انقذ الإسلام البشرية من الانحراف العقدي والفوضى الأخلاقية، فنقل الإنسان من عبادة المخلوقات إلى توحيد الله، ومن التفكك والظلم إلى الإيمان المنضبط، فصنع حضارة قامت على القيم، والعدل، والعمل، وسُمُوّ الأخلاق.
انحرف العرب عقائديًّا قبل الإسلام عن ملة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-؛
فعبدوا الأصنام، وانحرفوا أخلاقيًّا واجتماعيًّا، فقطعوا الأرحام، وأساءُوا الجوار،
وارتكبوا الفواحش، وسادت الطبقية.
ومِن أوْفَى التعبيرات في التفريق بين حياة الجاهليَّة وحياة الإسلام ما قاله جعفر
بن أبي طالب مُخاطِبًا
«النجاشي»
مَلِك الحبشة حين الهجرة الأولى:
«أَيُّها
الملك، كنّا قومًا أهل جاهليّة، نَعْبُد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش،
ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف»[1].
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن الفُرْس والرومان لم نجد حالهم أفضل من العرب؛ فقد
»كان
الرومان يعتمدون على الحكم الإقطاعي، وذلك أنّ كلّ نبيل يُعدّ قائدًا لجماعته، وكان
هؤلاء النبلاء يُمْنَحُون الأراضي والعقارات الشاسعة لإعاشة أتباعهم، وقد أدَّى ذلك
إلى حدوث حروب داخلية، وقد اشتدت الاختلافات بين طوائف المسيحيين قبل الإسلام، حتى
شملت العامة والخاصة على حدّ سواء، وحتى اشتغل الناس بالجدل فيها أكثر من اشتغالهم
بكل عمل آخر، وشمل هذا الجدل طبقات الناس كافة في مختلف الأماكن والأوقات.
وكان المسيطر على الجيش الروماني حينذاك هو الارتزاق، وكثيرًا ما كانت أُعطيات
الجند تتأخَّر عن مواعيدها؛ لارتباك الحالة المالية للدولة، فيتذمّر الجنود، ولم
يكن للجيش هدف مُعيَّن يُوحِّد صفوفه، ويسعى لتحقيقه غير الارتزاق، وكانت القوات
العسكرية للفرس مُشابهة للقوات العسكرية عند الروم، فكان المرازبة والدهاقين يتولون
قيادة الجيوش، ويتحكمون في الأراضي الشاسعة والعقارات الكبيرة، وكانت العقيدة
المجوسية مسيطرة على الفرس وأكثر أتباعهم، ولم يكن للجيش الفارسي هدف يُوحِّد
صفوفه، ويسعى لتحقيقه غير الارتزاق أيضًا»[2].
إن الذي ينظر إلى الجاهلية قبل الإسلام، وكيف أنها كانت تعيش انتكاسةً في الفطرة
والعقيدة والأخلاق، لَيَرى كم هو الدور الكبير الذي قام به النبي محمد صلى الله
عليه وسلم ؛ حيث أحْدَث نقلةً ضخمةً في زمن قياسي، يقول
«كارليل»،
وهو يقارن بين حال العرب قبل البعثة وبعدها:
«هم
قوم يَضْربون في الصحراء، لا يُؤْبَه لهم عدَّة قرون؛ فلما جاءهم النبي العربي،
أصبحوا قِبْلَة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد القلة، وعزُّوا بعد الذلة،
ولم يَمْضِ قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم»[3].
نَقل بني الإنسان من عبادة المخلوقات والأوثان إلى عبادة الواحد الديان
إن توحيد الله -عز وجل- مِن أعظم أركان الإيمان والإسلام، لأجله أرسل الله الرسل،
وأنزل الكتب، به يتحقق الأمن، ويسعد الإنسان في الدارين، وهو حق الله -عز وجل- على
جميع الناس، فعن مُعَاذ بن جبل -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ:
«يَا
مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى
اللَّهِ؟»،
قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:
«فَإِنَّ
حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،
وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ
شَيْئًا».
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ:
«لاَ
تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا»[4].
فإن قلت: لا يجب على الله تعالى شيء. قلت: الحق بمعنى: الثابت، وهو واجب بإيجابه
على ذاته، أو: هو كالواجب نحو: زيد أسد، قال ابن بطال:
«فإن
اعترض المرجئة به، فجواب أهل السنة: أن هذا اللفظ خرج على المزاوجة والمقابلة»[5].
والسببُ في إضلال البشرية وصَرْفهم عن التوحيد والطاعة إلى عبادة المخلوقات:
شياطينُ الإنس والجن، فعن عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:
«أَلَا
إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي
يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ
عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ
فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ،
وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا...»،
الحديث[6].
فكان أهل العقل كلهم في مَقْته، إلا بقايا متمسكين بالوحي، فلم يستفيدوا بعقولهم
حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان، والصلبان، والنيران، والكواكب، والشمس،
والقمر، والحيرة، والشك، أو السحر، أو تعطيل الصانع والكفر به، فأَطْلَع الله لهم
شمس الرسالة في تلك الظُّلمة سراجًا منيرًا، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم،
وقلوبهم، ومعاشهم، ومعادهم، نعمة لا يستطيعون لها شكورًا، فأبصروا بنور الوحي ما لم
يكونوا بعقولهم يبصرونه، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا يرونه[7].
فإرسال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كان بسبب عبادة غير الله، وتحريف الكَلِم
عن مواضعه، وتبديل الشرائع، واستناد كل قوم إلى أظلم آرائهم، وحُكمهم على الله وبين
عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم؛ فهدَى اللهُ به الخلائق، وأوضحَ به الطريق،
وأخرجَ به الناس من الظلمات إلى النور، فبَصَّر به من العَمَى، وأرشدَ به من الغي،
وجعلَه قسيم الجنة والنار، وفرَّق به بين الأبرار والفجار، وجعل الهدى والفلاح في
اتباعه ومُوافقته، والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته.
تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والطباع
عاش العرب وغيرهم قبل الإسلام في فوضى أخلاقية وسلوكية، دينهم مَصْلحتهم، وقِبْلتهم
أهواؤهم، وكراهية الإسلام للجاهلية وإن كانت باسم الدين وحده فقد شملت وجوهًا كثيرة
كالرذائل والنقائص وانتهاك الحرمات والتقتيل والخمر والميسر، حتى هذَّب الإسلام
طباعهم، وارتقى بهم من مرتبة الحيوانية إلى مرتبة الملائكية، فتح الله بهم البلاد،
وشرح بهم قلوب العباد، فسادوا وقادوا، وعَلِمُوا وعَمِلُوا، وأنفقوا وجاهدوا في
الله حق الجهاد، يقول أبو الحسن الندوي:
«كانوا
قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك، والأخذ والتَّرْك، والسياسة
والاجتماع، لا يخضعون لسلطان، ولا يُقِرُّون بنظام، ولا ينخرطون في سلك، يسيرون على
الأهواء، ويركبون العمياء، ويخبطون خبط عشواء، فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان
والعبودية لا يخرجون منها، واعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي، ولأنفسهم
بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة، وأعطوا من أنفسهم المقادة، واستسلموا للحكم
الإلهي استسلامًا كاملًا، ووضعوا أوزارهم، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم، وأصبحوا
عبيدًا لا يملكون مالًا ولا نفسًا ولا تصرُّفًا في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح
به، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله، ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا
يمنعون ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره»[8].
وهذا ما أكَّده الباحثون الغربيون، يقول الباحث
«إميل
درمنجم»
في كتابه:
«القِيَم
الخالدة في الإسلام»:
«إن
حضارة الإسلام تقوم على رسالة سماوية، نظامها الاجتماعي يقوم على أُسْرة متماسكة،
ونظامها الاقتصادي يَعتبر المال وسيلةً لا غاية، ويَحترم الملكية الفردية غير
المُستغلَّة، وثقافتها تَستخدم العقل في كَسْب المعارف، ولا شك أن لدى المسلمين
أكبر ذخيرة من القِيَم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية».[9]
وتخلُّف المسلمين اليوم لا يتحمل الإسلام وِزْره، بل هو عقوبة لهم بسبب تخلّيهم
عنه، يقول مالك بن نبي:
«إن
التخلُّف الذي يعاني منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام، وإنما هو عقوبة مستحقَّة
من الإسلام على المسلمين، لتخلّيهم عنه، لا لتمسكهم به، كما يظن بعض الجاهلين،
فليست هناك صلة بين الإسلام وتخلُّف المسلمين، ولا يجوز الخلط بين الإسلام والواقع
المتدنّي الذي يشهده العالم الإسلامي اليوم»[10].
ولا عودة للمسلمين إلى ماضيهم التليد إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح.
اللهم رُدّنا إلى دينك ردًّا جميلًا، واجمع لنا خيري الدنيا والآخرة.
[1] أخرجه أحمد في مسنده مطولاً 3/263، ح رقم (1740)، عن أم سلمة -رضي الله عنها-،
وإسناده حسن، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى، 2001م، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.
[2] الرسول القائد، ص77، محمود شيت خطاب، دار الفكر، بيروت، ط: السادسة، 1422ه.
[3] ركائز دعوية من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في العلاقات الاجتماعية، د. عبد
المجيد البيانوني، ص48، دار ابن حزم، ط: الأولى، 1422ه.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: اسم الفرس والحمار، 4/29،
حديث رقم (2856)، دار طوق النجاة، ط: الأولى، 1422هـ، تحقيق: محمد زهير بن ناصر.
[5] الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري 22/102، دار إحياء التراث العربي، بيروت،
لبنان، ط: الأولى، 1937م.
[6] أخرجه مسلم في صحيحه مطولًا، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي
يُعْرَف بها في الدنيا أهل الجنة والنار، 4/2197، حديث رقم (2865)، دار إحياء
التراث العربي، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
[7] غربة الإسلام، حمود بن عبد الله التويجري 1/473، دار الصميعي، الرياض، المملكة
العربية السعودية، ط: الأولى، 2010م.
[8] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، ص91، مكتبة: الإيمان،
المنصورة، جمهورية مصر العربية.
[9] الدور العظيم للمسلمين في بناء الحضارة الأوروبية، عبد العالي الدغوغي، مقال
منشور بموقع قناة الجزيرة بتاريخ 11/9/2024م .
[10] حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، ص643,644، المجلس
الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط: الثانية.