في إطار المواجهة العسكرية، تحسب إسرائيل جيدًا المكونات المعيارية للردع والهزيمة والدفاع، فعندما يتعلق الأمر بالمواجهة العسكرية مع دولة يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة على بعد مئات الأميال، لن يكون الأمر مماثلًا للتعامل مع دولة أو ميليشيا على الحدود
خلال السنوات الماضية، كان
التركيز الإسرائيلي مُنّصب بشدة على الملف النووي الإيراني، وهو بالطبع في مقدمة
أولويات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لأن التعامل مع إيران النووية لن يكون كما
هو الحال الآن مع إيران غير النووية، كانت الاستراتيجية الإسرائيلية خلال الثلاثين
عامًا الماضية ناجحة بالفعل، في توحيد رؤى الإدارات الأمريكية المتتالية والاتحاد
الأوروبي ودول المنطقة للإبقاء على إيران مفتقرة إلى القدرة النووية، لكن الاستمرار
في تأخير هذا الطموح في المستقبل قد لا يكون مضمونًا، خاصةً وأن الشعب الإيراني
الذي دفع ثمناً باهظاً للغاية مقابل اهتمام نظامه بالقدرة النووية، لا يزال صامدًا،
كما أن الوضع الداخلي في إيران والمرشح للانفجار في أي لحظة، قد يتم توظيفه للذهاب
إلى ميدان الحرب، بدلًا من الانصياع للعقوبات والعدول عن الرغبة في امتلاك الأسلحة
النووية، وإذا كانت إسرائيل تخشى من حصول الإيرانيين على السلاح النووي، وتخشى من
عودة الاتفاق النووي أيضا، فإنها في ذات الوقت تخشى الحرب مع إيران، وإن أبدت غير
ذلك على الدوام.
فالنظام الإيراني مهتم
بالقدرة النووية أولاً وقبل كل شيء لضمان استقراره، لكن بالنسبة لإسرائيل فهذه قضية
وجودية، فإلى جانب أنها ستفقد ميزة كونها القوة النووية الوحيدة في منطقة الشرق
الأوسط، فإنها قلقة من سباق تسلح نووي في المنطقة، حيث يمكن لبعض الدول أن تحذو حذو
إيران وتحاول تحقيق قدرات نووية هى الأخرى، وقبل كل ذلك فإن قادة النظام الإيراني
يهددون ليل نهار بمحو إسرائيل من الوجود، وهذا الخطاب ـ وإن كان سطحيًا الآن ـ فإنه
لن يكون كذلك عند امتلاك هؤلاء القادة للسلاح النووي. بالنسبة للإسرائيليين؛ فإن
الملف الإيراني بأكمله ليس تحديًا عملياتيًا محددًا، ولكنه تحديًا أعلى من ذلك
بكثير، لذلك فإنها تدفع في مسارات عدة من أجل التعامل معه، فالتحدي الذي تشكله
إيران لإسرائيل غير مسبوق، في إطار المواجهة العسكرية، تحسب إسرائيل جيدًا المكونات
المعيارية للردع والهزيمة والدفاع، فعندما يتعلق الأمر بالمواجهة العسكرية مع دولة
يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة على بعد مئات الأميال، لن يكون الأمر مماثلًا
للتعامل مع دولة أو ميليشيا على الحدود، فالمواجهة مع إيران تتطلب منافسة
استراتيجية طويلة الأجل، خاصةً وأنه إذا كانت إسرائيل تعتقد على الدوام أن إيران
تسعى إلى زوالها، فإن إيران هى الأخرى تعتقد أن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل
تسعيان إلى تفكيك نظامها الحاكم منذ تأسيس جمهوريتها الحالية في عام 1979، وهذه
الاعتقادات تدفع كلا الجانبين إلى مزيد من الحيطة والتسلح.
"إسرائيل يجب أن تدافع عن
نفسها، فنحن نعدّ أنفسنا في هذا الوقت على جبهات عديدة على الحدود الجنوبية
والشمالية، وكذلك في مواجهة التهديدات التي تمثلها إيران، سواء بشكل مباشر أو غير
مباشر عبر وكلائها"، هكذا تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس، ملمّحًا إلى
إمكانية قيام إسرائيل بعمل عسكري ضد إيران إذا تطلب الأمر ذلك، لقد اعتمدت إسرائيل
تاريخيًا على وجود تهديد إيراني في المنطقة لتعزيز قدراتها الرادعة، ولا تزال هذه
الميزة الاستراتيجية هى الورقة الرابحة لدى الإسرائيليين لإقناع الولايات المتحدة
وحلفائها ببعض الخيارات الصعبة الخاصة بالملف الإيراني، بل ويتطلعون إلى استعمالها
لنسف التقارب بين الولايات المتحدة وإيران في ظل إدارة بايدن، التي من الصعب حتى
الآن معرفة ما هي الصيغة النهائية الواضحة التي ستتعامل بها هذه الإدارة مع المف
الإيراني، لكن بأي حال فإن السياسة المعلنة خلال الأشهر الأولى لحكم الرئيس
الأمريكي الجديد ورغبته في اعتماد المسار الدبلوماسي أولًا للحل، تقلل نوعًا ما من
احتمالية الضربة الاستباقية الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية.
فيما يخص العودة إلى
الاتفاق النووي، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة؛ أعلنت إسرائيل موقفها
الواضح ضد العودة إلى اتفاق العام 2015 بصيغته الأصلية، فهى تراه صفقة سيئة لأنها
تضفي الشرعية على البرنامج النووي الإيراني، وترى أن إدارة ترامب قد اتخذت في
السابق القرار الصحيح عندما انسحبت من هذا الاتفاق، لذا تسعى إسرائيل للتأثير على
شكل الصفقة الجديدة مع إيران من خلال الحوار مع الإدارة الأمريكية، وهو الحوار
الجاري بالفعل بالتزامن مع بدء المفاوضات مجددًا في فيينا، في نفس الوقت فإن هناك
جناح لا يُستهان به في إسرائيل لا يريد العودة مطلقًا إلى الاتفاق، سواء بصيغته
القديمة أو بصيغة جديدة، أبرز هؤلاء هو رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الذي يعلل
ذلك بان إيران النووية تشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل وتهديدًا كبيرًا للغاية لأمن
العالم بأسره، معتبرًا أن البرنامج النووي الإيراني في عام 2021 ليس هو نفس
البرنامج الذي كان موجودًا عند توقيع الاتفاق في عام 2015، محذرًا من أن إسرائيل لن
تكون ملزمة باتفاق أُعيِدَ تنشيطه بين القوى العالمية وإيران، وأن إسرائيل ملزمة
بالدفاع عن نفسها ضد أولئك الذين يسعون إلى تدميرها، لكن الأمريكيون يرون أن الهدف
النهائي للاتفاق ـ بأي ضيغة ـ سيكون هو منع إيران من تطوير قنبلة نووية، خاصةً وأن
ثمة تقارير تشير إلى أن إيران الآن باتت لديها ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع
قنبلة، لكنها لا تقترب من الكمية التي كانت تمتلكها قبل توقيع الاتفاق النووي.
الأوروبيون يرون أن جو
بايدن يمكنه الاحتفاظ بمجموعة من الإجراءات الإضافية التي فرضها سلفه دونالد ترامب،
للحفاظ على بعض النفوذ على إيران وإحراز تقدم في القضايا التي تهم جميع الأطراف، لا
سيما برنامج الصواريخ الباليستية والدعم الإيراني لمجموعة من الميليشيات الإقليمية،
لكن إيران تجادل بأن خروج واشنطن من الاتفاق سابقًا كان الانتهاك الأول، وأنه يجب
على الولايات المتحدة اتخاذ الخطوة الأولى وإزالة العقوبات قبل عودة إيران إلى
الامتثال مجددًا، ويحظى هذا الرأي بدعم صيني ـ روسي مع عودة المحادثات، ومما يزيد
الأمور تعقيدًا أن طهران تجادل بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى إلغاء جميع
العقوبات، بما في ذلك الإجراءات غير المتعلقة بالاتفاق والبرنامج النووي الإيراني،
ومن المثير للاستغراب أن العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية على إيران حتى الآن لم
يكن لها سوى تأثير محدود على برنامج إيران النووي، بالرغم من تأثيرها الواسع على
الاقتصاد والشعب الإيراني، لقد أدركت واشنطن أن جهودها المبذولة لتغيير النظام
الحاكم فقد باءت بالفشل، وهو ما يرفع أسهم الخيار العسكري للقيام بالامر، لكن يبدو
أن واشنطن تتجنب المواجهة العسكرية، فيما تتمناها إسرائيل، التي تشعر بالتهديد
الشديد من إيران.
قبل ما يقرب من 40 عامًا
تقريبًا، قررت إسرائيل، التي كان يترأسها حكومتها حينها مناحيم بيجن، تدمير
البرنامج النووي العراقي الناشئ حديثًا، فشلت الوسائل غير التقليدية تأخير البرنامج
العراقي، استنفذ المجتمع الدولي خياراته من تخريب واغتيالات ودبلوماسية، ولكن بعد
ثلاث أعوام ونصف من التخطيط، وفي ظل ائتلاف حكومي إسرائيلي متشدد، دمر سرب إسرائيلي
واحد 6 سنوات من الجهود النووية العراقية في 90 ثانية فقط، مجددًا.. وخلال إدارة
باراك أوباما السابقة، التي دافعت عن النهج الدبلوماسي مع إيران، هددت إسرائيل من
حين لآخر أن تقوم بضربات جوية وقائية ضد المواقع النووية الإيرانية، شكك بعض
المسؤولين الأمريكيين في ذلك الوقت من أن إسرائيل - التي يشتمل جيشها عبلى ترسانة
نووية - يمكن أن تضرب بفعالية أهدافًا إيرانية بعيدة ومشتتة ومحمية جيدًا، كما أن
هذا سيكون صعبًا بدون نوع من المشاركة العسكرية الأمريكية. الآن.. ليس أمام
الإسرائيليين سوى أن يواصل بايدن حملة الضغط الأقصى التي بدأها ترامب على طهران،
والتي تتضمن عقوبات اقتصادية صارمة حتى يتم تفكيك البرنامج النووي الإيراني، يفعلون
ذلك ونصب أعينهم الجهود الدبلوماسية الفاشلة لإقناع العراق للتخلي عن برنامجه
النووي، إلى أن جاء السابع من يونيو 1981، حيث نفذت إسرائيل بنجاح عملية عسكرية،
دمرت من خلالها استثمارات العراق البالغة 10 مليارات دولار في التكنولوجيا النووية
وقتلت بعض العلماء العراقيين البارزين.
الضربة الإسرائيلية، التي
لم تكن إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان على علم بها إلا بعد اكتمالها، أدت إلى
انتكاس برنامج العراق النووي بنحو عقد من الزمان، كما أدانت الأمم المتحدة الضربة
بشدة، وعلقت الولايات المتحدة تسليم أربع طائرات مقاتلة من طراز
F-16 إلى
إسرائيل، لكن إدارة ريجان منعت عقوبات الأمم المتحدة على إسرائيل وانتهى بها الأمر
بتسليم الطائرات بعد شهرين، وفي النهاية انهارت خطط العراق لإعادة بناء المفاعل
بحلول عام 1984، اليوم توجد أوجه تشابه عديدة مع البرنامج الإيراني، فقد استخدمت
حكومة نتنياهو وسائل الإعلام والتخريب والاغتيال لتأخير برنامج إيران النووي على
مدى العقد الماضي، وإذا فشل المسار الدبلوماسي الراهن، سيكون أمام إسرائيل فرصة
لتنفيذ ضربتها العسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني، ولأسباب سياسية وإقليمية
عديدة، سيكون من المنطقي أن تكون هذه الضربة عاجلاً وليس آجلاً، لكن الحسابات
المتغيرة في المنطقة تجعل إسرائيل هذه المرة في حيرة بالغة مرهونة بمخاوفها من
الحرب، والتي لا تقل عن مخاوفها من الاتفاق النووي.