لا تكتب (أُم سـلمى) عبثًا أو اعتباطًا، أيْ: لا تكتب من أجل الأدب، أو من أجل الفن، بلْ الأدب والفن عندها من أجل قِيَـم حياتيَّة عليا، ومبادئ سامية... وكثيرًا ما تُردِّد أنَّ «على الأديب أن يُخْلِصَ لرسالته، وألَّا يجعلها أداة انحراف وفساد».
إذا كانت «وردة اليازجي» رائدة الأدب النسائي في لبنان، و«مـاري عجمي» في سوريا، و«باحثـة البادية» في مصر، و«عاتكة الخزرجي» في العراق، و«آمال لواتي» في الجزائر، و«سُهيلة حمّـاد» في السعودية، و«مباركة بنت البـراء» في موريتانيا؛ فإنَّ «سـعاد الناصر» عميدة أديبات المغرب، ورائدة الأدب النسائي بلا منازع!
نعم، إنها إحدى الرائدات في ميادين الفكر والثقافة والإبداع، وأنموذج لأديبة عصاميَّـة، وأستاذة أكاديميَّـة، ورائدة الكتابة النسائية بالمغرب العربي... تتقاطع قصة حياتها ورحلتها الفكرية مع أخواتها الرائدات الأوائل في أرجاء الوطن العربي؛ مِن حيث المصاعب والعقبات التي اعترضت مَسيرتهنَّ الثقافية، ولكن نجحنَ في اجتياز تلكَ المِحَن والاختبارات بامتياز.
عُرِفت «سـعاد الناصر» بلقب (أُمّ سـلمى)! وعن هذا اللَّقب الذي اشتُهِرت به، وأمهرت به كثيرًا من إبداعاتها ومؤلفاتها، تقول عنه: «ليس ذلكَ من أجل إخفاء الاسم الحقيقي كما يفعل بعضُ الكُتّاب، وإنما هذه الحكاية تعود إلى فترة ميلاد ابنتي «سلمى»، حين نشرتُ قصيدتي الأولى بصحيفة «ميثاق الشباب» في تشجيع الناشئة، فاخترتُ هذا اللَّقب تيمنًا بابنتي سلمى».
مسيرة (أُم سـلمى) تروي قصَّـة نضال وتألُّق، قِصَّة كفاح ونجاح، ورحلة مثابرة ومصابرة وجهاد مع الورقة والقلم أثمرت عن عددٍ كبير من الروائع الإبداعية التي أينعت في مجالات: الشّعر والقصة والرواية والتحقيق والدراسات النقدية؛ التي ذاعت شُهرتها، وآتت أُكُلَها، وأغدقت على الساحة الثقافية، فمَن لَم يُصبِه مِنها وابلٌ فطل!
لمْ يتوقّف قطارها الثقافي عند هذا الحد، بلْ واصلت مسيرتها بعزمٍ وإيمان، فأشرفت على الرسائل العلمية، وأنشأت المجلات الثقافية، وترأسّت الأندية الأدبية، وشاركت في المؤتمرات الثقافية الدولية، وانعقدت حول روائعها الندوات النقاشيَّة، وأُلّفت عنها الكُتب والدراسات النقدية، وحازت على الجوائز والنياشين.
قضايا المـرأة والرجـل
لا تكتب (أُم سـلمى) عبثًا أو اعتباطًا، أيْ: لا تكتب من أجل الأدب، أو من أجل الفن، بلْ الأدب والفن عندها من أجل قِيَـم حياتيَّة عليا، ومبادئ سامية... وكثيرًا ما تُردِّد أنَّ «على الأديب أن يُخْلِصَ لرسالته، وألَّا يجعلها أداة انحراف وفساد».
يقول النقَّاد: إنها كاتبة صاحبة رسالة، ولها مشروع إصلاحي يَحمِل همًّا عربيًّا وإسلاميًّا، عبَّرت عنه بشتَّى الوسائل، ومختلف ألوان الكتابة الأدبية كالمقالة والقصيدة والرواية والقصة القصيرة، حتى المحاضرات والمناظرات والندوات والحوارات الصحفية واللقاءات الإذاعية!
هذا «المشروع الإصلاحي» يُركّز على «قضية المرأة» بصفة خاصة، وقد تجلَّى ذلك من خلال أعمالها: «بوح الأنوثة»، و«توسّمات جارحة»، و«السرد النسائي بين قلق السؤال وغواية الحكي»، و«التخييل الروائي للعنف والمقاومة»، إلى جانب القصص والدواوين الشّعرية.
ومع تأصيلها لأدب المرأة وتعزيز وجوده؛ كثيرًا ما تؤكد أنَّ الإبداع لا جنسَ له، بل له هوية الجدة والأصالة. ولا يمكن البحث فيه عن خصوصية نابعة من جنس كاتبه، إنما تنبع خصوصيته ممَّا يتفرد به فنيًّا وجماليًّا، وما يتميز به موضوعيًّا.
وفي أتون دفاعها عن (قضايا المرأة وحقوقها) التي أولتها اهتمامًا كبيرًا، لا تَتعصَّب للمرأة، ولا تنتصِر لها على حساب الرجل، ولا تُعمِّق الثنائية المفتعَلَة بخلْق قضية للمرأة وقضية للرجل وقضية للطفل، وإنما تعالج قضية الإنسان -بصفة عامة-، وتتفاعل مع أزماته وصراعاته والبحث عن حلول لمعاناته، وفي ذلك تقول: «مُخطئٌ مَن يَعتبر أنَّ العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع وتضاد، وأنَّ مصلحة أحدهما لا تتحقَّق إلَّا على حساب مصلحة الآخَر، لكنّ الحقيقة أنَّ العلاقة بينهما هي علاقة مساواة وتكامل من أجل التعاون على أداء تكاليف الحياة، وأنَّ أيّ تصوُّرٍ آخَر عن هذه العلاقة يُفْضِي بها إلى درب مسدود، ويُغرِق ما يُعرَف بقضية المرأة في مستنقعات آسنة... فمشكلات المرأة لا تعدو كونها جزءًا من مشكلات كبرى مرتبطة بالإنسان، فلا مجال للحديث عن قضية المرأة دون إدراجها في قضية أشمل وأعم، هي قضية التحرُّر العام؛ لأنَّ كل أشكال القمع والعنف والإرهاب والاستعباد والاستغلال المُمارَس ضد المرأة، ليست سوى صورة منعكسة مِمَّا يُمارَس ضد الإنسان، ابتداءً مِن الممارسات الفردية والاجتماعية، وصولًا إلى الممارسات الدولية من ترهيبٍ وحصارٍ واحتلال، لذا فإنَّ أيّ معالجة للحرية أو المساواة أو الحقوق أو غيرها من الموضوعات، يجب أن تُعالَج ضمن علاج أزمة حرية الإنسان وحقوقه، وقضية المرأة ترتبط بقضية الإنسان؛ فالمساواة الحقيقية تكمُن في إعطاءِ كلٍّ ما يستحقه من احترام وتكريم ومناصب.
«أم سلمـى» شـاعـرة وروائية
«أُم سـلمى» أديبـة موهوبة بحق، تألَّقت في كتابة الشّعر والقصة والرواية، ولا ترى أفضلية لون أدبي على لونٍ آخَـر، بلْ ترى أنَّ للكاتب الحقَّ في التعبير عمَّا يريد، وبالصيغة التي يريدها، فلكلّ جنس أدبي خصائص تُميِّزه عن الآخَر، والأجناس الأدبية جميعًا تتساوى في السيادة، كلّ وَفْق مجاله، ووَفْق مدى البراعة والجودة في إتقانه؛ فامتلاك الكاتب -شاعرًا كان أو روائيًّا- لناصية الكتابة وشروطها يَمنحه القدرة على الإبداع في الجنس الذي يرى أنه الأكثر تعبيرًا عمَّا يريد، فإذا كان الشِّعر أو القصة القصيرة يأتيان كومضات برق خاطف، فعلى الشّاعر أو القاصّ القبض على بريقهما، واقتناص لحظاتهما الإبداعية، ويمكن قراءتهما أكثر من مرة. وتنصح الأدباء بالقبض بقوة على قراءة النصوص الجيدة قبل خوض غمار الكتابة في أيّ جنس أدبي، ولكن تبقى القصيدة تُمثِّل قلقًا للشعراء قديمًا وحديثًا.
أمَّا الرواية -من وجهة نظرِها-؛ فإنها تحتاج إلى وقتٍ أطول وتأمُّلٍ أوسع، لذا يمكن للرواية أن تتضمن عددًا من الأجناس وتحتويها... فالنصوص الإبداعية السردية التي لا تتضمّن الروح الشعرية هي مجرد محاكاة جامدة للواقع.
قد لا نكون مُبالغين إذا قلنا: إنَّ «أُم سـلمى» مولودة لتكون قاصَّة وروائية، فقد أصدرت عدة مجموعات قصصية غير مسبوقة، منها: «إيقاعات في قلب الزمن»، و«ظلال وارفة»، ورواية «كأنّها ظلّة»، وغيرها.
ولا نكون مبالغين -أيضًا- إذا قلنا: إنها مولودة شاعـرة، فقد كتبت القصائد البديعـة، وأصدرت ديوان «لعبة اللانهاية»، وديوان «فصول من موعد الجمر»، وديوان «سأُسمِّيك سنبلة»، وديوان «هل أتاك حديث أندلس؟».
ولِـمَ لا؟ وهي الشغوفة بقراءة روائع الأدب منذ طفولتها، فتأثرت بكثير من الشعراء كالمتنبي وأبي العلاء. ومِن المُحْدَثين: نازك الملائكة، والسيّاب، وصلاح عبد الصبور، وحسن الأمراني، ومحمد عليّ الرباوي، وأمينة المريني، ومليكة العاصمي. وفي مجال السرد قرأت للكثير من أدباء الشرق والغرب، مثل: ديستوفسكي، وتوماس مان، وريبيكا غولد شتاين، وجين أوستن، ونجيب محفوظ، وقد تأثرتْ كثيرًا بالروائية «رضوى عاشور»، خاصةً في «ثلاثية غرناطة»، وقالت عنها: «لقد أبدعتْ -رضوى- وأجادتْ، وأثارتْ قضايا لامست فيها قضايا الأنثى والوطن السليب!».
مَن هي «أُم سـلمى»؟
إنَّها سليلةُ أسرةٍ مُحافِظة، دفعتْ بها إلى «الكُتَّاب» لحفظ القرآن -وهيَ في الثالثة من عُمرها-، وأخذت تقرأ على والدها بعض تفاسير القرآن دون أن تفهم معانيها... مِمَّا غرس في نفسها حُبّ اللغة العربية، كما تجلَّت آثار تلك التربية الحسنة على شخصيتها الإنسانية وشخصيتها الثقافية المتوافِقة والمنسجِمة بين أعمالها الإبداعية وبين آرائها الفكرية... فهي عندما تكتب كأنها تتوضأ، وعندما تتكلّم كأنها تُصلّي، ولطالما تُردّد: أنَّ «على الأديب أن يُخلِصَ لرسالته، وألاَّ يجعلها أداة انحراف وفساد».
فالأدب عندها لا يَنفصِل عن الدّين ولا يصادمه، بلْ الدّين هو المشكاة التي تضيء الطريقَ للكاتب والأديب، وتُصوِّب رؤيته نحو الخير والحقّ والفضيلة... ففي الوقت الذي تمتزج قصصها وقصائدها بأخلاق الدِّين وشفافيته؛ نرى مؤلفاتها الفكرية جاءت في أبهى حُلَّة أدبية، وفي أروع ثوبٍ قشيب، كما في مؤلفاتها: «تأصيل قضية المرأة»، و«البعد الثقافي للعنف».
فلا عجب أن تشرع في كتابة ديوان «فصول من موعد الجمر»، بمجرد فراغها من تأليف كتاب «قصص المرأة في القرآن». وبعدما انتهائها من كتاب «بلاغة القصّ في القرآن الكريم»، أنجزت على الفوْر المجموعةَ القصصية (ظـلال وارفة) العاكسة لِحال المرأة وشجونها، فكلّ قصةٍ تُشكِّل مستوى من مستويات احتراق المرأة ومعاناتها منذ اختيار الزوج، ومن هجره لأولاده، وكابوس الطلاق النفسي المتجسّد أساسًا في الروتين الزوجي. كما تتضمَّن المجموعة القصصية عددًا من القضايا؛ منها: الإيمان، والموت والفقد، والبطالة، والهجرة والغربة، والفِراق، وتحمل -ذات المجموعة القصصية- آفاقًا روحيةً وتجلّيات صوفية وجدانية عميقة غاية العمق.
تنتمي «أُم سـلمى» إلى مدينة «تطـوان» المغربية، التي أحبّت طبيعتها الساحرة، وأسهمت في تعزيز مكانتها الثقافيـة؛ حيث خصَّتها بموضوع رسالتها للدكتوراه الموسومة بعنوان «الحركة الأدبية في مدينة تطوان». هذا الاختيار يعكس اعتزازها بمدينةٍ تُعدّ ملتقًى للحضارات، وما رافَق ذلك من انفتاح واسع على المشرق العربي. فقد تحوَّلت المدينة إلى مركز إشعاع أدبي وثقافي، جمَع مختلَف الأدباء على مستوى العالم العربي، وقد نبغ في هذه المدينة مشاهير الشعراء والأدباء والبحّاثـة والرحّالة المغاربة.
حصلت على الماجستير عن موضوع «صورة الغرب في الفن الحكائي المغربي الحديث»، ثمَّ حصلت على الدكتوراه في موضوع «الحركة الأدبية في مدينة تطوان». وتعمل أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وتقوم بتدريس علوم القرآن، وتحليل الخطاب السردي في الأدب الحديث.
ولا يتوقف دورها عند هذا الحد، بل تقوم بالإشراف على فرقة الإبداع النسائي بكلية الأدب بتطوان، وهي المشرفة على لجنة الأديبات بالمغرب العربي، التابعة لرابطة الأدب الإسلامي.
ويتجلَّى اعتزازها بتلك الرابطة العالمية في قولها: «الأدب الإسلامي هو الأدب الذي يصدر عن الرؤية الإسلامية، أيْ: هو أدب الفطرة وأدب الأمة والإنسانية جمعاء. وفي اعتقادي أنَّ «الأدب الإسلامي» مصطلح ظرفي يُبيِّن رؤية الأديب وموقفه أكثر ممَّا يحيل على الأدب رغم محاولة المنظّرين له شَحنه بشحنات فنية وجمالية. فهو ينتمي إلى منظومة عقائدية وفكرية هي منظومة الإسلام، وكل الأدباء الذين يحملون قِيَم الإسلام، التي هي في الوقت نفسه قِيَم الإنسانية، يدخلون في مجال هذه المنظومة. فكما أنَّ الأدب العربي هو الأدب المكتوب بالعربية، فإنَّ «الأدب الإسلامي» هو آداب الشعوب الحاملة للهوية الإسلامية بمختلف أعراقها، يرتبط ارتباطًا أخلاقيًّا بكل القِيَم الجمالية والإنسانيَّـة.