مثابات آهل السنة في العراق علماؤهم، وشواهدهم ومواقفهم
من أرقى ما يتميز به العلماء عن أقرانهم ومن يزاملهم في تلقي العلم أو يشاركهم في تدريسه لطلبة العلم؛ تلك المواقف في الملمات؛ فهي بمثابة لواء شاخص يعرف بها صدق التوجه والإخلاص للعلم، فضريبة العلم إخلاص للحق واستعداد للثبات عليه، وهي تسمو بالعالم العامل ليكون نبراسًا لتبيان الموقف الحق وعدم الانزواء والاكتفاء بالعلم النظري، فتلك المواقف وما يتبعها من ملاحقة واستهداف وتشويه تمثل خلاصة الفهم الصحيح، ويتمايز بها العلماء وبالثبات عليها وتحمّل صعابها وتحدياتها، مواقف العلماء منارات مضيئة تعين مبتغي الحق للاقتداء بهم والسير على منهجيتهم في التعامل مع الأحداث المستجدة.
ولعل أول ما لفت نظري حين هممت بالكتابة عن دور العلماء من أهل السنة في مواجهة المشروع المستهدف للمنطقة بشكل عام والعراق على وجه الخصوص هو ذلك الاجتماع لعلماء أهل السنة العراقيين الذين تجمعوا تحت تجمع العلماء والأكاديميين العراقيين في الخارج نهاية عام 2002م فقد نتج عنهم أول موقف يمكن أن يعده الباحث في هذا الميدان الفكرة المؤسسة لانطلاق المقاومة باستجلاء الموقف الواضح تجاه ما يجري الإعداد له في دوائر الاستهداف الأمريكي للمنطقة، ناهيك عن حراك داخلي كان الداعون إليه علماء ودعاة وعلية القوم؛ فقد كان العراقيون وقتها أكثر ما يشغلهم معرفة الرأي الصائب والصريح والواضح تجاه ما سيواجهونه وقتها.
لقد كان هذا البيان منصة للانطلاق لاسيما أن من وقّع عليه سارع للالتحاق بالداخل العراقي بمجرد إنهاء التزاماته التدريسية في الجامعات والمعاهد العربية، وهذا يعني أن العالم قال رأيه وطبقه على نفسه؛ فتلك ميزة للعلماء العاملين فهم بالنسبة لمن يتبعهم من الناس محل اقتداء فضلًا عن كونهم طوق نجاة ويُستجلى منهم الموقف الحق تجاه ما يواجهونه من تحديات حلت بساحتهم.
ليس جديدًا أن نقول إن علماء العراق تداعوا فور دخول الاحتلال لتدارس ما يمكن القيام به من حفظ بيضة الإسلام والمسلمين وكيف يمكن توجيه الناس إلى الموقف الصائب؛ فكانت بغداد بصوبيها الكرخ والرصافة وفي مكانين منفصلين تشهد اجتماع العلماء، وسرعان ما اندمجت الكتلتان لتشكل هيئة لعلماء المسلمين انطلقت منها المواقف وأعلنت على منابرها الرؤى، ولولا أن موقف هؤلاء العلماء مؤثر وشكل ما يمكن أن يطلق عليه صخرة الدفاع عن أهل السنة لما أدرج هؤلاء العلماء ولا تجمعهم في قائمة التجريم الاحتلالية ومورست ضدهم شتى أنواع جرائم الاستهداف والتصفيات وتشويه المواقف.
ولعل ما ورد بشطر بيت في الشعر العربي يجسد الفكرة من كتابة المقال حيث يقول:
المواقف وحدها تلد الرجالا ..
ومن هنا تنطلق قصة احتفاء الأمة الإسلامية بمواقف علمائها ورموزها وأعلامها وليس يغيب في هذا الجانب ما حفظته الأمة في تاريخها عن موقف الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، وكيف واصل الثبات على موقفه لما يقرب من عقدين من الزمان، هذا الموقف نقلته الأمة جيلًا بعد جيل لترسم صورة العالم الذي تريده وتتبعه وتعده من العلماء العاملين المتبوعين، كما لا تزال الأمة تذكر بافتخار بالغ موقف العز بن عبدالسلام أحد علماء الأمة ممن أطلقت عليه ألقاب «عز الدين» و«سلطان العلماء» حين تقدم صفوف الناس لمواجهة الغزاة والظالمين وبقي سفير العلماء تتناقله الأمة عبر عصور نهضتها وامتلاكها زمام الأمر، بل وحتى في عصور انحطاطها وتراجعها بغزو المغول وغيرهم بقيت مواقف العلماء في تلك العصور محطات مضيئة تمثل مثابات الوعي لدى عموم الأمة، ولهذا كان التحذير من زلة العالم تجنبًا لفتنة الناس.
في قراءة للساحة العراقية تبرز أمام ناظريك أسماء علماء كانت مواقفهم عناوينهم التي عرفوا بها فبعد دخول الاحتلال تمايزت المواقف حتى ظهر جليًّا العلماء العاملون كما ظهرت للقاصي والداني مواقف آخرين ممن امتهنوا العلم وجعلوه وسيلة للاسترزاق فسقطوا من أعين الناس غير مأسوف عليهم وإن برروا مواقفهم بأسباب التعقل مرة أو التعامل تارة أخرى، محاولين الخداع بأنهم غير متعاونين مع المحتل إنما أرادوا من وراء ذلك التعامل معه بغية مصلحة الناس بحسب زعمهم.
من ميزات الأمة الإسلامية منذ أن كان جيلها الأول، تربية الوعي الجمعي لدى الأمة؛ ولذلك تجد أن عموم جمهور الأمة مع حاجته للعالم العامل لكنه يمتلك وعيًا جمعيًّا يدله بذائقة الأمة التي ينتمي إليها أن هذا العالم صادق في مواقفه وذاك مداهن وآخر آثر السلامة في دنياه على حساب دينه.
المواقف الرجراجة يحاول أصحابها تسويقها بشتى وسائل الخداع لكن جمهور الأمة ممن لم تتلوث سريرته بالمنافع الشخصية قادر على فرزها وتشخيص أن ما يفعله هؤلاء على اختلاف وجهاتهم مجرد تبرير والتبرير في أصل وضعه طريق ملتوٍ لا يتمكن سالكه من الاستمرار في الخداع فالمواقف فاضحة للتوجه وأن أبناء هذه الأمة حكمت عليهم بأنهم ليسوا سوى هَمَلٍ لا يؤبه لهم مهما تلونوا.
وأنت تطالع تضحيات العراقيين على مدى أكثر من عقد لا بد أن تقف عند قامات شامخة صدعت بالحق فكان جزاؤها الاستهداف، وعلى سبيل الاستدلال لا الحصر نستعرض بعضًا من أسماء من كانت لهم مواقف واضحة ضد الاحتلال وماتوا على ذلك فيصدق فيهم مقولة «الثبات حتى الممات»، نحسبهم كذلك والله حسيبهم، يتصدرهم الشيخ الدكتور حارث الضاري - يرحمه الله - الذي سنفرد له جانبًا في هذا المقال لأهمية مواقفه ومثاباته المفصلية التي امتدت لاثني عشر عامًا وقرب رحيله ساعة كتابة هذا المقال، فموقفه ثلاثي مؤثل بالعلم والجهاد والمكانة العشائرية والاجتماعية.
من الأسماء البارزة التي تطالعنا في هذا الميدان ومن حقهم أن يذكروا ومن حقنا نفخر بهم، الشيخ الدكتور فيضي الفيضي من الموصل والشيخ الدكتور يوسف الحسان من البصرة والشيخ عبدالجليل الفهداوي والشيخ إياد العزي والدكتور عصام الراوي والشيخ حسن النعيمي، فضلاً عن تصفية كوكبة كبيرة خلال عقد من الزمن نذكر منهم الشيخ حمزة العيساوي، والشيخ مهند الغريري، والشيخ عمر حوران العاني، والدكتور حارث العبيدي، والشيخ علي الجبوري، والشيخ حازم الزيدي، والشيخ ثروي الگورز، والشيخ رياض شلال الخفاجي، والشيخ إسماعيل حسين الطائي، والقائمة تطول ولن يسمح المقال هنا بتعداد الأسماء بكاملها ويكفي لمن يريد الاستزادة عن حجم الاستهداف للعلماء والدعاة الكتابة في محرك البحث جوجل «علماء سنة تم اغتيالهم بالعراق»، فسيجد قوائم ومواقع وحسابات تنشر الأسماء وتوثق حالات الاستهداف ففي بعض القوائم وصل تعدادها إلى أكثر من 250 شيخًا أو إمامًا.
ما يجمع هؤلاء المشايخ رحمهم الله رفضهم لمشروع الاحتلال الأمريكي وتصديهم للمشروع الإيراني، على أن قليلاً منهم مع مواصلة رفضه لمشروع الاحتلالين الأمريكي والإيراني اتخذ طريقًا آخر رأى أن بإمكانه الإصلاح من داخل المشروع السياسي للاحتلال المسمى بالعملية السياسية، لكن ذلك لم يمنع عنه الاستهداف الممنهج والمتبع من القائمين المعتمدين في هذا المشروع؛ فهم مدركون أن أي صوت لا ينتمي لمشروعهم الإقصائي سيتسبب بفضح جرائمهم وعرقلة تنفيذ برنامج استهدافهم للمنطقة.
لم يعد المخطط للعراق خافيًا بعد خمسة وعشرين عامًا منذ 1990م وحتى اليوم من الحصار إلى الاحتلال وما تلاه من صفحة مكملة له بمسمى العملية السياسية القائمة على الإقصاء والمحاصصة الشكلية والاستفراد، فقد اتضح أن اللعبة تتلخص بالتلاعب بميزان القوى في المنطقة وسحب مكامن قوة أهل السنة في المنطقة عمومًا، وكان العراق بداية لهذا المشروع بتسليم زمام الحكم لجماعات وأحزاب وأقليات لا تنتمي لمجموع الأمة وتعمل لصالح مخططات إقليمية، رأت الإدارة الأمريكية اللعب بها كأوراق في ضرب ما بقي من تماسك في هذه الأمة عقب انهيار منظومتها الحاكمة منذ ما يقرب من القرن، فقد بقي تماسك هذه الأمة واضحًا لدى شعوبها من خلال ما يربطهم من هم واحد ورؤية موحدة تجاه قضاياهم الرئيسة وعلى رأسها تحرير فلسطين، فعمدوا إلى ضربه بالقُطرية والمناطقية وتفتيتهم إلى دويلات متنازعة والتأسيس لنزاعات طائفية تمتد لعقود قادمة من الزمن.
المشروع الأمريكي في القرن الحادي والعشرين يستهدف المنطقة بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وبدا ذلك واضحًا من خلال التناغم الأخطبوطي بين الولايات المتحدة بأذرعها في المنطقة بتبادل أدوار مع أذرع إيران فيها وفق سيناريو التراضي بين الطرفين؛ فأمريكا تحكم بتجريم وشيطنة أي فعل لا ينتمي لمشروعها وتغض الطرف راضية مطمئنة على جرائم أتباع إيران، بل لا يحمل التوصيف أي مبالغة إن قلنا إن التدافع الظاهر بين توجهات إيران ومناكفاتها لمشروع أمريكا يندرج في مشاكسات لاعبين بتدافع لا يخرج أحدهما من ساحة اللعب بقدر ما يمكّن كل طرف منهما من تسجيل نقاط تستخدم سياسيًّا في الاتفاق النووي الإيراني الذي هو بالأصل أحد أوراق لعبة لترهيب الدول العربية في إطار إخضاعها للشرطي الجديد.
من خلال الخطوط العريضة للمشروع يتبين للقارئ أن استهداف المؤثرين شيوخًا ومفكرين وقادة وأئمة ودعاة من صلب أساس المشروع المستهدف للمنطقة فما أوسع لافتة محاربة الإرهاب ليستهدف القائمون على مشروع القرن الأمريكي الحاوي لمشروع التمدد الإيراني كلَّ من يقف في مواجهة هذا المشروع، ومن هنا كانت قوائم المستهدفين تطول ولا مجال لذكرها مفصلة في مقال أو دراسة، بل لا يسعك سوى الإشارة إليها للاستدلال بها على صدق الرؤية وصوابية الطرح.
ربما كان التفاعل الواسع والكبير الذي حظي به رحيل الشيخ الدكتور حارث الضاري يمثل ضربة لمشروعهم الذي يحاولون به شيطنة خصومهم ووصمهم بالإرهاب وتخويف المجتمعات من ذكر رموزهم وقادتهم؛ فقد مثّل إجماع الأمة بتياراتها ومجامعها العلمية وشخصياتها الكبيرة وهي تذكر مناقب الشيخ وما يمثله من رمز مقاوم في زمن بات من يحمل فيه رأيًا يحاول الالتفاف عليه كي لا يوصم بالإرهاب، كان الشيخ الضاري عنوانًا بارزًا في الدفاع عن العراق أطلق رؤاه وتحذيراته فكان موقفه قطب الرحى الذي تدور عليه رحى المقاومة والمناهضة في آن معًا، كان همه الأول العراق وأن لا تدنس أرضه جيوش الاحتلال ومرتزقته.
لقد تمكن الشيخ الضاري رحمه الله من القيام بما يمليه عليه إرثه العائلي المقاوم للاحتلال الإنجليزي في العراق - فلا تزال الأجيال العراقية تتناقل أهزوجة «هز لندن ضاري وبجاها» - فكان كما كان جده وأبوه سدًّا منيعًا تتكسر عند أقدامه كل محاولات الاختراق مهما تنوعت أساليب طرحها مشاريع وهمية أو مصالحات شكلية، ولم يكن يلتفت لكل محاولات تمييع المواقف بقوالبها الترهيبية أو الترغيبية، حتى صارت مواقف الشيخ الضاري مرجعًا لمعرفة صلاحية هذه المشاريع من عدمهما لكثير من الباحثين عن الحقيقة باستجلاء رأي الشيخ مباشرة أو من خلال تتبع لقاءاته وحواراته.
والشيخ الضاري بحكم تخصصه في الحديث وعلمه في التفسير امتلك فراسة العربي العالم في معرفة الرجال والمواقف، فهو صاحب العلم الذي لم يقتصر على العلم النظري بل اتخذه وسيلة لبناء الرجال وتربية الأجيال، امتلك وضوح ومباشرة عالم الحديث في حكمه على الأشخاص فلا مجال للمجاملة في تعريف الرجال. ولرب ما نقله أحد المشايخ عن الشيخ الضاري يوضح جانبًا من فراسته بالرجال والمواقف؛ حيث يقول سألته لماذا يا شيخ لم تقبل ما عرض عليك من أموال فأجابه بكلمات بسيطة: «إنها ليست لوجه الله».
وفي الميدان السياسي ثمت محطات في مسيرة الشيخ الضاري خلال الاثني عشر عامًا باتت تمثل مخططًا متكاملًا للعمل من أجل العراق بعيدًا عن أي تأثير خارجي؛ فقد حدد الرؤية بـ«لاءات خمس» تلخصت بـ: لا للاحتلال، ولا لمشروعه السياسي والدستور الذي كُتب تحت حرابه، ولا لثلم هوية العراق العربية والإسلامية، ولا لتقسيم العراق، ولا لنهب ثروات البلد... ومن هنا كان المنطلق فيكفي أن تعرض أي مشروع على تلك اللاءات فإن هو خرج عن إحداها فاعلم أنه ليس في صالح العراق والعراقيين.
لقد حفظ التاريخ للشيخ حارث الضاري مواقف وضاءة؛ فهو الذي وقف في جامع أم القرى يوم أرادت أمريكا التسويق لتهمة الإرهاب ووصم كل من لا يدخل في مشروعها؛ فراح يعدد أنواع الإرهاب بدءًا من إرهاب المحتل وإرهاب أجهزة المخابرات للدول المتدخلة في العراق ومرورًا بأحزاب السلطة ومليشياتها وليس انتهاء بإرهاب الدولة من خلال أجهزتها الأمنية التي أنشئت بقانون بول بريمر «الحاكم المدني للاحتلال» بحسب محاصصة أحزاب السلطة في اجتماعي لندن وأربيل.
كثيرة هي مواقف الشيخ الضاري التي ينبغي الوقوف عندها لكن من بين أهمها تلك التي حذر فيها من مليشيات إيران يوم كانت تعمل خفية وتحت واجهات غير معلنة، فأطلق صرخة نذير من تغولها وانفلاتها كان ذلك يوم تشييع الشيخ حسن النعيمي الذي قتلته مليشيا بدر بعد أن كمنت له في طريق عودته لمنزله جنوب بغداد.
فقد استطاع الشيخ رحمه الله من خلال هيئة علماء المسلمين في العراق التأسيس لخطاب واضح الرؤى محدد الأهداف ويكفي أن تستعرض مواقف من شككوا بحلوله ورؤاه كيف انتهى بهم الأمر إما إلى استمراء الخيانة أو الفشل والانزواء أو الاستهداف والملاحقة، حقًّا يمكننا القول الآن إن ضريبة مقاومة الاحتلال أقل بكثير من ضريبة مداهنته والعبودية له، وفي المقابل فإن ذكر من قاوم وناهض ورفض الاحتلال أبقى وأرفع ممن سايروه مهما تعددت تبريراتهم.
ولا يزال في العراق علماء راشدون يقبضون على جمر مواقفهم الصائبة نسأل الله لهم الثبات والتوفيق في مساعيهم والسداد فيما يصوبون من آراء كسهامٍ تضرب عمق المشاريع المشبوهة المستهدفة للعراق أرضًا وشعبًا وتاريخًا وحضارة.
بقي أن نقول: علماؤنا أعلامنا ومثاباتنا في معرفة الحق وطريق الصواب ولذلك استهدفهم الاحتلال ومن جاء أو تعاون معه وحاولوا مجتمعين بشتى وسائلهم ملاحقة العلماء ومحاصرتهم وتجريم مواقفهم؛ لمنعنا أن ننهل من معينهم الصافي لكن صدقهم مع الله مهد لهم طريق قبول الناس لهم، فاجتازوا كل الموانع فاستحقوا بذلك أن يكونوا منارات علم وفقه ورشاد يستهدي بها المسترشدون.
:: مجلة البيان العدد 335 رجب 1436هـ، إبريل – مايو 2015م.