تتوالى رسائل إدارة ترامب للنظام الإيراني تحذيرا وتهديدا، في الوقت الذي لم تبد طهران موقفا حاسما من دخول في مفاوضات بشأن برنامجها النووي، فهل إدارة ترامب جادة في إنهاء الملف الإيراني أم كل ما يجري مجرد مناورات سياسية؟
منذ انسحاب
الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018م، والعلاقات بين واشنطن
وطهران على صفيح ساخن، حيث تصاعدت حدة التوترات مع فرض عقوبات اقتصادية مشددة
وعمليات استهداف متبادلة، إلا أن التطورات الأخيرة أضافت أبعادًا جديدة إلى المشهد،
بعدما كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إرساله رسالة مباشرة إلى المرشد
الإيراني علي خامنئي يدعوه فيها إلى التفاوض، في خطوة تثير التساؤلات حول مدى
جديتها، وما إذا كانت محاولة لفتح باب الدبلوماسية أم مجرد مناورة سياسية في إطار
استراتيجيته للضغط القصوى. في المقابل، لا تزال طهران تتبع نهج الصبر الاستراتيجي،
رافضةً أي تفاوض تحت وطأة العقوبات، بينما تستمر في توجيه رسائل غير مباشرة تفيد
بأنها قادرة على المناورة والرد. وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، تتزايد التساؤلات
حول السيناريوهات المحتملة:
هل تمتلك
إيران بالفعل القدرة على تهديد ترامب وإجباره على تغيير نهجه، أم أنها تستخدم هذا
الخطاب للضغط والتفاوض فقط؟،
وكيف سيكون رد
واشنطن إذا استشعرت أن طهران تحاول استغلال الموقف لصالحها؟
وهل نحن أمام
مرحلة تصعيد جديدة قد تقود إلى مواجهة عسكرية، أم أن الطرفين سيلجآن إلى حلول وسط
تحفظ ماء الوجه لكليهما، خاصة في ظل التطورات الإقليمية والدولية المتشابكة؟
مخططات في الأفق
لم يمر وقت
طويل على عودة ترامب إلى البيت الأبيض حتى بدأت التقارير الأمنية الأمريكية تكشف عن
مخططات إيرانية لاستهدافه، فقد أفادت تقارير استخباراتية بأن إيران لم تتخلَّ عن
سعيها للانتقام لمقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني والذي حدث في عام 2020م، بل
كثفت جهودها في هذا الاتجاه، مستغلةً شبكاتها المنتشرة في الولايات المتحدة وأوروبا
لتنفيذ عمليات اغتيال ضد شخصيات أمريكية بارزة، على رأسها ترامب نفسه، وأظهر تحقيق
أمني تحدثت عنه الصحف الأمريكية أن إيران دفعت بعناصر إلى الداخل الأمريكي، كانوا
يخططون لاستخدام صواريخ أرض ـــــ جو لاستهداف طائرة ترامب خلال حملته الانتخابية،
هذا السيناريو أثار قلق الأجهزة الأمنية، التي سارعت إلى اتخاذ تدابير مشددة،
تضمنت تغيير مسارات الطيران، واستخدام طائرات وهمية للتغطية على تحركات المرشح
الرئاسي آنذاك.
|
أفادت تقارير بأن الإدارة الأمريكية قدّمت خططًا عسكرية تشمل توجيه ضربات
انتقائية ضد منشآت حساسة في إيران، كإجراء ردعي في حال تصاعدت التهديدات
الإيرانية. |
لكن التهديدات الإيرانية
لم تتوقف عند هذا الحد، فقد تزايدت التقارير التي تتحدث عن مخططات أخرى، كان آخرها
محاولة مزعومة لإطلاق النار على ترامب أثناء وجوده في ناديه للغولف بفلوريدا في
سبتمبر 2024، وهو ما دفع حملة ترامب إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة لحمايته، وقالت
وزارة العدل الأمريكية إن المحاولة كانت جدية، وكادت أن تنجح لولا تدخل الاستخبارات
في اللحظة الأخيرة، ورغم أن طهران نفت أي علاقة لها بهذه المخططات، فإن التوتر
ازداد، وبدأت إدارة ترامب في التحضير لرد قوي، قد يتجاوز مجرد العقوبات الاقتصادية،
وبات واضحًا أن المواجهة لم تعد مجرد حرب تصريحات، بل تحولت إلى معركة أمنية معقدة،
قد تتطور في أي لحظة إلى صدام مباشر، إذا ما تم تنفيذ أي من هذه المخططات على أرض
الواقع.
ضغوط ترامب
القصوى
منذ عودته إلى
سدة الحكم في يناير 2025م، أبدى ترامب تصميمًا واضحًا على مواجهة التهديدات
الإيرانية بحزم أكبر، ففي 4 فبراير أصدر مرسومًا تنفيذيًا يهدف إلى تصفير صادرات
النفط الإيرانية، بما في ذلك تلك المتجهة إلى الصين، وتعزيز عزلة النظام الإيراني.
وشدد المرسوم على أن سلوك إيران يشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، مؤكدًا ضرورة
فرض أقصى درجات الضغط لإنهاء تهديدها النووي، والحد من برنامجها للصواريخ
الباليستية، ووقف دعمها للجماعات الإرهابية. كما تضمن المرسوم تكليف وزير الخزانة
بفرض عقوبات فورية على الأفراد والكيانات المنتهكة للعقوبات المفروضة على إيران،
وإطلاق حملة مستمرة لضمان تنفيذ هذه العقوبات ومنع وصول الموارد المالية إلى النظام
الإيراني وميليشياته.
إلى جانب ذلك،
أوكل ترامب إلى وزير خارجيته مهمة إلغاء أو تعديل الإعفاءات من العقوبات وقيادة
حملة دبلوماسية لعزل النظام الإيراني عالميًا. وبالإضافة إلى ذلك، وقّع مذكرة
رئاسية تجيز نهجًا صارمًا تجاه إيران بهدف منعها من الحصول على سلاح نووي، محذرًا
مما وصفه بـ"القضاء على إيران" إذا حاولت اغتياله أو استهداف المصالح الأمريكية.
لكن التصعيد
لم يقتصر على الجانب الاقتصادي والدبلوماسي، إذ
أفادت تقارير بأن الإدارة الأمريكية قدّمت خططًا عسكرية تشمل توجيه ضربات انتقائية
ضد منشآت حساسة في إيران، كإجراء ردعي في حال تصاعدت التهديدات الإيرانية. كما صعّدت
واشنطن من وجودها العسكري في المنطقة، حيث تم إرسال تعزيزات إضافية إلى قواعدها
هناك، في خطوة توحي بأن استراتيجية "الردع المطلق" التي يتبعها ترامب قد تتجاوز
العقوبات الاقتصادية إلى خيارات أكثر خطورة، مما ينذر بمزيد من التوترات إذا قررت
طهران الرد بعمليات انتقامية مماثلة.
رسالة ترامب والرد الإيراني
في تطور لافت، وجّه ترامب
رسالة مباشرة إلى القيادة الإيرانية عبر قنوات دبلوماسية غير معلنة، تضمنت تحذيرًا
صارمًا من أي تحركات انتقامية ضد المصالح الأمريكية أو استهداف شخصيات بارزة،
مشددًا على أن أي تصعيد إيراني سيُواجَه برد عسكري غير مسبوق. الرسالة ـ التي حملت
نبرة تهديد واضحة ـ لم تخلُ من إشارات إلى إمكانية التفاوض، حيث أكد ترامب أن
الفرصة لا تزال قائمة أمام طهران لإبرام "اتفاق جديد أكثر صرامة"، يتضمن قيودًا
دائمة على برنامجها النووي والصاروخي، كما شدد على أن الوقت ينفد أمام إيران، وأن
البديل الوحيد للمفاوضات سيكون مواجهة عسكرية قد تخرج عن نطاق السيطرة.
الرد الإيراني جاء سريعًا
وعنيفًا، إذ رفضت طهران فحوى الرسالة جملةً وتفصيلًا، معتبرةً أنها محاولة يائسة
لفرض إملاءات أمريكية بالقوة. وأعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن بلاده لن
تتفاوض تحت التهديد، مؤكدًا أن أي عمل عسكري أمريكي سيُقابل برد قاسٍ "يفوق توقعات
البيت الأبيض". من جانبه، وصف القائد العام للحرس الثوري الإيراني رسالة ترامب
بأنها "دليل على ارتباك واشنطن وعجزها عن فرض خياراتها بالقوة"، مشددًا على أن
إيران لن تتراجع عن سياساتها الدفاعية والإقليمية، بل ستواصل تعزيز نفوذها في
المنطقة. وفي هذا السياق، أشار مصدر مقرب من دوائر صنع القرار في طهران إلى أن
القيادة الإيرانية تنظر إلى التصعيد الأمريكي باعتباره جزءًا من استراتيجية تفاوضية
خشنة، تهدف إلى دفعها لتقديم تنازلات دون مقابل حقيقي، وهو ما يجعل الرد الإيراني
أكثر تصلبًا، مع تصعيد تدريجي عبر تحريك حلفائها الإقليميين وتكثيف الأنشطة
الاستخباراتية والعسكرية بشكل غير مباشر.
|
تحاول إيران موازنة موقفها بين
التصعيد وإبقاء قنوات التفاوض مفتوحة، فأشار وزير الخارجية أن طهران مستعدة
للدخول في مفاوضات على قدم المساواة، وهو ما يعكس إدراك القيادة الإيرانية
لصعوبة المواجهة المباشرة مع واشنطن |
بين التصعيد
والتفاوض
لا تبدو طهران راغبة في
الانجرار إلى مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته لا تريد أن
تبدو ضعيفة أمام مؤيديها، فبينما يواصل الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان نفي أي
علاقة لحكومته بمخططات الاغتيال ضد ترامب، تؤكد تقارير استخباراتية أمريكية أن
إيران مستمرة في تمويل وتوجيه عمليات سرية تستهدف شخصيات سياسية أمريكية، في محاولة
لفرض معادلة جديدة في الصراع مع واشنطن. وبعيدًا عن حرب التصريحات، يبدو أن إيران
تحاول كسب الوقت من خلال تعزيز برنامجها النووي، حيث كشفت تقارير استخباراتية أن
طهران تسابق الزمن لتطوير سلاح نووي بدائي، يمكن استخدامه كورقة ضغط في أي مفاوضات
مستقبلية، كما تحاول إيران توظيف علاقتها مع روسيا
والصين لإيجاد بدائل للضغوط الأمريكية، وهو ما يضع إدارة ترامب أمام تحدٍ جديد،
يتمثل في كيفية احتواء نفوذ طهران دون الدخول في حرب شاملة.
في الإطار؛
صعّدت إيران من استعراض قوتها العسكرية في رسالة واضحة إلى واشنطن وحلفائها، حيث
أعلنت السلطات الإيرانية عن دخول حاملة الطائرات المسيّرة "بهمن باقري" إلى الخدمة،
ووصفتها بأنها أكبر مشروع عسكري بحري في تاريخ الجمهورية الإيرانية، وتتيح هذه
الحاملة لإيران تعزيز وجودها في المياه البعيدة، حيث تم تزويدها بصواريخ كروز بعيدة
المدى وأنظمة دفاع جوي وطائرات مسيّرة، مما يمنحها قدرة هجومية ودفاعية غير مسبوقة،
وبالتزامن مع ذلك كشفت إيران عن صواريخ باليستية جديدة، من بينها صواريخ "اعتماد"
بمدى 1700 كيلومتر، مما يعزز من قدراتها على تهديد أهداف بعيدة المدى، ولا شك أن
هذه التطورات تثير قلق الدول الغربية، التي ترى أن طهران تسعى لترسيخ هيمنتها
الإقليمية عبر ترسانة عسكرية متطورة.
ورغم هذا
الاستعراض العسكري،
تحاول إيران موازنة موقفها بين التصعيد وإبقاء قنوات التفاوض مفتوحة، فأشار وزير
الخارجية أن طهران مستعدة للدخول في مفاوضات على قدم المساواة، وهو ما يعكس إدراك
القيادة الإيرانية لصعوبة المواجهة المباشرة مع واشنطن.
في الوقت
ذاته، ترسل طهران إشارات إلى دول المنطقة بأنها لا تسعى إلى تهديد أمنها، بل تؤكد
أن تعزيز قدراتها العسكرية يأتي في إطار سياسة الردع ومنع أي اعتداء محتمل. لكن هذه
الرسائل لا تطمئن العواصم العربية او الغربية على حد السواء، التي ترى أن تطوير
إيران لقدراتها الصاروخية والمسيرات، إلى جانب دعمها المستمر للميليشيات في
المنطقة، يشكل تهديدًا طويل الأمد قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب.
إلى أين يتجه
المشهد؟
المشهد الحالي
يطرح العديد من السيناريوهات المحتملة لما قد يحدث خلال الأشهر المقبلة، يمكننا
إيجازها فيما يلي:
* السيناريو
الأول، وهو الأكثر احتمالًا، يتمثل في استمرار التصعيد المتبادل دون الوصول إلى
مواجهة مباشرة، حيث تواصل الولايات المتحدة فرض المزيد من العقوبات، في حين تستمر
إيران في اتباع تكتيك الصبر الاستراتيجي، مع تكثيف أنشطتها الاستخباراتية والعسكرية
بشكل غير مباشر، وتواصل طهران توظيف أوراقها الإقليمية بذكاء، عبر تحريك حلفائها
مثل "حزب الله" و"الحوثيين"، والتفاوض على أدوارهم الإقليمية كجزء من أي تسوية
مستقبلية.
* السيناريو
الثاني، يتمثل في حدوث اختراق دبلوماسي يؤدي إلى تهدئة التوتر، ربما عبر وساطة
دولية تقود إلى استئناف المفاوضات حول الملف النووي، مقابل تخفيف بعض العقوبات
المفروضة على إيران، إلا أن هذا السيناريو يواجه عقبات كبيرة، في ظل إصرار كل طرف
على عدم تقديم تنازلات كبيرة للطرف الآخر، وتزداد صعوبة هذا الاحتمال بعدما حض
المرشد الإيراني علي خامنئي، حكومة بلاده، على عدم التفاوض مع واشنطن، معتبرًا أن
خطوة مماثلة ستكون "متهورة"، وبرر خامنئي موقفه بـ"خبرة في التعاطي مع الولايات
المتحدة" التي لم تلتزم باتفاقات سابقة مع طهران، بالرغم من ذلك لا يبدو هذا
السيناريو مستحيلاً بعد أن أبدى ترامب رغبته في التوصل إلى اتفاق نووي موثق مع
إيران، بدلاً من المواجهة العسكرية.
في النهاية،
يبدو أن الصراع الأمريكي ـ الإيراني لن يهدأ قريبًا، بل قد يدخل في مرحلة جديدة من
التوتر، حيث يحاول كل طرف فرض شروطه على الآخر، في معركة لا تزال مفتوحة على جميع
الاحتمالات.