط. هذا البُعد يجعل أي حل طويل الأمد أكثر تعقيداً لأن القضايا
النووية لم تعد محصورة في فضاء ثنائي بين طهران وواشنطن، بل أصبحت ساحة تفاوض بين
محاور متعددة مصالحها متداخلة.
في المحصلة، احتمالات كل سيناريو مرتبطة بتقاطع عوامل داخلية (توازنات القوة بين
الإصلاحيين والمتشددين، صمود الاقتصاد الاجتماعي تحت وطأة العقوبات) وخارجية
(مواثيق التحالفات الدولية، استعداد الغرب لتقديم حوافز مقنعة، أو استعداد إسرائيل
أو الولايات المتحدة للخيارات العسكرية)، وما دام هذا التداخل كثيفاً ومتقلباً فلن
يكون المسار موحَّداً: أفق مستدام للتسوية يبقى ممكناً لكنه هش، والتصعيد الكامل
ممكن لكنه مكلف للغاية، والحرب الرمادية تبدو الأكثر قرباً كحالة انتقالية تُستثمر
فيها كل الأطراف لتكريس نفوذٍ ما أو لشراء وقتٍ استراتيجي.
خاتمة:
في ضوء كل ما تقدّم، يبدو أن المنطقة بأكملها تنزلق نحو معادلة أمنية جديدة تتجاوز
حدود كل ملفٍ منفصل. فالتصعيد الأخير بين باكستان وأفغانستان
—
من تبادل القصف وإغلاق الحدود إلى الخطاب العدائي المتصاعد
—
ليس حدثًا معزولًا، بل انعكاسٌ مباشر لارتجاج الموازين في فضاءٍ أوسع تتقاطع فيه
خيوط الملف النووي الإيراني مع الصراع الباكستاني الهندي ومع تشكّل محورٍ أوراسي
جديد يضمّ موسكو ونيودلهي وطهران وكوريا الشمالية.
في المقابل، تُصطفّ باكستان
— ذات التراث النووي
العريق والدور الاستخباري العميق
— على الضفة المقابلة ضمن
محور المخابرات الأمريكية الذي يسعى لاحتواء هذا التقارب الأوراسي المتنامي. وهكذا،
تصبح الجغرافيا الممتدة من كابول إلى نطنز، ومن كراتشي إلى تل أبيب، مسرحًا واحدًا
لصراعٍ مركّب: تلتقي فيه النوويات بالحدود، والسياسة بالاقتصاد، والردع
بالأيديولوجيا.
إن اشتعال الجبهة الأفغانية ليس سوى إشارة مبكرة على أن القطيعة النووية الإيرانية
قد تتجاوز الحدود، لتغدو شرارة في لعبة أممٍ جديدة تتداخل فيها أنابيب الطاقة مع
مفاعلات اليورانيوم، وتُرسم خرائط النفوذ فيها بالنيران لا بالمفاوضات.