هل ستنجو إيران من الثورة الشعبية هذه المرة؟
في عام ٢٠٠٩ شهدت إيران انتفاضة شعبية ضخمة، وانتهت هذه الانتفاضة بالقمع بعد أن راح ضحيتها ما يقرب من ٢٥٠٠ إيراني، فهل ما تشهده إيران هذه الأيام من حراك شعبي سينتهي مثل ما انتهى سابقه؟
لفهم مستقبل هذا الحراك في الداخل الايراني يجب علينا بحث أمرين:
أولا/ التركيبة الداخلية، وحجم الاحتجاج والسياق المحلي والاقليمي والدولي في كل من الانتفاضتين: انتفاضة 2009 والانتفاضة الحالية.
انتفاضة 2009
في يونيو عام 2009 انطلقت المظاهرات من طهران، ثم انتقلت إلى عدد من المدن الأخرى احتجاجا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أعيد فيها انتخاب محمود أحمدي نجاد لفترة رئاسية ثانية، مع خسارة مير حسين موسوي، واصطلح وقتها على تسمية الحراك بـ “الثورة الخضراء".
وقد خرج فيها مئات آلاف الإيرانيين، واعتقل مئات الإصلاحيين آنذاك، ونظمت تظاهرات أخرى وقتها داخل عدد من الجامعات وخصوصا جامعة طهران في وسط المدينة التي طوقتها الشرطة، وحيث تشكلت مجموعات تردد "يا حسين، مير حسين" ويجمع هذا الهتاف لمعارضي الرئيس احمدي نجاد بين اسم الامام الحسين واسم رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي منافس احمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الذي لم يحقق الفوز، وأصبح أحد قادة المعارضة.
وعملت السلطات على تنظيم مظاهرات مؤيدة للنظام عُرفت بأحداث "30 ديسمبر"، حيث هتف طلاب من الباسيج (الميليشيا الحكومية) "الموت للمنافقين"، وتمكنت بعدها السلطات الايرانية من السيطرة على الأوضاع، وقد أعلن الأعلام الرسمي الإيراني حينها عن مقتل 7 مدنيين في يوم واحد.
وبالفعل كان للباسيج العامل الحاسم في قمع هذه التظاهرات، وايجاد مناخ من الخوف في أعقاب ذلك. ومن المعروف أن الباسيج هو أحد مكونات الحرس الثوري الايراني، الذي ينقسم إلى خمسة فيالق رئيسة ثلاثة، من هذه الفيالق تعتبر تقليدية وقريبة من دور الجيش الإيراني، وهي الفيالق البرية والبحرية والجوية، فمهامها تتداخل مع مهام قوات الجيش الإيراني الذي يتكون أيضاً من هذه الأنواع الثلاثة الرئيسية، بالإضافة إلى وجود فيلقين مهمين: قوات التعبئة (الباسيج) وتتركز مهامه في الداخل الإيراني، وفيلق القدس وهو منوط بالدور الخارجي ومن أشهر قواده قاسم السليماني.
ولكن بالتأمل إلى هذه المظاهرات أي ما جرى في عام 2009، يلاحظ أنها جرت في مدنيتين فقط بالرغم من أن المدينتين منهما العاصمة طهران، ولكن هذا ما جعل الانتفاضة تشغل حيزا جغرافيا ضيقا وليس بامتداد إيران كلها.
وكما ضاق الحيز الجغرافي فإن الحيز السياسي أيضا كان ضيقا، بحيث اقتصر الصراع ما يمكن اعتباره صراع داخل النظام، أو بين أجنحته المختلفة (الاصلاحيون والمتشددون)، وليس بين الشعب في فئاته المختلفة وبين النظام.
أما من حيث الوضع الدولي في ذلك التوقيت أي منتصف عام 2009، فقد كانت أمريكا برئاسة أوباما بصدد استراتيجية جديدة، تتخلى فيها عن التدخل المباشر في المنطقة الشرق الأوسط، وتسعى للانسحاب من المنطقة لتديرها من بُعد من خلال حلفاء اقليميين.
لذلك سعى أوباما لمحاولة انجاز اتفاق مع إيران خاصة بشأن البرنامج النووي الإيراني، يشمل تقليص النشاطات النووية الإيرانية، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها.
حيث بدأت مفاوضات وصفت بالماراثونية بين القوى الدولية (مجموعة بي 5 + 1) مع إيران منذ عام 2006، وتضم مجموعة الدول الست، الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا والصين)، إلى جانب ألمانيا.
وقد أعلن رسمياً عن الاتفاق في عام 2015، وصرح الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما حينها إن الاتفاق "يقطع أي طريق أمام إيران للحصول على أسلحة نووية"، بينما وصف نظيره الرئيس الإيراني، حسن روحاني، الاتفاق بأنه يفتح "فصلا جديا" في علاقات إيران مع العالم.
أي أن الظروف الدولية في عام 2009 كانت أجواء توافق ومحاولة ادماج إيران في المجتمع الدولي، والاعتراف بأدوارها الاقليمية، أو على الأقل عدم الضغط عليها في تمددها الخارجي، وهذا ينطبق بالتالي بعدم مساندة أي حراك داخلي، وعدم تسليط الأضواء عليه، ومن المعروف أن من بين وسائل التضليل الاعلامي التي تجيدها وسائل الاعلام المختلفة في العصر الحالي سواء كانت فضائية أو صحيفة أو موقع انترنت، هو جعل الخبر المتعلق بحدث ما في مؤخرة الأخبار، وعدم التركيز عليه، وهذا ما حدث بالفعل في مظاهرات 2009 الايرانية.
انتفاضة 2019
اندلعت هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات، بعدما رفعت الشركة الوطنية الايرانية للنفط أسعار البنزين بنسبة 50% حتى حصة 60 لترا في الشهر، وبنسبة 300% لمن يتجاوز هذه الحصة الشهرية التي تدعمها الدولة.
وتسببت الاحتجاجات في سقوط قتلى وجرحى بين المتظاهرين وقوات الأمن، ونشرت بعض التقارير أن الحصيلة قد بلغت ١٠٠٠ معتقل و٢٩ قتيل، وأحرق محتجون غاضبون ما يزيد عن 100 مصرف و50 متجرا خلال أيام.
وفي خلال 15 ساعة فقط تم حرق 110 مركز شرطة، وتكسير خمس سجون كبيره فيها 172 الف معتقل اكثرهم من السياسيين ضد الحكومة، وتقول بعض الأنباء لم يتم التأكد من صحتها إلى فرار أكثر من 150 الف جندي من الجيش الايراني، حيث تركوا وحداتهم وذهبوا الى جهة مجهولة.
ولكن المثير في أمر تلك المظاهرات هذه المرة أنها تمددت جغرافيا، لتشمل تقريبا مختلف محافظات إيران لأول مرة، حتى قدرتها بعض المصادر الصحفية بأنها قد وصلت الى ١٠٠ مدينة واقليم، كما أنها تمددت أيضا عرقيا فشارك في المظاهرات لأول مرة أيضا العرب، مع الأتراك والآذريين والأكراد والفرس والبلوش، في حراك شعبي موحد ضد نظام الملالي؛ وهو ما وضع الدوائر الأمنية الإيرانية في مأزق صعب وحقيقي.
وليس هذا فقط بل اللافت هو ان الهتافات تجاوزت بشكل واضح موضوع الاعتراض على رفع اسعار الوقود، لتصل اليوم الى رفض للنظام السياسي وصولا لروحاني وخامنئي ...
ليحرق المتظاهرون أربعة تماثيل للخميني وثلاثة تماثيل لعلي خامنئي.
الوضع المحلي الايراني الآن خلاف عام 2009، فقد أظهرت تقارير صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد الإيراني تقلص في عام 2018 على نحو كبير، ووفقًا لآخر تقرير للبنك الدولي، من المتوقع أن يتقلص الاقتصاد الإيراني أكثر 8.7% في 2019-2020. هذا يعني أنّ الوضع الاقتصادي في إيران آخذ بالتراجع بشكل مهول، بخلاف ما ينشره النظام بين الحين والآخر عن تحسن الأحوال المعيشية والاقتصادية بين الناس، ولعل قرار السلطات الايرانية تقنين استخدام المحروقات ورفع أسعارها ثلاثة أضعاف السعر المعتاد مرّة واحدة، يعبّر عن الأزمة الداخلية التي يعيشها النظام الإيراني.
وبالإضافة إلى هذا فإن الحراك الداخلي الايراني يتأثر بعاملين خارجيين:
الأول تأثير مظاهرات الربيع العربي في موجته الثانية، وخاصة أنها تمتد إلى مناطق نفوذ أو التمدد الايراني في العراق ولبنان، فتقليد الشعوب لبعضهم عامل مهم في الحراك الذي ينتقل لهيبه بسرعة بين الشعوب، وخاصة عندما تتشابه في المعتقد والعرق والتوجه.
أما العامل الخارجي الثاني الذي يمثل ضغطا على النظام الايراني، هو الحصار الأمريكي على النظام الايراني بقيادة ادارة ترامب، والتي تحاول تقليص قدرات إيران النووية والحد من نفوذها المتصاعد في المنطقة لحساب إسرائيل، الذي تخشى هذا التمدد وتشعر أنه منافسة لها على النفوذ في المنطقة، في خضم تراجع استراتيجي عربي ملحوظ.
الأيام القادمة ستبرهن أكثر على أن هذه الموجة من الحراك الايراني قد اشتد عوده، وحتى لو نجح النظام الايراني وميليشياته في قمعه، فإنه ينذر بأن الموجات القادمة ستكون أشد وأكثر وبالا على هذا النظام الوحشي الطائفي.