عند التأمُّل في واقع الموارد الطبيعية، والتي يَعُدّها الخبراء مصدرًا مُهمًّا للدخل -إذا جرى توظيفها بشكل جيد وبعيدًا عن الفساد الإداري-؛ نجد أن باكستان غنية بتلك الموارد، ووفق بيانات حكومية، فإن قيمة الاحتياطيات المعدنية غير المستغلة في باكستان تبلغ نحو 6
تُعدّ دولة باكستان من الدول القليلة التي قامت على أساس الدين في القرن العشرين، والذي اشتهر بعصر القوميات؛ حيث كانت القومية أو العِرْق هي الأساس الذي قامت عليه الدول، وتم تخطيط حدودها على هذا الأساس في العصر الحديث.
فقد تجمع المسلمون في شبه القارة الهندية في أربعينيات القرن الماضي، ليُعْلِنُوا عَزْمهم على إقامة دولة لهم منفصلة عن الهندوس، وذلك في أعقاب كشف الاستعمار البريطاني للهند عن نواياه في الانسحاب من شِبْه القارة ودُرَّة التاج البريطاني، وتركها لأهلها.
أما الدولة الثانية في العالم، والتي قامت على أساس ديني في العصر الحديث؛ فهي دولة الكيان الصهيوني، والتي تم تأسيسها في نفس العام تقريبًا في فلسطين لتَجْمع اليهود من الشتات.
ولكنّ الفرق الواضح بينهما يتمثل في أن دولة باكستان تم إنشاؤها في أرضٍ كانت للمسلمين منذ قدم التاريخ، بينما الكيان الصهيوني قام على أرضٍ ليست له، بل تم جلب اليهود من أنحاء العالم للاستيطان فيها، واقتلاع السكان الفلسطينيين من أرضهم وإخراجهم منها.
وبالرغم من مُضِي ما يقرب من ٨٠ عامًا على استقلال باكستان، وبالرغم من امتلاكها سلاحًا نوويًّا، كما أنها تُعدّ سابع أكبر قوات مسلحة في العالم؛ إلا أنه عند مقارنتها بجارتها الهند ومنافستها التقليدية؛ نجد أن الهند يمكن اعتبارها قوة كبرى عالميًّا؛ سواء على الصعيد العسكري والتكنولوجي أو على المستوى المعيشي، بينما لا تزال باكستان تقبع في خانة العالم الثالث من حيث عناصر قوة الدولة عمومًا، أو على أساس دخل الفرد ومستويات المعيشة.
فما السبب الذي يجعل باكستان بعيدة عن التأثير العالمي والمنافسة في سُلّم النظام الدولي؟
ما الذي يمنع أن تكون تلك الدولة -باعتبارها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك قوة نووية- رافعة للأمة الإسلامية مع غيرها من الدول الأخرى التي تسعى لتوسيع دورها العالمي مثل تركيا، لتعود الأُمَّة إلى دورها المأمول وتصبح خير أُمَّة أُخرجت للناس؟
هل هي أسباب خارجية، تتعلق برغبة قوى إقليمية ودولية ببقاء هذا البلد بعيدًا عن الصعود الدولي والإقليمي، غارقًا في مشكلاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟
أم هو أمر يتعلق بأزمة بنيوية داخل النظام السياسي الباكستاني نفسه، والتي من أبرز مظاهرها: الصراع بين الأحزاب المتنافسة على الحكم، والتنازع بين المكونات العرقية، وتدخُّل الجيش الباكستاني في الحياة السياسية؟
كل هذه العوامل تحتاج إلى تفكيك وتحليل لدراسة تأثيرها على مكانة الدولة الباكستانية، وتراجع دورها الإقليمي والدولي الذي كان منتظرًا.
ولكن في البداية لا بد من معرفة مقدار التراجع الباكستاني بحسب المؤشرات العالمية.
باكستان بين الغِنَى في الموارد وفَقْر الشعب
يبلغ عدد سكان باكستان نحو 248 مليون نسمة، مع العلم بأن القوى العاملة فيها تبلغ نحو 106 ملايين.
وعدد السكان الكبير هذا، يتطلب وضع إستراتيجيات متميزة مِن قِبَل النظام السياسي لتوجيه هذا العدد الضخم من السكان لصالح قوة الدولة، وليس العكس؛ كما هو الحادث الآن.
ولكن، ما هو الواقع الاقتصادي والتنموي الفعلي الموجود على أرض الواقع؟
توجد عدة مؤشرات علمية على الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه الدولة الباكستانية.
أُولى تلك الدلائل تشير إليها تقارير مؤسستي البنك وصندوق النقد الدوليين. ففي أحدث تقرير له عن باكستان صادر في شهر أكتوبر الماضي تحت عنوان «توقعات الفقر الكلي لباكستان»؛ يتوقع البنك الدولي، أن يبقى معدل الفقر في باكستان بالقرب من 40% حتى السنة المالية المقبلة 2025/2026م، التي تبدأ في الأول من يوليو من العام المقبل 2025م، في ظل انخفاض الأجور، وارتفاع معدلات البطالة. لافتًا إلى أن النمو الفاتر في القطاعات غير الزراعية أدَّى إلى انخفاض الأجور الحقيقية في مجالات البناء والتجارة والنقل، في حين لم ترتفع معدلات التوظيف ومشاركة القوى العاملة ومؤشرات جودة الوظائف.
ووفقًا لهذا التقرير؛ فإن التضخم المرتفع سيتسبّب في وقوع 2.6 مليون باكستاني إضافي تحت خط الفقر.
وأشار التقرير إلى أن التضخم يتسبب في المزيد من الضغوط على الأُسَر الفقيرة والضعيفة، لافتًا إلى أن نفقات الحماية الاجتماعية زادت، بينما انخفضت نفقات التنمية، مما أدَّى إلى إضعاف تقديم الخدمات الاجتماعية بشكلٍ مثير للقلق.
ومن المتوقع أن يرتفع العجز المالي إلى 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي الجاري، بسبب ارتفاع مدفوعات الفائدة، ولكن من المتوقع أن ينخفض تدريجيًّا مع انخفاض مدفوعات الفائدة؛ وفق ما نقلت صحيفة داون الباكستانية.
وعلى الرغم من أنّ الدولة نجحت في تجنُّب التخلف عن سداد ديونها السيادية العام الماضي؛ إلا أنّها لا تزال تعتمد بشدة على مساعدات صندوق النقد الدولي؛ إذ تواجه مطالبات بسداد ديون خارجية بقيمة 22 مليار دولار في السنة المالية الحالية، أي نحو ثلاثة أضعاف احتياطياتها من النقد الأجنبي.
مع العلم بأن باكستان قد حصلت على أكثر من 20 قرضًا من صندوق النقد الدولي منذ عام 1958م، وهي حاليًّا خامس أكبر مَدِين له؛ حيث يبلغ الدَّيْن الخارجي لباكستان نحو 110 مليارات دولار، بينما يبلغ الاحتياطي الأجنبي لها ما يقرب من 22.8 مليار دولار.
أما الدلالة الثانية على تدهور الاقتصاد؛ فهي مؤشر الجوع العالمي، وهو تقرير سنوي تنشره عدة منظمات دولية، وهو مصمَّم لقياس الجوع وتتبُّعه بشكل شامل على المستويات العالمية والإقليمية والقُطْرية.
وتستند درجات مؤشر الجوع العالمي إلى قِيَم أربعة مؤشرات: نقص التغذية، وتقزم الأطفال، وهزال الأطفال، ووفيات الأطفال.
واستنادًا إلى قِيَم المؤشرات الأربعة؛ يتم حساب درجة مؤشر الجوع العالمي على مقياس من 100 نقطة يعكس شدة الجوع؛ حيث 0 هي أفضل درجة ممكنة (لا جوع)، و100 هي الأسوأ.
فمن 0-10 يكون المؤشر منخفضًا، بينما من 10-20 يكون المؤشر معتدلاً، بينما من 20-35 يكون المؤشر خطيرًا، ومن 35-50 يكون المؤشر مثيرًا للقلق، أما من 50-100 فيكون مثيرًا للقلق للغاية.
وبالنسبة للحالة الباكستانية فإن مؤشر الجوع يشير إلى درجة 27.9؛ أي أن المؤشر يشير إلى خطورة أزمة الجوع في باكستان.
ولكن هل تُعبِّر الأوضاع الاقتصادية الصعبة وانتشار الجوع بين الأفراد عن فقر الموارد الطبيعية لباكستان؟
عند التأمُّل في واقع الموارد الطبيعية، والتي يَعُدّها الخبراء مصدرًا مُهمًّا للدخل -إذا جرى توظيفها بشكل جيد وبعيدًا عن الفساد الإداري-؛ نجد أن باكستان غنية بتلك الموارد، ووفق بيانات حكومية، فإن قيمة الاحتياطيات المعدنية غير المستغلة في باكستان تبلغ نحو 6 تريليونات دولار.
ففي إقليم بلوشستان بجنوب غرب باكستان على الحدود مع أفغانستان وإيران تقع مناجم «ريكو ديك»؛ حيث يعتقد خبراء التعدين أنها تحتوي على بعضٍ من أكبر احتياطيات النحاس والذهب في العالم، ويصل إنتاج المنجم إلى 200 ألف طن من النحاس، و250 ألف أونصة من الذهب سنويًّا، على مدى أكثر من نصف قرن.
بينما وصلت احتياطيات الفحم في باكستان حوالي 175 مليار طن، وهو ما يعادل 618 مليار برميل من النفط الخام. وهذا ضعف حجم أكبر احتياطي النفط الخام بين الدول الأربع الكبرى. وبالمثل، تتميز البلاد أيضًا بإمكانية إنتاج الطاقة الكهرومائية بسبب تنوُّع موارد المياه لدى باكستان.
ومن المثير للاهتمام أن احتياطيات الغاز الطبيعي في باكستان تبلغ حوالي 885.3 مليار متر مكعب، وقد يتم إنتاج المورد بالكامل في العقدين المقبلين، فموارد الغاز مع موارد الفحم، يكفيان لتلبية احتياجات الكهرباء لأكثر من قرنين من الزمان.
وتحتوي هضبة «بوثوهار» في باكستان على أحواض سينداك وملح الصخور، كما أنها غنية بمجموعة متنوعة من المعادن، بما في ذلك: اليورانيوم، والحجر الجيري، والجبس، والملح الصخري، والكروميت، والأحجار الكريمة، وخام الحديد والفضة والبلاط والمجوهرات والكبريت والطين الناري والرخام ورمل السيليكا.
وعليه، فإن ثروات باكستان تُمكِّنها من تبوؤ مكانة مهمة في العالم، ولكنَّ مشكلتها -مثل غيرها من دول العالم النامي-؛ تتمثل في عدم وجود نظام سياسي مستقر، مع شدة حاجتها إلى إدارة علمية منظّمة، وقيادات نظيفة اليد.
الجيش والأحزاب... وأزمة النظام السياسي الباكستاني
طوال تاريخ باكستان، والذي بدأ مع استقلالها عام 1947م، كان الصراع بين العسكريين والسياسيين هو السمة الأبرز للنظام السياسي، والتي أثَّرت بلا شك على التنمية في تلك الدولة الوليدة.
في نظرنا، إن تأثير المؤسسة العسكرية القوي في الحياة السياسية الباكستانية يرجع لعدة عوامل:
الأول: الظلم الذي صاحَب قيام باكستان متمثلاً في المذابح التي لحقت بالمسلمين الذين أرادوا الهجرة إلى الدولة الوليدة، كما يتمثل أيضًا في تقسيم البنجاب، وما حدث في كشمير، وحتى في طريقة التقسيم، والتي جعلت باكستان الشرقية بعيدة جغرافيًّا عن نظيرتها الغربية؛ مما سهَّل انفصالها بعد ذلك.
كل ذلك أجَّج الشعور بضرورة ردّ الظلم الذي لحق بالمسلمين الذين لم يجدوا إلا الجيش لدفع الظلم.
الثاني: الخوف من طغيان الهند ورغبتها في استعادة باكستان وضمّها مرة أخرى إليها، مما أوجَد حالةً من الالتفاف حول الجيش؛ ليحمي الدولة من مخططات الجوار لابتلاعه.
لقد كانت القوات المسلحة هي أول مؤسسة في الدولة تمارس مهامها؛ حيث تم تكليفها خلال العام الأول من عُمر الدولة بأعمال إغاثة اللاجئين القادمين من الهند، وكذلك التدخل في إقليم كشمير الذي احتلته القوات الهندية.
الثالث: هو فساد الطبقة السياسية وانتهازيتها وضعف فكرها الإستراتيجي.
فمثلاً تُعدّ وفاة أول شخصيتين قويتين وزعيمين مدنيين؛ وهما: «محمد علي جناح» الذي يُنظَر إليه باعتباره مُؤسِّس باكستان، و«لياقت علي خان»، والذي شغل منصب أول رئيس وزراء لباكستان، وعدم كفاءة مَن خلفهما مِن المدنيين؛ كانت عاملًا مؤثرًا في تولّي العسكريين زمام الأمور، بينما في الهند الجارة المُنافِسَة لباكستان، فإن الحكام المدنيين الأقوياء أصحاب الرؤى الإستراتيجية الكبرى، من أمثال غاندي ونهرو وأنديرا، كانوا عاملًا حاسمًا في استتباب الأمور لطبقة السياسيين في الهند.
مرَّت باكستان بثلاثة انقلابات عسكرية: انقلاب الجنرال أيوب خان سنة 1956م، والذي خلفه جنرال آخر هو يحيى خان، ثم انقلاب ضياء الحق سنة 1977م، وكان انقلاب برويز مشرف سنة 1999م هو آخر تلك الانقلابات العسكرية.
في عهد الانقلاب الأول؛ حاول العسكريون فرض نموذج تحديثي لمجتمع من المسلمين قائم على أساس علماني؛ يشمل استبعاد الدين من كونه منهجًا للحياة، وفرض نموذج ثقافي غربي، وانتهى هذا العهد بكارثة لباكستان في حربها ضد الهند، جاءت نتيجتها كارثية بالنسبة للدولة، فقد انهزم الجيش الباكستاني، وتمَّ أَسْر ما يقرب من 90 ألف بين جنود وضباط باكستانيين، والأخطر هو فصل باكستان الشرقية واستقلالها؛ حيث عُرفت بدولة بنجلاديش.
ولكنَّ انهيار هذا النموذج دفع باكستان بدلًا من الاتجاه إلى الإسلام، جعلها تتوجَّه صوب تجربة أخرى غربية، ولكن بمفاهيم اشتراكية، وهي حقبة «بوتو»، لينتهي المطاف بباكستان إلى الاتجاه نحو الإسلام على يد العسكر في حقبة جديدة، وهي انقلاب «ضياء الحق».
ويُعدّ دور «ضياء الحق» في الحياة السياسية الباكستانية من أكثر الأدوار إثارةً للجدل في الشأن الباكستاني؛ فهناك رأيان: الأول يَعتبر «ضياء الحق» ما هو إلا شخص ملتزم دينيًّا، حاول تنفيذ أجندته الدينية الإسلامية في المجتمع وداخل الجيش الباكستاني، فحقَّق نجاحات كبيرة أو محدودة، أو فشل؛ مما زاد من نَكْبة هذا البلد، وأغرقه في فوضى مُضاعَفة عما كانت فيه. بينما يرى آخرون أن هذا الشخص كان براجماتيًّا، وأنه استخدم الدين وسيلةً لتوطيد أركان حكمه، وأداةً لحَشْد التأييد ضد الغزو السوفييتي لباكستان؛ استجابةً لرغبة أمريكية، ولاحتواء المد الإسلامي المتنامي في المنطقة.
وبعيدًا عن النوايا، نجد أن الحصيلة تتمثل في بداية مشروع أسلمة الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية والقانونية في باكستان خلال تلك الحقبة، وأن باكستان قد تغيَّرت وانتقلت لمرحلة جديدة من تاريخها. فهناك بالفعل نقلة إستراتيجية.
ويرى الصحفي الباكستاني زاهد حسين أن الجيش في الماضي كان يُعتَبر الضمانة الوحيدة لوحدة أراضي البلاد والأمن الداخلي، لكنَّ «ضياء الحق» وسَّع دوره ليُصبح المدافع عن حدود باكستان الأيديولوجية أيضًا.
في الانقلاب الثالث بزعامة برويز «مشرف»؛ كانت مبرّرات تدخُّل الجيش الباكستاني مختلفة، ففي السابق كانت مُبرّراته العلنية تتمحور حول تطهير النظام السياسي، أو مواجهة تحديات خارجية، ولكن في هذه المرة كان التدخل المباشر للحفاظ على الجيش ذاته من محاولة التلاعب بقيادة الجيش، والتي وصلت إلى محاولة قتل رئيس الأركان «مشرف».
ولكنّ زملاءه من قادة الفيالق في «روالبندي» نجحوا في قلب الطاولة، وأودعوا «نواز شريف» السجن، بعد أن أنقذوا قائدهم «مشرف» من الطائرة التي كان قد نفد وقودها، وكان «نواز شريف» قد أمر بغلق المطارات الباكستانية أمامها، «ونجح مشرف في الغداء بنواز قبل أن يتعشى به»؛ بحسب تعبير الصحفي أحمد موفق زيدان.
ولكنَّ الظرف الأصعب والاختبار الحقيقي في حياة «مشرف» السياسية كانت هي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فأصبح «مشرف» صاحب التحوُّل الإستراتيجي في السياسة الباكستانية، أو ما حاول أن يظهر به، مِن دعم طالبان إلى مساندة الهجوم العسكري الأمريكي ضدها، والإطاحة بها من السلطة.
فباكستان بدا أنها قد تخلَّت في الظاهر عن إحدى دعامات إستراتيجيتها القومية الثلاثية، والتي تقوم على الحفاظ على السلاح النووي، والمطالبة باسترداد كشمير، واتخاذ أفغانستان حديقةً خلفيةً للأمن القومي الباكستاني.
فـ«مشرف» ضحَّى بركيزة من ركائز الأمن القومي لكي يحتفظ بالركيزتين الأُخريين، أو هكذا بدا له ذلك.
لقد لعب «مشرف» بالبيضة والحجر -كما يقولون-، ولكن لم يستطع في النهاية الحفاظ على كرسي حُكمه في بلدٍ يَغْلي فوق برميل ساخن.
ولعل مرحلة «عمران خان» عند وصوله إلى رئاسة الوزراء، ثم عزله بإجراءات قانونية، تُعبِّر عن أزمة النظام في باكستان.
فهذا الخلاف لا يُعبِّر عن مجرد خلافٍ يبدو في الظاهر بين السياسيين في باكستان، ولكنَّه في حقيقته وجوهره ينبع عن سطوة الجيش على الحياة السياسية.
فوصول «عمران خان» إلى السلطة في باكستان كان بتشجيع من قيادات الجيش الباكستاني؛ لأنه من وجهة نظرهم كان الأنسب لتحدّي قضيتين خارجيتين تُقلقان قيادات الجيش، وبالتحديد العقل المفكر لها، وهي المخابرات الباكستانية، والتي تُعرَف اختصارًا بـ(isi):
القضية الأولى: الشعور بضعف الدعم المالي المُقدَّم من دُوَل كانت دائمًا صديقة لباكستان؛ نتيجة توترات سياسية. أما القضية الأخرى فتتعلق بانسحاب الأمريكان من أفغانستان، وتراجع أهمية باكستان لديهم، وعودة أمريكا إلى سياسة الانحياز المطلق للهند؛ العدو التاريخي لباكستان.
فكان لا بد تصدير «عمران خان» باعتباره يُمثِّل وجهًا مُتحدّيًا للغرب، والذي بلغ ذروته بزيارة «عمران» لموسكو في اليوم التالي للغزو الروسي لأوكرانيا.
ولكنَّ التهديد الأمريكي مِن قِبَل المسؤولين الأمريكيين لـ«عمران» -والذي أبلغته الإدارة الأمريكية للسفير الباكستاني في واشنطن-، كان رسالة مُوجَّهة ليست فقط لـ«عمران»، بل لمن يُدير المشهد من وراء الستار، والذي يعرفه الأمريكان جيدًا، ومضمون هذه الرسالة: «توقفوا عن تأييد الروس»، وصاحَب هذا التهديد رسالة تطمين؛ مفادها أن «الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليس معناه تخلّي أمريكا عن باكستان».
ومن هنا جاءت التضحية بـ«عمران خان».
ولا شك أن تقلُّبات أحوال الجيش الباكستاني طوال تاريخه بين تدخُّل مباشر في السياسة، أو تدخل غير مباشر، يعطي انطباعًا على تقلُّب أحواله وبرجماتيته في الوقت نفسه؛ ففي الوقت الذي يعتقد فيه قادة الجيش أن السياسيين قد تخبَّطوا ووصلوا لمرحلة من الشقاق؛ بحيث أضحت البلاد على وشك الانفجار -كما في حالة ضياء الحق-، أو يكون الساسة دون المستوى المطلوب -كما حدث أيام أيوب خان-، أو أن السياسيين سيتدخلون في الجيش -كما حدث في زمن برويز مشرف-؛ فإنهم يقومون بانقلاب عسكري مباشر.
وعندما يتأزم النظام العسكري في إدارته لشؤون البلاد، وتصبح على وشك الفوضى؛ فإنه يعهد بها إلى الساسة كما حدث في أعقاب حكم «يحيى خان» عندما تسلَّم «ذو الفقار بوتو»، أو بعد مصرع «ضياء الحق» ومجيء «بنازير بوتو»، أو بعد استقالة «مشرف» وتولي «زرداري» الحكم.
وكذلك يتمتع العسكريون في باكستان بمقدار عالٍ من البرجماتية عند تعاطيهم السياسة، ولكن يظل الجدل دائمًا بينهم وبين السياسيين في باكستان حول ما يسميه البعض انبطاحًا، وبين ما تسميه قوى الجيش ومن والاها براجماتية ومجرد انحناءة للعاصفة حتى تزول، ومراعاة للموازنات بين المصالح والمفاسد.
ولكنّ المحصلة النهائية لتلك التقلبات، هي بقاء الدولة الباكستانية في حالة من الضعف والتقزم، بما لا يتناسب مع إمكانياتها وثرواتها وتسليحها النووي.