في انتظار الرد الإيراني!

بعد استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، تتبادر إلى الأذهان عدد من الأسئلة: لماذا قامت دولة الاحتلال بهذه الضربة الموجعة تجاه إيران؟ وهل هناك أهمية للتوقيت؟ وهل الحرب في غزة لها علاقة بتلك الضربة؟ ويتبقى السؤال الأهم هل سترد إيران؟ وما طبيعة هذا ال


"على المسؤولين أن يمتنعوا من استخدام عبارة الزمان المناسب والمكان المناسب للرد على العدو، هذه الجملة تسبب القيء بالفعل"

هذا ما صرح به الملا "رسايي" عضو البرلمان الإيراني ردًا على موقف وزارة الخارجية الإيرانية، من استهداف قادة الحرس الثوري الإيراني في دمشق منذ عدة أيام.

فبعد ظهر الأول من شهر أبريل الحالي، أفادت وكالات الأنباء العالمية عن قصف عنيف على قنصلية إيران في العاصمة السورية دمشق. وبعد ذلك بقليل، أعلن الحرس الثوري الإيراني عن مقتل 7 من قادة الحرس الثوري، من بينهم اللواء محمد رضا زاهدي أحد كبار قادة فيلق القدس، ونائبه في الحرس الحاج رحيمي.

وتُعد هذه الضربة من أعنف الضربات العسكرية التي يتعرض لها الحرس الثوري الإيراني بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني.

وبالرغم من أن الكيان الصهيوني امتنع عن الاعتراف الصريح بالقيام بهذه الضربة، إلا أن تصريحات قادة الكيان لمحت أنهم خلف هذا القصف والاغتيال، وهذا ما دأبت عليه الأجهزة الصهيونية في عمليات سابقة مماثلة.

ولكن الجديد في هذه الضربة، وربما ما جعل ذلك سببًا إضافيًا لعدم التصريح بالمسئولية عنها، أن تلك الضربة قد استهدفت منشأة دبلوماسية، وهذا ما يخالف القوانين والأعراف الدولية، والتي تفرض حصانة على تلك المنشآت ومن يتواجد فيها.

ولكن لكي نستطيع فهم ما جرى، ونجيب عن أسئلة تلك الضربة وأهدافها يجب علينا في البداية فهم محددات العلاقات الإيرانية الصهيونية.

إيران والكيان بين السر والعلن

تُعد العلاقات الصهيونية الإيرانية مثالاً حيًا وتجسيدًا لما يعرف بالألعاب السياسية الميكيافيلية، والتي يكون ظاهرها خلاف ما يجري في الخفاء ومن وراء الكواليس.

ولا نقول إنها مؤامرة، بل الذي يدرك خصائص العلاقات السياسية بين الدول في العصر الحديث، يعرف أن تلك العلاقات ليست تعاونًا محضًا أو عداوة أيديولوجية علنية، بل يمتزج فيها التعاون والتنافس، والذي يتم أحيانًا التدخل فيه عسكريًا ليس لحسم الصراع بالضربة القاضية، ولكن لتجميع النقاط، وزيادة الحصول على الأوراق عندما يتم نصب مائدة المفاوضات الخفية منها أو العلنية، أو من خلال الوسطاء.

ووفق تلك الرؤية يرى مركز جيبوليتكال فيوتشرز أن المنافسة الإيرانية الصهيونية، هي منافسة إستراتيجية وليست أيديولوجية أو وجودية، ففي حين أن الأيديولوجية غالبًا ما تكون غير قابلة للتفاوض، فإن القضايا الإستراتيجية قابلة للتسوية.

ولا شك أن كلاً من إيران والكيان الصهيوني لهما طموح في زعامة المنطقة، ويحاول كل منهما صياغة الاستراتيجيات المختلفة والتي تمكنهما من الوصول إلى أهدافهما.

فالرؤية الصهيونية لأهمية إيران لها بدأت مبكرا، مع الإعلان الصهيوني عام 1947 بقيام دولة لهم على أرض فلسطين، فحينها استخدم رئيس الوزراء الصهيوني في ذلك الوقت ديفيد بن جوريون استراتيجية شد الأطراف، تقوم على إيجاد علاقات قوية مع تركيا وإيران وإثيوبيا لضمان حصار الدول العربية والتي كانت تمثل العدو الاستراتيجي لهذه الدولة. ومنذ ذلك الحين، احتلت إيران مكانة بارزة في السياسة الخارجية لدولة الاحتلال، حتى بعد الثورة الإيرانية عام 1979.

وقد استطاع الكيان الصهيوني تطويع الطموح الإيراني وتمدده في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ليصب في صالحه، طالما أن هذا النفوذ الإيراني سيحول دون ظهور قوة سنية عربية كبرى، أو على الأقل سيمثل سياجا يحميها من مواقف عربية موحدة ضدها، وفي نفس الوقت فإنه يستفيد من التهديد الإيراني للدول العربية بحيث يقدم نفسه على أنه المدافع عن المصالح العربية، بإطلاقه التهديدات والتصريحات العلنية ضد الإيرانيين.

 

المصلحة الإيرانية، رأت أن الأولى هي التعامل مع أمريكا والتي تستطيع لجم الكيان إن هي أرادت، كما تستطيع إيران من خلال التعامل مع أمريكا، قبول وانتزاع الاعتراف بها كقوة إقليمية يمكن الاعتماد عليها من قبل قوة عظمى.

ولا يظن أحد أن كل التهديدات الصهيونية لإيران هي مسرحية هزلية، بل بعضها حقيقي وينبع من أن الكيان الصهيوني أصبح ينظر إلى إيران كتهديد، ليس تهديدًا وجوديًا، ولكن كتهديد لطموح الكيان الصهيوني لكي يكون زعيمًا للمنطقة.

فإيران تطمح هي الأخرى لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وباتت تستخدم أذرعها في المنطقة كورقة ضغط على الكيان الصهيوني لمنافسته، والأخطر بالنسبة للكيان هو تمويل إيران لحماس ودعمها بالسلاح.

فحماس بالنسبة للكيان الصهيوني باتت خاصة بعد السابع من أكتوبر التهديد الوجودي الحقيقي له، لأنها في قلب أرضه الموعودة على حد زعمه.

بالنسبة لإيران، فإنها في بداية الثورة ووصول الآيات إلى الحكم، قد أبقت علاقاتها بالكيان الصهيوني سرية، لأنها تتعارض مع الشعارات المرفوعة من قبل النظام والتي تعمل على تصوير الكيان الصهيوني بأنه العدو، في محاولة لتجييش الشارع الإسلامي خلفها واختراقه، ولكنها فور تمدد أذرعها ووصول هيمنتها إلى أربع عواصم العربية، انتقلت الاستراتيجية الإيرانية من التعامل مع دولة الكيان الصهيوني، إلى التعامل مع سيدها.. القوة العظمى العالمية وهي الولايات المتحدة.

فالمصلحة الإيرانية، رأت أن الأولى هي التعامل مع أمريكا والتي تستطيع لجم الكيان إن هي أرادت، كما تستطيع إيران من خلال التعامل مع أمريكا، قبول وانتزاع الاعتراف بها كقوة إقليمية يمكن الاعتماد عليها من قبل قوة عظمى.

ولذلك نلاحظ منذ اندلاع حرب غزة، أن التحركات الأمريكية تهدف دائما إلى مطالبة الكيان الصهيوني علنًا بعدم توسيع الحرب وإبقائها في غزة، بدلاً من أن تتطور إلى صراع إقليمي، والجميع يدرك أن هذا المصطلح يُقصد به حرب بين الكيان وإيران.

فهناك معادلة محسوبة في الصراع بين إيران والكيان الصهيوني برعاية وضمانة أمريكية، بحيث يخرج الطرفان بأقل قدر من الخسائر، وإن بدا بالطبع أن إيران هي المستفيد الأكبر حتى لو بدا أن خسائرها تتعلق بفقدان مستشارين أو قيادات.

ضربة دمشق

جاءت الضربة الصهيونية للقنصلية الإيرانية، كرد على الهجوم بالمسيّرات التي أطلقتها الميليشيات الشيعية العراقية اخترقت الأجواء قادمة من جهة الأردن، وأصابت قاعدة عسكرية في خليج إيلات، حيث تصاعدت أعمدة الدخان.

ولكن في حالة ضربة دمشق الأخيرة، فإن الكيان باستهدافه القنصلية الإيرانية وهي في الأعراف الدبلوماسية وطبقًا للقانون الدولي أرض إيرانية، فكأن الهجوم كان موجهًا إلى إيران نفسها، وبالتالي أظهر إيران بمن فقد قدرتها على الردع، وهذه خسارة استراتيجية تستوجب من إيران الرد.

ولذلك في هذه المرة تبدو التهديدات الإيرانية مختلفة.

ففي نفس يوم الهجوم الصهيوني، أصدر ما يُطلق عليه المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي رسالة، قال فيها إن الرجال الإيرانيين الشجعان سيعاقبون إسرائيل ويجعلون النظام الشرير يندم على مهاجمة القنصلية الإيرانية في سوريا.

وأضاف خامنئي: النظام الشرير سيُعاقب على أيدي رجالنا الشجعان، وسنجعلهم يندمون على هذه الجريمة وغيرها من الجرائم الأخرى.

وخرج بعدها رئيس الأركان محمد باقري بتصريح يقول فيه، إن الهجوم الإسرائيلي لن يبقى بدون رد، مضيفا: سنحدد توقيت ونوعية العملية بدقة، وبأقصى قدر من الضرر للعدو بما يجعله يندم على عمله. وأضاف باقري في كلمة خلال مراسم دفن زاهدي بمدينة أصفهان، أن الهجوم على السفارة الإيرانية في دمشق كان بمثابة انتحار لإسرائيل، سيسرع من عملية انهيارها وزوالها. وعد الرد على إسرائيل مطلبا شعبيا.

بينما قال بيان رسمي من الحرس الثوري بعد تشييع زاهدي، إن الرد لمعاقبة الأعداء سيتحقق تلبية للمطالب الوطنية.

وفي نفس الوقت فإن التصريحات والتحركات الأمريكية تسير في اتجاه أن هناك ضربة منتظرة إيرانية.

ووفق تقرير لشبكة إن بي سي نيوز الأمريكية، فإن مسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن يشعرون بالقلق من أن إيران ربما تخطط لضرب أهداف داخل "إسرائيل".

وقال المسؤولون إن أي رد انتقامي سيكون داخل إسرائيل، ومن المتوقع أن يركز على أهداف عسكرية أو استخباراتية، وليس على المدنيين. وقالوا أيضًا إن الإدارة بدأت في دراسة الخيارات المتعلقة بكيفية الرد على مختلف التحركات الانتقامية المحتملة من جانب إيران.

بينما صرح مسؤول أمريكي كبير آخر للشبكة، إن الولايات المتحدة في حالة تأهب قصوى وتستعد لهجوم كبير محتمل من إيران.

وكدلالة على ما قلناه سابقًا من أن الاستراتيجية الإيرانية أصبحت تتعامل مع أمريكا وليس مع الكيان، فقد قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، بأن الولايات المتحدة قد تلقت رسالة من إيران بعد الضربة في دمشق. وردًا على ذلك، أوضحنا أننا لسنا وراء الهجوم. كما حذرنا إيران من استخدام الضربة كذريعة لمزيد من التصعيد في المنطقة أو مهاجمة المنشآت أو الأفراد الأمريكيين.

ويتبقى الجدال حول طبيعة الرد الإيراني وتوقيته، هل سيكون بغارات من طائرات على منشآت عسكرية صهيونية، أو بقصف صاروخي بعيد المدى؟

ولكن يبدو احتمالاً واردًا، وهو سكوت إيران عن ضرب القنصلية في دمشق والتعامل معها كورقة ضغط للحصول على مكاسب من الولايات المتحدة، تتعلق مثلاً في دخولها كشريك في مشروعات الخط البحري الهندي.

أعلى