• - الموافق2025/01/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مستقبل التغيير في سوريا

تُواجه الحكومة الجديدة في سوريا مشكلة أمنية كبيرة في البلاد، تتمثل في كثرة السلاح في أيدي بعض الطوائف، وخاصةً التي كان يعتمد عليها النظام في الإمساك بزمام الأمن في البلاد.

هل سينجح الحُكم السوري الجديد في الاستمرار؟

هذا هو السؤال الأبرز الذي يدور على الألسنة في عالمنا العربي والإسلامي، ويتعلق بمصير الحكم الجديد في سوريا.

فبعد أن انكفأت فصائل الثورة السورية على نفسها في محافظة إدلب في الشمال الغربي السوري لعدة سنوات، فإذا بها في اليوم السابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي تتحرَّر من قمقمها، وتنطلق منه لتقع في يديها غالبية المحافظات السورية، ولم يستغرق الأمر عشرة أيام، لتصل إلى دمشق، ويتم الإعلان عن إسقاط حكم عائلة الأسد الطائفي، والذي دام خمسين عامًا.

إن الصدمة العالمية والإقليمية والشعبية التي صاحبت التغيير في سوريا، لا تقل عن الصدمة التي أحدثها هجوم طوفان الأقصى، والذي شنَّته فصائل المقاومة الفلسطينية بزعامة كتائب القسام على جنوب الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر في عام ٢٠٢٣م؛ إن لم تكن أشد وطأة.

ولكن بعد الفرحة العارمة -والتي لم تقتصر على سوريا وحدها، بل عمَّت أرجاء الأمة الإسلامية- بزوال حُكم الأقلية النصيرية، وتصدُّع المشروع الإيراني في المنطقة؛ حانت لحظة التفكُّر والقلق على ما ينتظره هذا التغيير.

والذي يستدعي القلق هو حجم التحديات التي تُواجه الحكم في سوريا بعد سقوط الأسد.

فهناك قوى دولية لا تزال موجودة في سوريا، ولها قواعدها العسكرية على الأرض كالولايات المتحدة، أو موجودة في قواعدها البحرية مثل روسيا، كما تعاني سوريا من تدخُّل دُوَل إقليمية بأجندتها التوسعية، مثل إيران والكيان الصهيوني.

وكلّ من هذه القوى الدولية والإقليمية لها أدواتها من تنظيمات وميليشيات مُسلَّحة داخل سوريا تنتمي إلى طوائف مختلفة؛ سواء عِرْقية أو مذهبية أو دينية، والتي تضغط بها هذه الدول في محاولة لتشكيل النظام القادم ليخدم أجندتها وأهدافها.

لذلك ولتوقع مستقبل التغيير الحاصل في سوريا لا بد من تحليل أغلب تلك العوامل المؤثرة في هذا المشهد، ومعرفة أيّ الاتجاهات الحالية ستتمدد في المستقبل، ومِن ثَم رَسْم السيناريو المرغوب، والذي يمكن أن يؤدي إليه هذا التغيير.

السيناريو كأداة للتوقع

السيناريو هو وصف لوضع مستقبلي ممكن أو محتمل أو مرغوب فيه؛ يتم من خلاله توضيح ملامح المسار أو المسارات التي يمكن أن ينجم عنها هذا الوضع المستقبلي؛ وذلك انطلاقًا من الوضع الراهن أو من وضع ابتدائي مُفتَرَض.

وهذا التعريف يجعل السيناريو مكونًا من ثلاثة أجزاء؛ وضع ابتدائي مُفترَض، ووضع مستقبلي، ومسارات من الابتدائي إلى المستقبلي.

أيّ إن بناء السيناريو هنا يَعتمد على ثلاث خطوات:

- تحديد الوضع الراهن أو الابتدائي، والذي يُؤثِّر فيه الوضع السوري الداخلي والخارجي.

- وصف الوضع المستقبلي، إما بكونه وضعًا مرغوبًا فيه، أو محتملًا، أو ممكنًا.

- تعيين المسارات التي سيسير فيها السيناريو.

وضع سوريا الجديد بعد إسقاط بشار

في أواخر شهر نوفمبر الماضي؛ أعلنت الفصائل السورية المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام في محافظة إدلب بَدء عملية أطلقت عليها «ردع العدوان».

قطعت الفصائل الطريق الدولي بين دمشق وحلب، ومِن ثَم سيطرت على معظم أحياء حلب في مفاجأة أذهلت الجميع.

وبعدها تقدَّمت تلك القوات إلى حماة لتعلن سقوطها في أيديها، وتتوالى سقوط المدن بعدها، حتى استولت على حمص، وفي هذه الأثناء كانت هناك فصائل أخرى مسلحة تسيطر على درعا، بينما تحركت مجموعات درزية مسلحة لتتسلم من قوات بشار الأسد محافظة السويداء.

بينما تحرَّكت فصائل كردية -والتي تُعرَف اختصارًا باسم قسد-؛ لتسيطر على محافظتي الحسكة والرقة وبعض أحياء حلب الشرقية.

وفي فجر يوم الثامن من ديسمبر 2024م، أعلنت الفصائل القادمة من درعا دخول دمشق وبثّ التليفزيون السوري الرسمي أول بيان للفصائل بعد هروب الأسد، وفي خلال ساعات انسحبت المجموعات الجنوبية من العاصمة، وأخلت أماكنها لقوات الفصائل القادمة من الشمال، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام بزعامة أحمد الشرع، والذي بادَر على الفور بتشكيل حكومة مؤقتة تُدير أمور البلاد.

ولكن ما هي إستراتيجيات الحكومة المؤقتة تلك؟

بعد ما يقرب من شهر من عُمْر هذه الحكومة المؤقتة، وباستقراء سلوكها، سواء في هيكلتها الداخلية، أو علاقاتها مع الأطراف السورية المختلفة، أو علاقاتها الإقليمية والدولية؛ نستطيع تبيُّن خصائص تلك الإستراتيجية على النحو التالي:

بالنسبة لهيكلتها الحكومية، نجد أن الشرع كان حريصًا على أن يأتي تشكيل وزراء حكومته من الدائرة المقربة منه، خاصةً من مجموعة هيئة تحرير الشام، والتي كانت تتولى المناصب التنفيذية أثناء إدارته لإدلب، وهذا ما سبَّب انتقادات كثيرة له؛ سواء خارجيًّا، أو داخليًّا.

ويبدو أن الدوافع من وراء ذلك، هو أن يكون أداء الحكومة منسجمًا بدون أيّ تشاحنات أو تعارض في وجهات النظر، وخاصةً أنهم ممن اشتغلوا معه في حكومة إدلب في نفس التخصصات، فهو يثق في أدائهم. كما يبدو أن الشرع لا يريد تكرار نموذج «مرسي» في إدارته للدولة المصرية أثناء فترته القصيرة، والتي اعتمدت على تحالفات من خارج الفصيل الذي ينتمي اليه الرئيس المصري حينذاك، وهو ما صرَّح به الشرع في حديثه للجزيرة منذ عدة سنوات.

فالرجل استوعب التجارب السابقة، سواء التي مرَّ بها هو نفسه في انتماءاته المختلفة لتنظيمات وجماعات، أو تجارب الآخرين سواء كانت تجارب العمل السياسي في دُوَل ما يُعرَف بـ«الربيع العربي»، أو تجارب التنظيمات والجماعات المسلحة.

فالرجل يحاول الموازنة بين منهجين؛ مراعاة قواعد اللعبة الموجودة، والحركة في المتاح. وفي الوقت نفسه، فإن الجانب العسكري الذي ينتمي له، يُبْقِي عليه فعالًا مُلوِّحًا به عند الضرورة.

ولذلك جاءت الممارسات التي قدَّمها تتسم في الجانب الأكبر منها بروح التصالح ومد يد السلام، مع دول الجوار ومع دول الغرب والعالم، وهذا كان له ردّ فعل، فتهافتت وفود الدول الغربية والعربية إلى دمشق، مع أن الشرع على رأس فصيل (هيئة تحرير الشام) تم تصنيفه «إرهابيًّا» في دول عديدة.

وفي الوقت نفسه، فإن الأمر إذا استدعى الحسم، فإن قوات الحكم سرعان ما تتدخَّل، وتتوجَّه إلى بؤر الفوضى والانفلات الأمني والتمرُّد وتتعامل معه.

وهذا الأداء، يُظهر سمات شخصية قائد الإدارة الحاكمة أحمد الشرع، ففضلًا عن الهدوء والاتزان، فإنه على ما يبدو يمتلك رؤية وتصوُّرًا كاملًا لما يريد أن يفعله، وكيف يصل إلى أهدافه، وذلك يظهر في تصميمه على المُضِي في طريقه وأسلوبه مهما تعدَّدت الانتقادات المُوجَّهة له.

وتُعدّ ملفات الأمن، والأقليات، والاقتصاد، من أكبر التحديات التي تُواجه الحكم الجديد.

الأمن

تُواجه الحكومة الجديدة في سوريا مشكلة أمنية كبيرة في البلاد، تتمثل في كثرة السلاح في أيدي بعض الطوائف، وخاصةً التي كان يعتمد عليها النظام في الإمساك بزمام الأمن في البلاد.

وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات واضحة على وجود بدايات حرب عصابات يقوم بها أنصار النظام السابق، إلا أن الخوف من محاولة بعض القوى الإقليمية والدولية والتي تخشى من استقرار الوضع السوري، فتحاول إثارة الفوضى داخل الدولة، الأمر الذي يجعل خطوة التعجيل ببناء الجيش والشرطة أمرًا لا مفر منه.

ومن أجل التعامل مع الوضع الأمني المقلق؛ اتبعت القيادة الجديدة لسوريا إستراتيجية لضبط الأمن في ربوع البلاد، تدور حول سردية واحدة، تقضي بسحب السلاح غير الشرعي، وحَصْره بيد الدولة عبر مؤسسة الجيش الذي بدأت بإعادة تشكيله، وبجواره شرعت في تجهيز دورات لتخريج عناصر شرطية تتولى ضبط الأمن.

تتضمّن الإستراتيجية الأمنية عدة عناصر؛ من أهمها:

- دعوة منتسبي الأجهزة العسكرية والأمنية في النظام السابق إلى التوجُّه نحو مراكز مخصَّصة لذلك لتسليم أسلحتها، وذهب بالفعل عشرات الآلاف من هؤلاء، وأعطيت لهم بطاقات هوية خاصة؛ فهي بهذا الإجراء قد قامت بالفصل بين مَن ينوي التمرُّد على النظام، ومَن يريد التعايش بسلام في الوضع الجديد.

- التوجُّه إلى بُؤَر تمركز أنصار النظام السابق، وتمشيط الشقق بحثًا عن المتمردين، واعتقال كلّ مَن يُشتبه في التعاطف مع نظام بشار، وبعدها إطلاق سراح مَن لم يثبت تمرُّده.

- التعامل بحزم مع الذين واجهوا قوات الأمن بالسلاح، وأوقعوا أفراد الأمن في كمائن، ومِن ثَم القضاء عليهم.

- إيجاد آليات للتعاون مع وجهاء المناطق التي تبدو متمردة، لتسليم ما لديها من سلاح، والإرشاد عن العناصر التي ترفض ذلك.

الأقليات

بالرغم من عدم وجود إحصاء دقيق يتم فيه تصنيف السوريين على أساس العرق أو المذهب أو الدين، فأقل تقدير لأهل السُّنَّة هو ما أشار إليه تقرير وزارة الخارجية الأمريكية للحريات الدينية لعام 2023م؛ بأن 74% من السكان هم من أهل السُّنة التي تتنوع في أعراقها بين العرب الأكثرية، والأكراد والشركس والشيشان، وبعض التركمان. وفي التقرير نفسه، تُناقِض وزارة الخارجية الأمريكية نفسها حين تقول: إن أكثر من نصف سكان البلاد لا يزالون نازحين مقارنةً بتعدادهم قبل 2011م، فكيف يمكن إذن تحديد نسبة أهل السُّنة؟

وهذا ما أشار إليه موقع «أوريان 21» الفرنسي للدراسات الإستراتيجية؛ حيث أرجَع انخفاض نسبة السُّنة العرب في الإحصائيات الحديثة، إلى لجوء عدد كبير من العرب السُّنة لدول أخرى.

ويمكن إضافة سبب آخر لظهور العرب السنة بنسبة أقل، وهو النهج الطائفي الذي اعتمده بشار الأسد في تعامله مع المعارضين لحُكْمه، فكثير من مصادر أهل السُّنة تُؤكّد على أن نسبتهم في سوريا تصل إلى 90%.

ولكن متى كانت نِسَب المذاهب أو الأعراق في منطقتنا في العصر الحديث دليل قوة أو ضعف؟ فالأمر يعتمد على مدى ما تتمتع به الطائفة من دعم خارجي، يجعلها قادرة على فرض خياراتها.

وهذا ما يحدث في سوريا، فالأكراد المنضمّون لـ«قسد» يعتمدون على الوجود الأمريكي في المنطقة في الحصول على نصيب كبير في كعكة الحكم، كما يُلوِّحون بدعم الكيان الصهيوني، بينما تحاول الفصائل العسكرية للدروز الاحتماء بالكيان الصهيوني، وفي نفس الوقت تتلقَّى بعض فصائل الميليشيات المسلحة في درعا دعمًا من بعض دول الجوار والإقليم.

ومن الجدير بالذكر أن الطائفة المسيحية في سوريا، والتي تصل نسبتها إلى 2% تتلقَّى دعمًا فرنسيًّا.

هذا الدعم الخارجي جعل الميليشيات الطائفية ترفض الاندماج في الجيش الذي بدأ «الشرع» في بنائه؛ ليكون جيش الدولة الجديد؛ حيث اشترط «الشرع» على جميع التنظيمات العسكرية سواء كانت عربية سُنية أو طائفية الانضمام داخل الجيش كأفراد وليس كمجموعة واحدة، بينما الميليشيات الطائفية تعرض الاندماج ككتلة واحدة داخل الجيش، بحيث لو تعارضت مصلحة الطائفة مع توجهات الدولة سهل عليها الانفصال، وهذا هو ما حدث مع الجيش اللبناني في بداية الحرب الأهلية عام 1975م، حين تفككت أولويته؛ فانحاز كل لواء إلى طائفته.

ولكن في سوريا، وصل الأمر أن مَنَعت ميليشيات الدروز قوات الإدارة العسكرية من دخول السويداء التي تسيطر عليها تلك الميليشيات الطائفية.

فالتحدي الكبير الذي يواجه نظام الحكم الجديد في هذا الملف، والذي يمكن مواجهته بتبنّي إستراتيجية واضحة تدير التنوع والتعدُّد، وتحاول إدماجه بالحسنى، أو إذا تم الاضطرار إلى اللجوء لمشرط الجراح، يُستخدم بمهارة وبأقل تكلفة.

وأولى خطوات إستراتيجية إدارة التنوع، هي إقامة مؤتمر وطني جامع، يكون بمثابة تجمُّع لأهل الحل والعقد، ليُقرّر المشاركون فيه مستقبل سوريا؛ حيث ستُشَكَّل لجان قانونية وحقوقية من أجل كتابة دستور جديد، تمهيدًا لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. وبالفعل قامت الإدارة الجديدة لسوريا، بتحديد موعد المؤتمر بعد تأجيل لعدة مرات؛ حيث سيكون يوم 20 فبراير، برعاية أُممية، وقد تم تحديد الفئات المشاركة فيه، ومعايير المشاركة.

الاقتصاد والخدمات

تشير الأرقام إلى أن أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، وبحاجة ماسَّة إلى مساعدات إنسانية عاجلة؛ حيث تحتاج سوريا إلى أكثر من 500 مليار دولار من أجل إعادة إعمار ما دمَّره نظام الأسد.

وهناك عامل مُهِمّ في الفشل الاقتصادي السوري، يتمثل في فساد النظام السابق؛ فقبل اندلاع الثورة في 2011م، كانت سوريا تحتل المرتبة 127 من أصل 178 دولة في مؤشر الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية، وبحلول عام 2023م، تراجعت إلى المرتبة 177 من أصل 180 دولة.

فالنظام البيروقراطي في هيكل الحكومة فاسد، وإعادة الشفافية له سيحتاج إلى وقت، ولذلك عمدت الإدارة الجديدة إلى محاولة إخراج الاقتصاد جزئيًّا بعيدًا عن الجهاز الإداري الحكومي، باعتماد آليات اقتصاد السوق الحر.

ولن يتم حل المشكلة الاقتصادية في سوريا بمجرد تقديم المعونات والمساعدات، بل بتدفق الاستثمارات الأجنبية والتي تقيم المشروعات الزراعية والصناعية.

ولكنّ العائق الكبير يتمثل في العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على نظام الأسد لسلوكه الدموي حيال السوريين.

ولكن يبدو أن العقوبات ستبقى جزئيًّا، لتكون ورقة مساومة للغرب ضد النظام الجديد، ليضمنوا تبعيته.

موقف القوى الدولية والإقليمية

نظرًا لطبيعة الجغرافيا السورية، فقد جعلها هذا بمثابة القلب في صراعات الشرق الأوسط، ومركزًا للتنافس وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية.

وإذا تأملنا خريطة القوى المتصارعة في سوريا في العقد الأخير؛ نجد أنها تتكون من تركيا وإيران والكيان الصهيوني وبعض الدول العربية كقوى إقليمية، ثم الولايات المتحدة وروسيا كدول تتصارع لتشكيل النظام الدولي.

وسنأخذ مثالًا بأكبر قوتين تأثيرًا في المشهد السوري ومستقبله، وهما تركيا والولايات المتحدة.

تركيا

لا يكاد يختلف أحد أن احتضان تركيا للثورة السورية وحمايتها لإدلب من دخول وسيطرة قوات بشار الأسد والميليشيات الإيرانية، هي التي أبقت على الثورة السورية حية، ولذلك دفعت تركيا من أجل حماية هذا الجيب السوري أثمانًا غالية.

وتتنوع الأهداف التي تنظر إليها تركيا إلى سوريا: منها جيوسياسي وما يتعلق بالتنافس الإقليمي في المنطقة، ومنها ما يرتبط بالأمن القومي التركي ومنع تهديدات الجماعات المسلحة الكردية في الشمال الغربي السوري، ومنها الاقتصادي، بكون سوريا سوقًا للصادرات والاستثمارات التركية، وهناك هدف آخر ظهر بعد نزوح السوريين إلى تركيا وبروز مشكلة اللاجئين.

لقد التقطت حكومة حزب العدالة اللحظة المناسبة للتغيير بعد صبر إستراتيجي طويل، وهي اللحظة التي تجمع فيها انكفاء الدَّاعمَيْن الأساسيَّيْن لنظام الأسد؛ وهما: النظام الإيراني وروسيا.

فالنظام الإيراني بعد الضربات الموجعة التي تلقَّاها من الكيان الصهيوني، وكذلك ما تم من إضعاف ذراعه الأقوى في المنطقة، وهو «حزب الله»، بعد اغتيال قياداته؛ بات الإيرانيون قابعين في حدودهم يحاولون حماية نظامهم ومشروعهم النووي.

أما روسيا، فقد انكمشت على نفسها أيضًا، بعد محاصرتها غربيًّا في حرب أوكرانيا، والتي استنزفت مواردها وقدراتها العسكرية، وكذلك بعد أن تمَّ تقليص نشاط مجموعات فاغنر وقتل قيادتها عقب تمردُّهم على بوتين؛ كل ذلك جعل روسيا في وضع أضعف من مساندة بشار.

وقرأت تركيا الوضع الدولي جيدًا، خاصة مع مرور الإدارة الأمريكية بمرحلة البطة العرجاء، أي العجز السياسي، وهي التي تسبق تتويج الرئيس الجديد.

وفي مقابلة مع قناة محلية تركية، تحدَّث وزير الخارجية التركي «هاكان فيدان» عن الدور التركي في إسقاط النظام السوري، وقال: «إنه أجرى مجموعة من الاتصالات مع نظرائه الروس والإيرانيين؛ لإقناعهم بعدم اعتراض التحرك العسكري الذي بدأته المعارضة السورية».

إن التمدُّد التركي ليس تمددًا استعماريًّا يريد التفرُّد بالزعامة في المنطقة، بل يريد إشراك العرب في تقاسم الأرباح، وذلك في أعقاب ما بدا فيه حال المشروع الإيراني وكأنه على وشك الانهيار. وهذا ما تجلَّى في المشاركة التركية في اجتماع العقبة، والذي شاركت فيه الأطراف العربية المعنية بالأزمة السورية، والتي أعقبها زيارة أردوغان للقاهرة، وخطابه الأخير الذي يحثّ فيه الأمة العربية والاسلامية على المشاركة في إعمار سوريا وعودتها لأمتها مرة أخرى.

الموقف الأمريكي

تتعمد الولايات المتحدة التعتيم على أهدافها الحقيقية من وجودها العسكري في سوريا؛ حيث كانت تُبرِّر سبب وجودها العسكري بهدف مكافحة تنظيم «داعش»، وبعد زوال خطر «داعش»، ادَّعت أنها لحماية تنظيم «قسد» الكردي الذي يحرس المعسكر الذي يتم فيه اعتقال أفراد «داعش» واحتجاز أُسَرهم.

ولكن حقيقة هذا الوجود الأمريكي يتخطَّى هذا الأمر، ليكون جزءًا من إستراتيجيتها للشرق الأوسط، والتي تقضي بوجود قواعد عسكرية في بُؤَر الصراع الإستراتيجية في المنطقة؛ بحيث تحوز ورقة مهمة في الحد من أطماع دول كبرى تنافس أمريكا في الزعامة، أو كبح جماح أيّ قوة إقليمية تتناقض في سلوكها مع الإستراتيجيات الأمريكية. ومن هذا الباب تنظر تركيا بحذر إلى الوجود الأمريكي في شرق سوريا، وهذا ما عبَّر عنه أردوغان بتصريحات غير مباشرة.

بدت الولايات المتحدة في البداية مُرحِّبة -في حذرٍ- بالتغيير في سوريا، مترقبةً -كما يصرح السياسيون في أمريكا وأوروبا- الأفعال وليس فقط الأقوال. ولكنّها في الوقت نفسه زادت من مدّ غطائها للفصيل الكردي «قسد»، والذي شرع في احتلال مناطق انسحاب جيش الأسد، مما جعل المساحة التي يبسط نفوذه عليها تقترب من ثلث سوريا.

وقام الأمريكيون بزيادة دعمهم للجماعات المسلحة الكردية في قاعدة مدينة كوباني (عين العرب)؛ لإيصال رسالة إلى الأتراك بأن أيّ قصف للمدينة، يمكن تعتبره أمريكا موجهًا ضدها.

ولكن هل سيتغير الموقف الأمريكي مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض؟

يبدو موقف ترامب من الوجود العسكري الأمريكي في سوريا غامضًا؛ ففي إدارته الأولى أراد سحب قواته من سوريا، ولكنَّه لم يستطع التنفيذ؛ بسبب معارضة قيادات البنتاجون والذين هدَّدوا بالاستقالة، ولكنَّه في هذه المرة وبعد إسقاط حكم بشار، كان له تصريح لافت حين قال على إحدى شبكات التواصل الاجتماعي: «سوريا في فوضى، لكنها ليست صديقتنا»، وأضاف: «لا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها أيّ علاقة بما يحدث، هذه ليست معركتنا، لندع الأمور تجري، دون أن نتدخل».

ولكن على ما يبدو لا يريد ترامب أن يكون انسحابه مجانيًّا، قبل أن يأخذ من الطرف التركي المستفيد الأكبر من انسحابه ثمنًا، أو أنه سيكون طامعًا في الحصول على عقود إعادة الإعمار للشركات الأمريكية، لذلك حذَّر وزير خارجيته المحتمل «ماركو روبيو» أثناء جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكي تركيا من مهاجمة «كُرد» سوريا.

سيناريوهات التغيير في سوريا

استعرضنا فيما سبق القضايا الرئيسة التي تؤثر على مستقبل التغيير في سوريا، ولكن يمكن اعتبار أكثر القضايا تأثيرًا في تمدُّد المشهد مستقبليًّا: هو تعامل الحكم الجديد مع تحديات الأمن والأقليات والاقتصاد والهوية، وأيضًا مدى التوافق الأمريكي التركي في عهد ترامب.

فالسيناريو المرغوب، وهو المثالي بالنسبة للحكم الجديد، ويعني استمراريته واستقراره، مع تمكُّنه من بَسْط سيطرته على جميع أراضي الدولة السورية، ويكون سلاحه هو السلاح الشرعي الوحيد، وفي نفس الوقت تكون علاقاته الدولية والإقليمية طبيعية.

وهذا يأتي، بعد عدة أمور:

أولًا: عندما يتمهّل الحكم في تطبيق الهوية الأصيلة للشعب السوري؛ حتى يُحْكِم سيطرته على البلاد.

ثانيًا: يتمكن النظام من السيطرة على مناطق نفوذ «قسد»، ودمج العناصر المسلحة في الجيش السوري، ليس ككتلة واحدة ولكن كأفراد، وهذا سيتم بعد حدوث توافق بين أردوغان وترامب، وبعدها سيسهل على الحكم الجديد السيطرة على السويداء ودرعا.

ثالثًا: يستطيع الحكم احتواء أكثر التكتلات والطوائف من السوريين، بعد نجاحه في مؤتمر الحوار الوطني، مما يُمكّنه من تشكيل لجنة للدستور أو اعتماد دستور الخمسينيات مؤقتًا، ومِن ثَم الدعوة للانتخابات لاختيار رئيس ومجلس نيابي، مع بقاء الجيش السوري الجديد كقوة داعمة ضد أيّ محاولات لاستثمار مناخ الحرية السياسية لقلب الأمور.

وهذه الخطوات ستنزع الحجة من دول الغربية وتدفعها لرفع العقوبات، والتي ستُسهم مع الاندماج الإقليمي خاصةً مع الدول العربية الكبرى، في جَذْب مزيد من الاستثمارات الحقيقية، والتي تُدير عجلة الاقتصاد السوري.

قد يكون مثل هذا السيناريو حُلمًا جميلًا ومثاليًّا، ولكن يمكن تحويله لواقع على الأرض بالصبر والمثابرة، خاصةً مع وجود شخصية متزنة وواعية بالتجارب السابقة مثل أحمد الشرع.

  

أعلى