• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
نظام دولي جديد قيد التشكيل

لقد جرى طرح فكرة تعدد الأقطاب في داخل الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي أوج الصراع بين المعسكرين اللذين شكَّلا النظام ثنائي القطبية.


دخل العالم أتون مرحلة تاريخية خطرة، ينتظر أن تتمدد زمنياً لعدة سنوات، وأن تشهد صراعات وحروباً متعاقبة ومتوسعة إلى درجةٍ قد تهدد فيها الحياة البشرية بالدمار الشامل.

لقد ارتبطت عملية تغيير توازنات القوة على الصعيد العالمي وصولاً إلى بناء نظام دولي جديد بالحروب الكبرى عبر التاريخ. فإن سجَّل العالم هذه المرة أنه تمكن من الانتقال من نظام القطب الواحد إلى نظام تعدُّد الأقطاب دون حرب كبرى، تكون البشرية قد أفلتت من حرب، إن وقعت فستكون الأسوأ في التاريخ الإنساني كله؛ ذلك أن الصراع وحركة التغيير يجريان تحت وقع تهديدات باستخدام السلاح النووي.

لقد دفع العالم ثمناً باهظاً من أرواح البشر ومن مقومات الحضارة الإنسانية خلال الحرب العالمية الأولى، التي استهدف مشعلوها تفكيك الإمبراطوريتين العثمانية والروسية والسيطرة على مقدَّراتهما، وإيقاف محاولة ألمانيا الصعود إلى مستوى الدول الكبرى.

لكنَّ الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية اللتين انتصرتا في الحرب الأولى، لم تجلسا طويلاً على قمة هرم النظام الدولي (أو على أنقاض ما دمرته الحرب) ليفرضا مصالحهما الاستعمارية على حساب جميع دول العالم.

دفع العالم مجدَّداً الثمن، ولكن هذه المرة أضعافاً مضاعفة في حرب الانتقال من نظام دولي تسيطر عليه وتقوده بريطانيا وفرنسا إلى نظام دولي تسيطر عليه الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفييتي من جهة أخرى. ولم تطح الحرب العالمية الثانية بطموحات ألمانيا وإيطاليا واليابان فقط؛ بل أطاحت بالدور الدولي الكبير لفرنسا وبريطانيا أيضاً.

فبعد انتصار دول التحالف في الحرب الثانية وبروز الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قطبين دوليين، حاولت فرنسا وبريطانيا الظهور في وضع القوة الدولية الفاعلة ومنافسة القطبين الأقوى عبر شن اعتداءات على الدول الأضعف، فتعرضتا لانتكاسات كبرى. جاءت هزيمة السويس (أو العدوان الثلاثي على مصر) ومعارك جنوب شرق آسيا - خاصة في فيتنام - لتطيح بما تبقى من قدرة دولية كبيرة لبريطانيا وفرنسا، وانتهى الأمر إلى تسليمهما بالنظام ثنائي القطبية.

ومرة أخرى عاد العالم فيها ليدفع ثمناً باهظاً في الانتقال من النظام الدولي ثنائي القطبية إلى وضعية الهيمنة الأمريكية المنفردة. لكن دون صدام مباشر بين القطبين. فجرت الحروب بالوكالة في كوريا وفيتنام وتايلند، وكانت معركة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان هي الأشهر. كما دفع العالم أثمان صراعات وانقلابات وأعمال اقتتال أهلي في دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية بل حتى في دول شرق أوروبا. كان الأشهر فيها حروب يوغسلافيا الداخلية، والحرب بين أرمينيا وأذربيجان.

سقط الاتحاد السوفييتي، وترسخت هيمنة الولايات المتحدة قطباً حاكماً ومتحكماً في إدارة العالم من جهة أخرى. وها نحن نتابع عالم اليوم، وهو يعود للحديث وللصراع للانتقال من حالة القطب الواحد إلى وضعية العالم متعدد الأقطاب، وهو ما يجري مقروناً بالتهديد باستخدام السلاح النووي.

قصة العالم مع تعدد الأقطاب:

ليس جديداً الحديث عن العالم متعدد الأقطاب، فقد ظهر المصطلح وجرت المحاولات لبناء مثل هذا النظام منذ زمن طويل.

أشرنا إلى صعود ألمانيا واليابان وإيطاليا ما قبل الحرب العالمية الثانية في محاولة للعب دور على الصعيد الدولي أو لإعادة تقسيم القوة والنفوذ مع الدولتين المهيمنتين وقتها (بعد الحرب العالمية الأولى) أي بريطانيا وفرنسا.

وخلال مرحلة النظام الدولي ثنائي القطبية (بعد الحرب) حاولت فرنسا وبريطانيا مواصلة دورهما الدولي كقطبين لنصبح أمام عالم رباعي الأقطاب، لكنهما خرجتا من المعادلة. ويذكر الجميع كيف لعب الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة دوراً في هزيمة العدوان الثلاثي على مصر.

وشهد العالم حالة أخرى جرت هذه المرة من داخل التحالف الغربي؛ إذ شقت فرنسا عصا الطاعة الأمريكية وأعلنت خروجها من حلف الأطلسي. ووقتها تحدث القائد الفرنسي التاريخي شارل ديجول عن أوروبا كقطب ثالث، رافضاً أن يكون الأمن القومي لبلاده تحت حماية الناتو المهيمَن عليه أمريكياً.

وتذهب بعض الكتابات إلى أن حركة عدم الانحياز (التي لعبت الصين دوراً بارزاً في تشكيلها مع مصر والهند) يمكن تصنيفها هي أيضاً ضمن المحاولات المبكرة لتشكيل قطب دولي وازن، في الصراع بين قطبي الحرب الباردة.

لم تكن الفكرة غائبة إذن طوال التاريخ السابق، لكنها بدأت تأخذ أبعاداً أخرى في الأربعين عاماً الأخيرة بشكل متصاعد ووَفْقاً لاعتبارات أشد وضوحاً.

لقد جرى طرح فكرة تعدد الأقطاب في داخل الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي أوج الصراع بين المعسكرين اللذين شكَّلا النظام ثنائي القطبية.

في تلك المرحلة ظهر تيار ثقافي في الولايات المتحدة سمي بأصحاب نظرية الاضمحلال. وكان أهم ما صدر من كتابات وقتها للتعبير عن مفاهيم هذا التيار، هو كتاب بول كيندي (صعود وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري من 1500 إلى 2000). وقد تابع الكاتب خلاله قصة قيام الإمبراطوريات واضمحلالها خلال هذه المرحلة الممتدة لنحو 500 عام، وتنبأ - وَفْقاً لعوامل القياس - بضعف الإمبراطورية الأمريكية وفقدان الهيمنة الغربية على العالم. كما أطلق رؤية مبكرة عن بروز أوروبا والصين أقطاباً دولية.

تحدَّث أصحاب تلك المدرسة الأمريكية عن تراجع القدرة والقوة الأمريكية والغربية عموماً عن الهيمنة على العالم وفقاً لعوامل داخلية وخارجية، وخلصوا إلى أن العالم يشهد بروز أقطاب دولية منافسة. وأشاروا تحديداً إلى أوروبا والصين واليابان، باعتبارها دولاً صاعدة، في حين رأوا أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي في انحدار اقتصادي نسبي. وأكد أصحاب تلك النظرية على أن نظام القطبية الثنائية للمنافسة الفكرية (الأمريكية - السوفييتية) أصبح قيد الاستبدال بنظام متعدد الأقطاب.

وعقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة ظهرت كتابات سارت في اتجاه مضادٍّ؛ إذ أشارت إلى تحول أمريكا إلى ما وصف بـ (سوبر بَوَر)، وإلى انتصار الفكر الليبرالي العلماني على ما عداه من الأفكار والعقائد، وأنه أصبح المحتوى الثقافي الشامل للحضارة البشرية. وأن التاريخ انتهى بالبشرية إلى هذا النمط الفكري الثقافي ونظامه السياسي الديمقراطي[1].

لكن الترويج لتلك الأفكار وُوجِهَ بطرح رؤى وأفكار مضادة؛ إذ ظهرت كتابات أخرى ترفض تلك الرؤية، وتناقضها وتعود للتأكيد على أن الهيمنة الغربية وسير العالم من نظام الأحادية القطبية إلى تعدد الأقطاب حقيقة مؤكدة. وكان أهم تلك الكتابات فكرياً وإستراتيجياً، ما قدمه صامويل هنتنغتون في كتابه الصادر تحت عنوان (صراع الحضارت... إعادة صنع النظام العالمي). سارت رؤية هنتنغتون في مسار تبلور نظام دولي جديد تتمثل فيه الحضارات الرئيسية في العالم. وجاءت ردّاً مباشراً على أطروحة فرانسيس فوكوياما حول انتهاء التاريخ إلى سطوة الثقافة الغربية وأن العالم صار متوحداً تحت عناوينها.

وفي الإطار نفسه كانت أهم الكتابات (البحثية - الإستراتيجية) دلالة، ما نشره الدبلوماسي المخضرم ريتشارد هاس مع زميله تشارلز كوبتشان، تحت عنوان (وفاق القوى الجديد... كيفية منع وقوع كارثة وتعزيز الاستقرار في عالم متعدد الأقطاب). وحسب مقال للكاتب المصري د. عبد المنعم سعيد في جريدة الشرق الأوسط، يقول المؤلفان: النظام الدولي يقف عند نقطة انعطاف تاريخية. وإنه مع استمرار آسيا في صعودها الاقتصادي، يقترب قرنان من الهيمنة الغربية على العالم على الانتهاء. وأن الغرب لا يخسر هيمنته المادية فحسب؛ بل سيطرته الأيديولوجية أيضاً، وأن الغرب لم يعد قادراً على تنظيم العالم.

وعلى الجانب الآخر المعني بالدرجة الأولى بهذا التحول هما (الصين وروسيا)؛ فقد صدرت تصريحات كثيرة حول أن النظام الدولي متعدد الأقطاب أصبح قيد التنفيذ.

وفي ذلك يمكن الإشارة إلى سبق يفغيني بريماكوف، وزير الخارجية الروسي الأسبق؛ إذ أعلن في عام 1996م عن بدء العالم في الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب. ووصف ذلك بأنه أحد التطورات في العلاقات الدولية.

وإلى خطاب الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ في عام 2007م؛ إذ شدد على ضرورة الالتزام بنظام عالمي متعدد الأقطاب.

ما المقصود بالعالم متعدد الأقطاب؟

يظل المفهوم العام لفكرة العالم متعدد الأقطاب غير واضح وهو لم يتبلور في صيغ واضحة حتى الآن. وربما المعنى الأوضح فيما هو مطروح حتى الآن، هو التركيز على إنزال الولايات المتحدة من هرم القمة العالمية وإفقادها هيمنتها وسطوتها على القرار الدولي إستراتيجياً واقتصادياً ودبلوماسياً، بل ثقافياً كذلك.

فهناك من تحدَّث عن عالم متعدد الأقطاب بمفهوم المخالفة للهيمنة الأمريكية أكثر مما قدم شرحاً ورؤية لنظام إدارة العالم في ظل تعدُّد الأقطاب.

وهناك مَن تحدَّث عن تعدد الأقطاب كمفهوم ونظام لاقتسام المصالح على الصعيد الدولي. وقد اقتربت بعض الكتابات والتصريحات من تقديم رؤية انتقادية للمواقف الأمريكية من زاوية إنكارها لحق الدول الكبرى الأخرى في فعل ما تفعله الولايات المتحدة بالدول الصغرى، وهو ما ظهر جلياً في الردِّ الروسي على الموقف الأمريكي الرافض للعدوان على أوكرانيا بالحديث عن العدوان الأمريكي البريطاني على العراق.

وهناك من يطرح الأمر من زاوية وقْف تدخلات الولايات المتحدة في شؤون الدول الأخرى خاصة الكبرى. وهو مفهوم يتمدد إلى وقف التدخلات العسكرية الأمريكية في المناطق التي تراها تلك الدول مجالاً حيوياً لأمنها القومي ومصالحها الثابتة.

وهناك من يطرح تعدد الأقطاب من زاوية إيقاف سياسة العقوبات التي تعتمدها الولايات المتحدة قاعدة وحقّاً خالصاً لها في سياستها الخارجية؛ إذ تقوم بفرضها دون قرارات من مجلس الأمن الدولي.

وهناك من يطرح تعدُّد الأقطاب من زاوية تغيير قواعد إدارة الاقتصاد والتجارة والنظم المصرفية لإنهاء خضوعها لسيطرة ومصالح الولايات المتحدة، ويطالب بتشكيل نظم تتعامل مع التوازنات الاقتصادية الجديدة. إذ تحولت الصين إلى الدولة الثانية على صعيد الاقتصاد العالمي (وهناك من يرى أنها ستصبح الدولة الأولى خلال بضع سنوات)، كما صعدت أوروبا اقتصادياً إلى مرتبة القوة الاقتصادية التي يُتوَقَّع أن تسبق الولايات المتحدة لتأتي خلف الصين في المستقبل القريب.

وفي كل ذلك، تثار أسئلة كثيرة لم تقدَّم لها إجابات، على النحو التالي:

هل القصد هو تغيير المؤسسة الدولية (الأمم المتحدة) بأخرى كما حدث في الانتقال من عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى إلى الأمم المتحدة بعد الحرب الثانية، أم المقصود هو إدخال تغييرات على آليات اتخاذ القرار في الكيان الدولي القائم، أم أن المستهدف هو: أن تتوقف الولايات المتحدة عن الخروج على قراراتها التي تصدر من مجلس الأمن؟ وماذا سيتغير - تحديداً - إذا كانت الدول الكبرى المتنافسة هي ذاتها التي تملك حق النقض الفيتو؟

هل يعني تعدد الأقطاب توسيع عدد الدول التي لها حق النقض؟ وكيف سيجري تحديد وتعيين هذه الدول؟ هل تتحدد الدول باعتبارها ممثِّلة لإحدى الحضارات الرئيسية في العالم، أم تتحدد على أساس تمثيل القارات، أم حسب حجم الاقتصاد، أم بناءً على امتلاك القوة العسكرية والأسلحة النووية بشكل خاص؟

وفي انتظار تلك الإجابات وغيرها، فإن الصراع العالمي قد انطلق فعلياً؛ إذ تحولت القضية الأوكرانية إلى صراع دولي حول تعدد الأقطاب تحديداً.

 


[1] كما هو الحال في كتاب فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ).

 

 


أعلى