جيلٌ وُلد تحت القصف يعود اليوم ليقود الفرح، معلنًا أن الثورة السورية لم تكن حربًا فقط، بل مسيرة صبر وإيمان انتهت بنصر أعاد الكرامة، وأثبت أن الدماء أنجبت حرية، وأن جيل الحرب هو جيل النهضة وبناء المستقبل.
كانت سوريا، قبل أكثر من عقد من الزمن تئنُّ تحت وطأت القصف وأصوات
الرعب، وأطفالها يركضون بين الدخان، وأمهاتهم يحملن في العيون خوفًا لا يُوصف،
وكانت صور الموت والدمار تملأ الشاشات، وأيامهم لا تعرف الهدوء، واليوم، بعد أن
أشرقت شمس النصر، نرى أولئك الأطفال وقد صاروا شبابًا يملؤون الساحات فرحًا،
ويرفعون رايات الحرية، ويهتفون للحياة التي انتصرت أخيرًا على ظلم وطغيان وإجرام
السفاح الذي أذاقها صنوف العذاب.
إن المشهد الذي رأيناه في احتفالية النصر بالأمس لم يكن عاديًا؛ فقد
كان مشهدًا استثنائيا مكتمل المعنى، يختصر رحلة أمةٍ من الألم إلى الأمل، ومن
الانكسار إلى الانتصار، وهؤلاء الشباب الذين كانوا يختبئون في الأقبية زمن القصف،
صاروا اليوم يقودون المسيرات ويزغردون للنصر، وكأنهم يعلنون للعالم أن الدماء التي
سالت لم تذهب سُدى، وأن جيل الحرب هو ذاته جيل النهضة.
لقد كانت الثورة السورية، في بدايتها، نداءَ كرامةٍ أكثر من كونها
حراكًا سياسيًّا، وكان السوريون يريدون فقط أن يعيشوا أحرارًا في وطنهم، لكن آلة
الاستبداد لم تترك لهم سوى خيار المواجهة، ومع طول المأساة وتكاثر الجراح ظنّ
كثيرون أن الأمل قد مات، لكن الله يأبى إلا أن يكتب لهذه الأرض حياةً جديدة.
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
وإن مشهد النصر الذي رأيناه بالأمس لم يكن وليد صدفة، بل هو ثمرة
صبر طويل، وتضحيات لا تُحصى، فقد مرّت الثورة السورية بمحطات عصيبة، سقط فيها آلاف
الشهداء، وتشرد الملايين، وانطفأت مدنٌ ومحافظات كانت عامرة بالحياة، ومع ذلك، لم
تنطفئ جذوة الإيمان في قلوب السوريين، فبقيت الثورة تنبض، كنبض القلب في الجسد
الجريح، ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ﴾ [النور: 55] ورأينا بعد أن
انكسر الطغيان كيف أن الله يبدّل الخوف أمنًا، واليأس فرحًا، والدمع ابتسامةً تضيء
الوجوه، في جميع ميادين سوريا.
ففي ساحة النصر بدمشق، كانت المشاهد تمزج بين البكاء والزغاريد،
ورأينا شبابًا يرفعون صور آبائهم الذين استُشهدوا في الحرب، وآخرين يسجدون شكراً
لله، ونساءً يزغردن رغم أن قلوبهن ما زالت مثقلة بفقد الأحبة، وكانت تلك اللحظة
تختصر كل ما مرّ على سوريا من وجع، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58] فكانت إعلانًا صادقًا بأن الحزن قد أفسح
مكانه للفرح، وأن الدماء التي روت التراب بدأت تُثمر حريةً وعزة وكرامة.
فرأينا على منصة الاحتفال في قصر المؤتمرات أحد المشاهد التي لا
تُنسى هو رؤية أولئك الشباب الذين كانوا أطفالاً أيام القصف، وقد عادوا ليشاركوا في
الاحتفالية بوجوهٍ تشع بالأمل بمستقبل مشرق، فهؤلاء الذين كبروا بين الركام، تعلموا
منذ الصغر أن النصر ليس هدية بلا ثمن، بل النصر يُنتزع انتزاعًا من فم الألم
والمعاناة والجراح، ولذا رأينا في وجوههم مزيجاً من الطفولة التي سُرقت، والشباب
الذي لم ينكسر، والإيمان الذي لا يعرف المستحيل، فكانوا كأنهم يقولون للعالم: "ها
نحن جيل الحرب نصنع النصر ونبني السلام".
لقد جاءت هذه اللحظة لتذكّر كل من ظنّ أن الحق يضيع في ضجيج الباطل،
أن الله لا يخذل من صبر وثبت. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
[الحج: 38]. ولقد دافع الله عنهم، حين لم يبقَ لهم سندٌ إلا الإيمان، ولم يملكوا
سلاحاً إلا الدعاء، وبعد أن علت رايات النصر في الشام، أدركنا أن صبرهم الطويل كانت
نهايته فجرا صادقا، وأن كل شهيدٍ، وكل أمٍّ بكت، وكل طفلٍ فقد بيته، كان يسير - دون
أن يدري - نحو هذا اليوم العظيم ليفرح بما منّ الله عليهم به من عطاء.
فيا أحرار الأمة إنّ الثورة السورية علّمت العالم معنى الثبات،
وأثبتت أن إرادة الشعوب لا تُقهر مهما اشتدت العواصف، وصحيح أن النصر تأخر عليهم
لكنه جاء ناصعًا، وكأن الله أراد أن يختبر قلوب المؤمنين منهم قبل أن يمنحهم فرحة
النصر، ليكون الفرح مضاعفًا واليقين أعمق، ومن كان بالأمس يبكي على وطنٍ ضائع، صار
اليوم يفرح في ساحاته بحريةٍ وكرامة.
وهذا بحد ذاته يعد ميلاداً حضارياً جديداً، فجيلٌ وُلد في الحرب بدأ
يكتب صفحة جديدة من تاريخ بلده، جيلٌ لا يعرف الخوف، لأنه عرف الموت، ولا يساوم على
الحرية، لأنه ذاق طعم العبودية، ولذا خرج من بين الأنقاض جيشٌ من الوعي والإيمان
والعزيمة، يؤمن أن سوريا لا تُبنى بالحديد والنار، بل بالعقول والقلوب والضمائر
الحيّة.
وما أجمل أن ترى علم سوريا الحرة يرفرف فوق المدن التي كانت بالأمس
رمادًا، والأطفال الذين فقدوا مدارسهم صاروا اليوم معلمين للحياة، والأمهات اللواتي
فقدن أبناءهن أصبحن رموزًا للصبر والرضا، حتى الشهداء، وإن غابوا بأجسادهم، فإن
أرواحهم كانت حاضرة في كل ميدان تشهد على أن دماءهم لم تذهب سدى، وأن الثورة التي
بدأوها بالصرخات اختتمت بالأناشيد.
وإذا نظرنا في عيون الشباب الذين قادوا احتفالات النصر، أيقنّا أنهم
يعرفون أن الطريق ما زال طويلاً، لكنهم أدركوا أن البداية الحقيقية تبدأ الآن، ولقد
تحررت الأرض، وآن للعقول والقلوب أن تتحرر أيضاً، حتى تتحقق فيها دعوة النبي صلى
الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في شامنا) (البخاري)، وها هي الشام تعود للحياة
لتكون منارةً للبركة، وتحمل رسالة الحرية والاستقرار بعد أن عانت من ويلات الحرب.
ومن هنا كان انتصار الثورة السورية بعد هذه السنوات العجاف هو
تذكيرٌ صريح بأن سنن الله لا تتبدّل، وأن طريق النصر هو ذاته الذي سار عليه النبي
ﷺ
في صحراء الهجرة: طريق الصبر، والإيمان، والتوكل، والثبات على المبدأ، وقد يتأخر
الفجر، لكن حين يأتي يكون ساطعًا يغسل كل دمعةٍ ويجبر كل كسر.
وكم يشبه مشهد الأمس مشهد الهجرة قبل قرون! فهناك في مكة خرج
النبيٌّ مستضعفٌ لا يملك إلا قلبه المملوء بالإيمان، وهنا خرج شعبٌ أعزل لا يملك
إلا صدقه وصبره، وهناك كانت الصحراء، وهنا كانت الأنقاض، لكن ربّها هو الربّ الواحد
الأحد الذي وعد بالنصر لمن نصره.
وفي الهجرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ناصر نبيه)، وفي
الثورة السورية قال الناس: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وبين القولين تمتدّ خيوط
واحدة من اليقين؛ أن النصر يُمنح لمن صدق مع الله، وأنه يأتي حين يكتمل الإيمان في
القلوب.
ولتعلم الدنيا بأجمعها إن النصر الذي تحقق ليس انتصاراً لسوريا
وحدها، بل هو انتصارا لكل إنسان حرّ آمن بالحق في وجه الظلم، ولكل أمّة أرادت أن
تنهض وتتحرر رغم أنف الطغاة والمجرمين، فالثورات لا تُقاس بعدد الضحايا ولا بسنوات
الانتظار، بل بما تُحدثه من وعيٍ جديد في قلوب الناس، وسوريا اليوم تحمل في قلبها
وعياً جمعيًّا جديدًا، يؤمن أن الكرامة أغلى من الحياة، وأن الحرية لا تُشترى
بالهيّن وقد لا تستحصل إلا بالدم.
وهكذا هي سوريا تنكسر مرة، لكنها لا تُهزم وتبكي لكنها تنهض، وحين
رأينا الشباب الذين وُلدوا في الحرب يحتفلون بالنصر، أدركنا أن الثورة لم تكن لحظة
في التاريخ، بل كانت ولادة أمة جديدة أعادت سوريا للحياة.
[1]
بمناسبة مرور عام على انتصار الثورة السورية 8/12/2025 .