تعد الأنفاق أحد أهم أدوات المقاومة في التعامل في العدوان الغاشم من قبل العدوان الصهيوني وحربه التي يدريها على القطاع، ولكن ما الذي يجعل تلك الأنفاق بهذه الأهمية ولماذا لم يستطع الاحتلال بعد كل تلك الفترة وما يتلقاه من دعم من فك شفرتها؟
مع اقتراب موعد مرور سنتين على حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على أهل
غزة، فاجأ الإعلام الصهيوني الجميع بالإعلان على غير العادة عن عملية نوعية جديدة
للمقاومة الفلسطينية.
فقد ذكرت قناة كان العبرية، صباح الأربعاء، أن خلية تقدر بما لا يقل عن 14 مسلحا
(على الأرجح قرابة 20) قد خرجت من فتحة نفق قرب موقع للجيش في جنوب قطاع غزة، وبدأ
المسلحون بإطلاق قذائف مضادة للدروع ونيران رشاشات باتجاه قوات الجيش داخل الموقع.
ويدور الحديث كما تقول القناة الصهيونية، عن هجوم منظم، ويقدّر الجيش أن الخلية
خططت للتسلل إلى الموقع وحتى أسر جنود.
هذا الهجوم النوعي من جانب المقاومة، يبدو أنه رسالة من جانبها، مفادها أنه لا يمكن
للكيان الصهيوني تحقيق النصر عليها، ويجب أن يأتي لطاولة المفاوضات بدون عنجهية أو
غرور ليرى الواقع كما هو، لا كما يريد.
ولكن ما السر الذي جعل الكيان الصهيوني عاجزا عن تحقيق أهدافه في حرب الإبادة على
قطاع غزة، والتي يشنها منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ حتى الآن؟
فالصهاينة منذ طوفان الأقصى، قد وضعوا هدفين للرد العسكري على هجوم المقاومة على
مستوطنات غلاف غزة، واستعادة الردع الذي فقد منهم منذ ذلك التاريخ.
الهدف الأول، تدمير المقاومة وإجبارها على الاستسلام وتسليم سلاحها، وهو الهدف الذي
له الأولوية لدى حكومة نتانياهو اليمنية المتطرفة، أما الهدف الثاني، يتمثل في
استعادة الأسرى الصهاينة لدى المقاومة.
وإذا كانت هذه الأهداف المعلنة، فثمة هدف آخر يتمثل في تهجير أهل غزة، خاصة بعد أن
لقي تشجيعا بوصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي،
وحديثه عن تهجير أهل غزة وتحويل غزة إلى ريفيرا، مما دفع المسئولون الصهاينة إلى
الدفع بقضية التهجير في العلن، وتم إطلاق يد زعماء اليمين الصهيوني المتطرف في
التصريح بضرورة رجوع المستوطنات الصهيونية القديمة إلى القطاع.
ولكن المقاومة الفلسطينية نجحت في وقف الخطط الصهيونية عدة مرات، والتي تنوعت:
بدءًا من الاجتياح إلى خطة الجنرالات إلى عربات جدعون، فأفشلت هذه الخطط، التي
تحطمت على جدران صلبة من صمود أسطوري سواء من المقاومة أو من أهل القطاع الذين
تعرضوا لحرب إبادة لا مثيل لها.
وخاضت فصائل المقاومة الفلسطينية حرب عصابات ناجحة ضد جيش الكيان، وتمثلت في نصب
كمائن لتطلق على مركبات الصهاينة قذائف الأر بي جي، أو تفجر فيها عبوات ناسفة، أو
تزرع ألغام تحتها، فضلا عن قنص الجنود.
فما السر في نجاعة حرب العصابات التي تخوضها فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الكيان
الصهيوني؟
|
في دراسة لمركز راند الأمريكي عام ٢٠١٧، خلص هذا البحث إلى أن الأنفاق
تحولت من وسيلة تكتيكية إلى عنصر استراتيجي في عقيدة حماس العسكرية، وأن
القضاء عليها لا يقتصر على الحلول العسكرية فقط، بل يتطلب معالجة سياسية
واقتصادية. |
يكاد يجمع المراقبون أن كلمة السر في قوة عمليات المقاومة، إلى معية الله وتوفيقه
أولا ثم فيما شيدته المقاومة من الأنفاق على مدار سنوات طويلة، والتي عوضت بها غياب
التضاريس الوعرة التي كان في إمكانها أن توفر حماية للمقاومة.
ولكن ما الذي يجعل هذه الأنفاق، بهذه الأهمية في الحرب، والعقدة التي لم يحلها
الكيان حتى الآن، على الرغم من المساعدة الغربية والتي حاولت هي الأخرى فك شفرة هذا
اللغز؟
للإجابة على هذا السؤال، يلزمنا تتبع المراحل التي مرت ببناء هذه الأنفاق حتى وصلت
إلى الشكل الحالي، وما موقعها في استراتيجية حماس، ثم محاولة استنباط خصائص وشكل
هذه الأنفاق الآن وقدراتها، وأخيرا المحاولات الصهيونية الفاشلة في القضاء عليها.
الأنفاق الدور والتاريخ
حددت العلوم العسكرية التي تقوم بتدريس حرب العصابات، أن هناك أربعة أدوار رئيسية
تقوم بها الأنفاق في حرب العصابات وهي:
أولا: الكمين والمباغتة: حيث يخرج المقاتلون
فجأة من فتحات مخفية خلف خطوط العدو أو حتى داخل مواقعه، مما يُحدث إرباكًا كبيرًا
ويُلحق خسائر فادحة.
وهذا ما لاحظناه في هجوم شرق خان يونس الأخير من جانب القسام.
ثانيًا: الحماية: فتوفر الأنفاق ملاجئ
آمنة للمقاتلين من القصف الجوي والمدفعي. كما يمكن أن تحتوي الأنفاق على مراكز
قيادة، وغرف للأسلحة والذخيرة، ومستشفيات ميدانية، مما يجعلها بمثابة مدينة كاملة
تحت الأرض يصعب استهدافها من الأعلى.
ثالثا: التحرك الآمن: تُتيح الأنفاق
للمقاتلين التنقل بأمان وسرية بين المواقع المختلفة دون التعرض للاستطلاع الجوي أو
النيران المباشرة للعدو. هذا يسمح لهم بإعادة التمركز وتجميع القوات ونقل الإمدادات
والمعدات دون كشف تحركاتهم.
رابعًا: الاستنزاف: تُشكّل الأنفاق تحديًا
كبيرًا للجيوش النظامية، إذ يتطلب كشفها وتدميرها جهدًا ووقتًا وموارد هائلة. هذا
الاستنزاف المستمر يؤثر على الروح المعنوية لقوات العدو ويشتت انتباهها عن أهدافها
الرئيسية.
أما من حيث تاريخ استخدام المقاومة الفلسطينية في غزة للأنفاق، فقبل عام ٢٠٠٧،
استخدمت كتائب القسام الأنفاق البسيطة في عملياتها مثل تفجير مواقع عسكرية أو أسر
جنود صهاينة، مثل أسر الجندي شاليط، ولكن بعد سيطرة حماس على القطاع في ٢٠٠٧،
وتشديد الحصار من قبل الكيان الصهيوني، تحوّل بناء الأنفاق إلى استراتيجية ممنهجة
ومركزية للحركة.
وبتتبع السرديات عن أنفاق غزة، نجد أن هناك نوعين من الأنفاق:
أنفاق التهريب: وهذه تمتد إلى مصر ويديرها مدنيون على جانبي الحدود سواء في مصر أو
غزة، وغالبا ينتمي هؤلاء من قبائل في سيناء لها امتدادات في غزة ويقومون بتهريب
البضائع وكل شيء، لتشمل تهريب الوقود والسيارات الحديثة والعجول والأبقار.
وقد انتعشت أنفاق التهريب تلك، وكانت تشكل شريانًا اقتصاديًا رئيسيًا للقطاع،
وأوجدت تلك الأنفاق طبقة من التجار في غزة، ترتبط مصالحهم بنظرائهم في الجانب
المصري، مع وجود نوع من التنسيق من هذا الفريق المدني، سواء مع الجانب الذي يدير
القطاع وهو سلطات حماس، أو مع الشرطة المصرية.
أما النوع الثاني الأنفاق، فهي ذات الطابع العسكري وقد نشطت حماس في بناء شبكة
واسعة من الأنفاق القتالية تحت المدن والمناطق السكنية في غزة، وخارجها، حتى وصلت
إلى المرحلة الأخيرة، فأصبحت شبكة الانفاق داخل غزة تبدو وكأنها مدينة أخرى أسفل
القطاع، أطلق عليها الصهاينة مترو غزة.
الأنفاق في استراتيجية حماس
في دراسة لمركز راند الأمريكي عام ٢٠١٧، خلص هذا البحث إلى أن الأنفاق تحولت من
وسيلة تكتيكية إلى عنصر استراتيجي في عقيدة حماس العسكرية، وأن القضاء عليها لا
يقتصر على الحلول العسكرية فقط، بل يتطلب معالجة سياسية واقتصادية.
ولكن دراسة راند لم تتعمق في تحليل كيف استخدمت حماس الأنفاق استراتيجيا.
فحماس تعاملت مع الأنفاق في اتجاهين:
الأول كورقة تفاوض، عبر استخدامها في ملف الرهائن، وفرض شروطها في المفاوضات،
وتحويلها إلى قضية دولية تتناقش فيها الدول الكبرى، ولذلك تفرض حماس نفسها كلاعب
أساسي وليس مجرد منظمة عسكرية محدودة التأثير.
أما الاتجاه الثاني في تعامل حماس مع الأنفاق فهي استخدامها كعامل ردع، عبر تعطيل
تقدم قوات الجيش الصهيوني أو تجعله مترددا في تقدمه، أو لحماية لمقاتليها وقادتها،
مما يضمن استمرار القيادة والتحكم، أما القادة الذين تم استهدافهم فقد تم اغتيالهم
عندما تواجدوا خارج الأنفاق.
المحاولات الصهيونية للتعامل مع الأنفاق
تبدأ تلك المحاولات بالرغبة في الكشف عن طبيعة هذه الأنفاق، وجمع المعلومات حولها.
فقد ظلت طائرات التجسس البريطانية والأمريكية والفرنسية والصهيونية كلها تجوب أنحاء
القطاع، وخاصة في مركز ثقل المقاومة في مدينة غزة، محاولة العثور على حل يفك شفرة
هذه الأنفاق.
وفي نفس التوقيت، قام جهاز الشاباك بجمع معلومات عن مداخل ومخارج شبكة الأنفاق
الرئيسية. فرصد توزيع ومسارات الأنفاق التي تم اكتشافها، ومن ثم توازيها أو تقاطعها
مع الشوارع الفرعية والرئيسية، ثم نقل تلك الصورٍ عبر الذكاء الاصطناعي، محاولا
إيجاد مركز ثقل شبكة الأنفاق.
ولكن الخبراء الصهاينة اكتشفوا أو صدموا، أنهم لم يجدوا نمطا ثابتا للأنفاق والعقد
القتالية، وأنه لا يمكنهم بناء تصور أو محاكاةٍ يقينية ثابتة، فالأمر أشبه
باستراتيجية التنظيم العشوائي أو العشوائية المنظمة، وهو لغزٌ ومتاهةٌ لا يمكن
حلها:
فأحيانا تكون الأنفاق شبه سطحية والعقدة القتالية في الطبقة العلوية، وأحيانا تتكون
من طابقين وثلاثة، وأحيانا طبقات وهمية غير مستخدمة، وبعض هذه الأنفاق يكون الربط
بينها علويا، وبعضها يكون سفليا، وبعضها تُستحدث له فتحات خروج حسب الحاجة ثم تغلق،
وبعضها ملتوية دائرية، وبعضها يخرج في البيوت وبعضها في الشوارع، وبعضها يتوازى مع
الطرق، وبعضها يتقاطع معها، وبعضها لا يتوازى ولا يتقاطع بشكل هندسي.
والشيء الأكثر إثارة، أن الأنفاق التي يخرجون منها مرة بشكل رسمي لتسليم أسرى
يغلقونه ولا يخرجون منه أخرى، والأعجب من هذا كله، أن لكل كتيبةٍ ولواء وعقدة خريطة
لأنفاقها، وبوصلة اتجاهات ونقاط ربط للسير بأمان دون فقد الاتجاهات أو الضياع تحت
الأرض، ومع هذا لم تُسرب لهم خريطةٌ واحدة ولا نمط واحد بشكل كامل.
وعلى الرغم من عدم القدرة على جمع بيانات محددة للأنفاق، فقد قام الجيش الصهيوني
بمحاولتين للتعامل مع هذه الأنفاق باءت كلاهما بالفشل:
الأولى: محاولة إغراق الأنفاق بالماء، ففي تحقيق أجرته صحيفة هآرتس العبرية أن
الجيش الصهيوني قد دشن عملية سماها (أطلانطس) في يناير ٢٠٢٤ بعد ثلاثة أشهر من
بداية الحرب، وقال إنه سيضخ كميات هائلة من مياه البحر عبر شبكات من الأنابيب
والمضخات لإغراق الأنفاق.
وذكر أحد المصادر لهآرتس أنه بعد محاولات إغراق الأنفاق، دارت نقاشات في الكيان حول
آلية بناء حماس للأنفاق، ولماذا لم تغرق طيلة السنوات الماضية نتيجة مياه الأمطار.
واكتشفت دولة الاحتلال أن حماس شيدت الأنفاق على مستويات مختلفة ومنحدرات وأنشأت
نظاما لتصريف مياه الأمطار وأبوابا جانبية، وفقا لهآرتس.
أما المحاولة الثانية فقد تحدث عنها اللواء احتياط في جيش الكيان اسحاق بريك، حيث
ذكر أنه اقترح على نتنياهو في بداية الحرب حفر قناة من كرم أبو سالم على الجانب
الفلسطيني وحتى البحر، بعمق 70 مترًا وعرض 30 مترًا، على طول محور فيلادلفيا (14
كيلومترًا)، وتدعيم جوانبها بالخرسانة.
ويضيف بريك في حديث إذاعي أن هذا كان سيؤدي إلى كشف مئات الأنفاق، ولكن نتنياهو
بحسب بريك قد اعترض على ذلك بسبب التكاليف الباهظة، والحاجة إلى عمال ومعدات ثقيلة،
وخطر تعرض العمال لهجمات من حماس، كما أن نتنياهو ذكر أن المصريين يرفضون القيام
بذلك على حدودهم ويهددون بقطع اتفاقية السلام إذا قامت الحكومة بذلك.
عقدة الحرب
هذه الأنفاق لها أهميتها الكبرى في صمود المقاومة وانتصارها بعون الله فعجز الكيان
عن تدميرها، يعني فشله في تحقيق النصر عليها، فهي بحق أسطورة ومعجزة شيدها أبطال
المقاومة بسواعدهم ودمائهم.
وما تملأ به أبواق الكيان الشاشات، من استعداده لحصار مدينة غزة وتدمير حماس، ما هي
إلا أوهام يحاول بثها في محيطه الداخلي، يخفي به عجزه عن تحقيق الانتصار الذي طالما
وعد به.