• - الموافق2025/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بابا الفاتيكان في تركيا.. دلالات الزيارة بين الديني والسياسي

جاءت زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى تركيا لتطرح العديد من الأسئلة فلم تكن الرحلة مجرد حدث بروتوكولي، بل كانت بوابة لاختبار الإرادات والرؤى في لحظة مصيرية تمر بها المنطقة والعالم. فما الذي دفع رأس الكنيسة الكاثوليكية لاختيار تركيا كبداية لمسيرته الدولية،


جاءت زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى تركيا كأول محطة خارجية له بعد توليه منصبه لتضع الفاتيكان وأنقرة معًا تحت ضوء غمار جديد في لحظة تاريخية يتفاقم فيها التوتر الجيوسياسي، ولم تكن الزيارة بروتوكولًا روتينيًا أو مجاملة دبلوماسية بل حملت رمزية عميقة في الزمن والمكان، وطرحت أسئلة تتجاوز حدود اللقاءات الرسمية لتلامس موقع الدين في صراعات الشرق الأوسط ورهانات تركيا على خطاب حضاري جامع، وكذلك محاولة الفاتيكان إعادة ترميم مكانته الروحية في الشرق في زمن تعصف به الحروب والاعتداءات.

وما جعل الزيارة أكثر ثراءً هو تزامنها مع الذكرى 1700 لمجمع نيقية الأول، أحد الركائز العقائدية في التاريخ المسيحي، ومع رغبة واضحة لدى البابا الجديد في مواصلة نهج سلفه البابا فرانشيسكو في بناء الجسور بين الكنائس وتدعيم حضور الكاثوليكية في الشرق، ومع أن تركيا اختارت إبراز هويتها كـ"جسر حضاري"، فإن الزيارة حملت أيضًا بعدًا سياسيًا يعكس حساسية المرحلة، ولا سيما في ما يتعلق بالأوضاع في الشرق الأوسط، حيث أشار البابا إلى أهمية السعي إلى تطبيق سلام شامل ودائم في المنطقة، ومع ما أثارته الزيارة من استحسان وانتقاد، فإن أهميتها تكمن في كونها مختبرًا لتجربة سياسية في منطقة تبحث عن صيغة للسلام بعد عقود من العنف والتقلبات.

دلالات رمزية ودبلوماسية تتجاوز البروتوكول

لم يكن اختيار تركيا كأول وجهة خارجية للبابا الجديد مصادفة زمنية أو اختيارًا عشوائيًا، بل مؤشرًا على رغبة مزدوجة من الفاتيكان وأنقرة في استخدام الرمزية الدينية كأداة لإعادة هندسة العلاقات مع العالم، فمثلًا بالنسبة للفاتيكان تأتي الزيارة في لحظة تشهد فيها المنطقة العربية والإسلامية اضطرابات عنيفة وصعود خطابات الحروب والهويات الضيقة، حيث يبحث الفاتيكان عن مكان ليعيد فيه تفعيل دوره كصوت يقدّم بديلًا إنسانيًا للأزمات، أما تركيا هنا فتمثل تجانس الحضارات القديمة من حيث كونها دولة ذات غالبية مسلمة، لكنها تحتضن مؤسسات مسيحية تاريخية وتطرح نفسها منذ عقدين بوصفها وسيطًا بين الشرق والغرب.

وعلى المستوى التركي، تأتي الزيارة في سياق رغبة أنقرة في إعادة تقديم نفسها للمجتمع الدولي بعد فترة طويلة من التحولات السياسية والإقليمية، فاستقبال رأس الكنيسة الكاثوليكية يوفر فرصة لإظهار قدرة تركيا على إدارة التنوع الديني، ليس فقط من موقع "التسامح" بل من موقع "الشراكة التاريخية"، ولهذا أيضًا بدا واضحًا أن الحكومة التركية تعاملت مع الزيارة باعتبارها مصدرًا للشرعية الحضارية والدبلوماسية، وليس مجرد حدث بروتوكولي.

حوار الكنائس ومحاولات التوافق  

تضمنت جولة البابا ليو الرابع عشر داخل تركيا محطات ذات أهمية فائقة في مسار العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية، أبرزها اللقاء مع بطريرك القسطنطينية المسكوني برثلماوس الأول، والاحتفال الرمزي في مدينة نيقية (إزنيك) في الذكرى 1700 للمجمع المسكوني الأول، فمن الناحية الرمزية فإن زيارة بابا الفاتيكان وبطريرك القسطنطينية معًا لموقع أول مجمع كنسي في التاريخ تعد حدثًا غير مسبوق.

وقد أعادت هذه الزيارة فتح ملف الانقسام التاريخي الذي وقع عام 1054 بين الكنيسة الشرقية والغربية، وهو الانقسام الذي شكّل ملامح التاريخ المسيحي لقرون، وهنا برزت المفارقة التي أشار إليها المؤرخ التركي الشهير "أرهان أفيونجو" عندما علَّق على زيارة بابا الفاتيكان إلى تركيا قائلًا: "إن البابا آنذاك يقصد في زمن الانقسام الأول كان ليو التاسع وقد سعى جاهدًا لجمع المتخاصمين وتقريب المتباعدين، واليوم يأتي ليو آخر يقصد بابا الفاتيكان الحالي ليو الـ14 في محاولة جديدة تقود الكنيسة نحو مصالحة طال انتظارها"، وعلى الرغم مع أن هذه الخطوات لن تنهي الخلافات العقائدية فإنها تلعب دورًا مهمًا في كسر الجمود التاريخي وإعادة بناء الثقة الرمزية بين الطرفين.

والملفت هذه المرة في الزيارة أن البابا ليو الـ14 تجنب زيارة مسجد آيا صوفيا بعد تحويله من متحف إلى مسجد، ما يعكس رغبة جادة في الابتعاد عن ملفات حساسة قد تُفهم سياسيًا أكثر منها دينيًا،.

فلسطين والإبادة.. بين الموقف الأخلاقي والضغط السياسي

على الرغم من الطابع الروحي الذي أحاط بزيارة البابا ليو الرابع عشر إلى تركيا، فإن البعد السياسي لم يكن غائبًا عنها، بل برز بشكل واضح عبر ملف فلسطين والحرب على غزة، فبعد تسلم البابا منصبه الجديد سارع إلى إدانة ما وصفه بـ"الإبادة الجماعية" في فلسطين، مؤكدًا أن استهداف المدنيين وتدمير الكنائس والبنى التحتية يشكل جريمة أخلاقية لا يمكن السكوت عنها، وقد مثّل ذلك تحولًا لافتًا في خطاب الفاتيكان الذي كان لعقود طويلة يتجنب توجيه اتهامات مباشرة لإسرائيل ويُفضل لغة الإشارة والتلميح، لكن البابا الجديد تبنى موقفًا أكثر صراحة رأى مراقبون أنه نتاج تفاعل بين قناعاته الشخصية ومناخ دولي يميل نحو انتقاد تل أبيب تجاه جرائمها المروعة.

وفي السياق نفسه أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له بعد استقباله بابا الفاتيكان بمراسم رسمية أن إسرائيل قصفت الكنائس والمساجد والمستشفيات والمدارس، بما في ذلك الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة وهي كنيسة "العائلة المقدسة" مُصنفًا ذلك بوصفه دليلًا على الطبيعة "غير الإنسانية" للحرب، وقد انعكس هذا الخطاب على طبيعة الزيارة ليحولها من مجرد حدث بروتوكولي إلى منصة مشتركة لإدانة الانتهاكات والاعتداءات على دور العبادة المختلفة، وإبراز مسؤولية أخلاقية تقع على الكنيسة والمجتمع الدولي معًا.

أصوات داعمة وأخرى رافضة للزيارة

وفي الداخل التركي رأى بعض السياسيين أن الزيارة مثلت فرصة لزيادة الضغط على إسرائيل وتعميق عزلتها، حيث اعتبر الكاتب الصحفي التركي "يوسف كابلان" أن تقارب الفاتيكان مع أنقرة يمكن أن يفضي إلى تحالف أخلاقي دولي يقوّض مكانة إسرائيل ويزيد من عزلتها، وبالتالي يمنعها من استثمار الدين في تحسين صورتها، وفي ذات السياق ظهرت أصوات سياسية أخرى متحفظة على الزيارة وما جري بها حيث رأى نائب رئيس حزب الحركة القومية "سميح يالتشن" أن الاحتفال في منطقة نيقية الواقعة في ولاية بورصة العثمانية التاريخية واتساع حضوره الروحي والدبلوماسي كان مبالغًا فيه وقد أعطي انطباعًا بعودة النفوذ الكنسي في المنطقة، وهو تحفظ له أهميته برأي خاصة أنه صادر عن أقرب حليف للحزب الحاكم وشريكه في تحالف "ألجمهوري" الحاكم، وهو ما يمكن قراءته على أنه انزعاج من احتفل كنسي وما حمله من حساسيات ثقافية وتاريخية في منطقة تعود جذورها للعثمانيين الذين كسروا أنوف الحملات الصليبية المتكررة التي خرجت من القسطنطينية.

تركيا وإعادة تعريف الذات

على الساحة الخارجية والدولية حرصت تركيا على استثمار الزيارة لإعادة تقديم نفسها كدولة "ضامنة للتنوع"، قادرة على استقبال رأس الكنيسة الكاثوليكية دون أن تمس بصلابتها الوطنية أو هويتها الإسلامية، وهذه الصورة تتناغم مع رغبة أنقرة في ترسيخ خطاب "الاستقلال الدبلوماسي" بعيدًا عن المحاور الغربية أو الشرقية، وتصريحات أردوغان خلال الزيارة على إمكانية التعايش رغم الاختلافات هي محاولة للتأكيد على سردية "تركيا الجامعة" التي تضمن حقوق الأقليات عبر مسار قانوني وإداري واضح، ومن منظور أوسع يمكن اعتبار الزيارة جزءًا من استراتيجية تركيا لصناعة "قوة ناعمة" دينية وثقافية تستغل فيها موقعها الجغرافي والتاريخي لخدمة قضاياها وإضافة ورقة رابحة جديدة لدبلوماسيتها خاصة تجاه سياسات إسرائيل العدائية في المنطقة.

كلمة أخيرة

كشفت زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى تركيا عن طبقات معقدة من التفاعل بين الجانبين الروحي والسياسي، فعلى مستوى تركيا فقد استُقبلت الزيارة باعتبارها فرصة لإعادة ترسيخ صورتها الحضارية وتعزيز نفوذها الدبلوماسي، والظهور كطرف قادر على جمع الأديان والثقافات في لحظة عالمية شديدة الاضطراب، ولكن مع ذلك لا يبدو أن الزيارة ستُحدث تحولًا جذريًا في ميزان القوى الجيوسياسي أو في طبيعة الصراعات الكبرى، إلا أنها تكشف عن بحث متجدد عن صيغة واقعية لسلام ممكن لا يتجاهل أثقال التاريخ ولا يلوذ بالصمت أمام جرائم الحاضر.

 

أعلى