• - الموافق2025/08/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الهندسة الممنهجة للمجاعة.. سلاح الحرب في غزة

الجوع في غزة ليس مجرّد غياب للطعام، بل منظومة قتل بطيء تتضافر فيها الأمراض المعدية، والانهيار المناعي، والتكدّس في مستشفيات عاجزة، مع حصار يقطع شرايين الحياة


لم يعد الجوع في غزة أثرًا جانبيًا للحرب، بل تصميمًا مقصودًا عبر هندسة ممنهجة للمجاعة، الكيان الصهيوني الغاصب حوّل المعابر والوقود والاتصالات وسلاسل الإمداد إلى مفاتيح يتحكّم بها في أعمار الناس، يوظّف الطعام والماء والدواء كسلاح لثني إرادة أهل غزة وكسر صمودهم. وتتقاطع هذه الحقيقة مع تحذيرات مستمرة عن قفزات في وفيات الجوع وسوء التغذية، وهو ما يجعل سياسة الخنق الإنساني جزءًا من عقاب جماعي محظور في كل القوانين والشرائع، ويضع استخدام التجويع في منزلة جريمة حرب موصوفة في نظام روما، لا التباس فيها ولا عذر لوجستي يخفف وطأتها. بهذه العدسة تُقرأ الحرب على غزة: استراتيجية تُبرمَجُ فيها الكارثة الغذائية بقرارات قابلة للتغيير، ويُدار بها الضغط السياسي والعسكري على المدنيين، لتغدو «الهندسة الممنهجة للمجاعة» السلاح الأشد فتكًا في معركة الإرادة والبقاء.

هندسة المجاعة: البنية والأساليب

لا تأتي المجاعة في غزة مصادفة، بل هي مشروع صهيوني متكامل الأركان، يقوم على إحكام السيطرة على مفاصل الحياة عبر خمسة مفاتيح قاتلة:

أولًا: المعابر وسياسة الخنق:

حولت سلطات الاحتلال الصهيوني المعابر إلى أدوات حصار مميت، تتحكم من خلالها في أنفاس غزة. تُقنن قوائم دخول المساعدات، وتبطئ التفتيش عمدًا، وتعطل حركة الشاحنات، لتبقى الكميات أقل بكثير من حاجة الناس. تقارير الأمم المتحدة نفسها تؤكد أن الكثير من قوافل الإغاثة تُلغى أو تُرفض أو تُؤجَّل بلا سبب إنساني، وأن ما يُسمح بدخوله لا يغطي إلا جزءًا ضئيلًا من الحد الأدنى للبقاء.

ثانيًا: الوقود والطاقة والاتصالات:

منذ 2 مارس 2025، أوقف الاحتلال دخول الوقود وقطع الغيار والمعدات، فأصاب منظومة الاتصالات واللوجستيات بالشلل. هذا الخنق المتعمد عطل المستودعات والمخابز والمستشفيات، وترك المرضى بلا علاج، والخبز بلا نار.

ثالثًا: تدمير مصادر الغذاء:

لم يكتفِ العدو بمنع دخول الطعام، بل استهدف القدرة على إنتاجه داخل القطاع. فدمّر الحقول وشبكات الريّ والبيوت البلاستيكية، وسمّم المياه، ليقضي على أي أمل في الاكتفاء الذاتي، تقارير الفاو الموثقة تكشف أن أكثر من ثلثي الأراضي المزروعة والمنشآت الزراعية أُبيدت مع حلول ربيع 2025.

 

تُحدّث وزارة الصحة في غزة قوائم ضحايا الجوع وسوء التغذية بشكل شبه يومي، وتؤكد أن "هندسة المجاعة" ليست توصيفًا مجازيًا بل واقعٌ مرسوم بخطوات محسوبة.

رابعًا: الرعب عند نقاط التوزيع:

حتى من يُكتب له الوصول إلى المساعدات يواجه الموت هناك، فالاحتلال الصهيوني يطلق النار على الحشود، ويزرع الفوضى، ويغلق الطرق، فتتحول طوابير انتظار المساعدات إلى ساحات مجازر، ووسائل الإعلام وثّقت خلال الشهور الماضية مئات الشهداء وآلاف الجرحى ممن حاولوا فقط الحصول على سلة غذاء.

خامسًا: استهداف منقذي الأرواح:

لم يسلم العاملون الإنسانيون من نيران العدو، حيث استشهد الكثير منهم، وتم استهداف مقارهم وقوافلهم، ليشل الاحتلال قدرة هذه المنظمات على الإغاثة المنتظمة، كجزء من سياسة مُحكمة تهدف إلى ترك غزة بلا غذاء ولا منقذ، في جريمة حرب مكتملة الأركان.

فداحة التقارير رغم التعتيم

في يوليو الماضي، أطلق "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" إنذارًا يصف ما يجري في غزة بأنه "أسوأ سيناريو للمجاعة يتكشف الآن"، متوقعًا أن يبقى كامل سكان القطاع في مرحلتي الأزمة والطوارئ إذا لم تتوقف الحرب، لا سيما مع وصول نحو نصف مليون إنسان إلى مرحلة "الكارثة والمجاعة"، كما حذّر من مستويات حرجة لسوء التغذية الحاد بين الأطفال، لكن هذه المعطيات، على فداحتها، ليست إلا الحد الأدنى الذي تسمح به لغة التقارير الأممية، إذ أن الواقع الميداني يفوقها بكثير. الكيان الصهيوني يواصل التأثير على مسارات جمع البيانات عبر قنواته وحلفائه، مما يجعل التقديرات الرسمية دومًا متأخرة عن الحقيقة أو مخففة من وقعها، وقد كشفت تقارير عديدة عن قفزة حادة في وفيات الجوع خلال الأسابيع الستة الأخيرة، مؤكدة أن هذه الوفيات لم تعد أحداثًا متفرقة بل نمطًا متسارعًا، وهو ما تدعمه تحذيرات منظمة الصحة العالمية وشهادات الفرق الإغاثية على الأرض.

على المستوى المحلي، تُحدّث وزارة الصحة في غزة قوائم ضحايا الجوع وسوء التغذية بشكل شبه يومي، وتؤكد أن "هندسة المجاعة" ليست توصيفًا مجازيًا بل واقعٌ مرسوم بخطوات محسوبة. أما ادعاء الاحتلال بأنه "لا يفرض سقفًا عدديًا على الشاحنات"، فليس سوى غطاء دعائي. فالطريق إلى فم الجائع محفوف بسلسلة من القيود، وحتى الشحنات التي تمر عبر معبري زيكيم وكِرم أبو سالم لا تعني شيئًا إذا كانت الفجوة بين الوارد والمطلوب متزايدة، وبين الوصول إلى المعبر والوصول إلى الفم مسافة يقطعها الجوع بالموت قبل أن تقطعها الشاحنة بالخبز.

تواطؤ دولي

يحظر القانون الدولي الإنساني تجويع المدنيين كأسلوب حرب، ويجرّمه نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية باعتباره جريمة حرب. وفي مايو من العام الماضي، أعلن مدعي المحكمة الجنائية الدولية عزمه طلب مذكرات توقيف بحق مسؤولين في الكيان الصهيوني، تتضمن تهمة "استخدام التجويع كوسيلة حرب"، مدعومة بأدلة من صور أقمار صناعية وشهادات وتقارير موثقة. ورغم أن المسار القضائي طويل ومثقل بالضغوط السياسية، فإن إدراج التجويع في لائحة الاتهام هو اعتراف أممي بخطورة الجريمة، لا مجرد مشكلة لوجستية كما يحاول الاحتلال تصويرها.

 

 اليوم تُظهر صور الأقمار الصناعية وتحليلات مراكز الأبحاث تلاشي مساحات واسعة من البساتين، وتلف شبكات المياه، وتلوث التربة، وتدمير أكثر من ثلثي الصوبات البلاستيكية

لكن ما يعرّي المأساة أكثر هو تواطؤ الحلفاء التقليديين لإسرائيل، الذين يطالبون بفتح المعابر بالكامل ودون قيود، دون اتخاذ أي خطوات حقيقية للإغاثة والوصول الفعلي على الأرض، ولا شك أن التجارب أثبتت أن الإسقاطات الجوية والممرات البحرية المؤقتة ليست إلا أدوات دعائية لا تُغني عن المعابر البرية المنظمة، وأن إنشاء كيانات وسيطة أو آليات استثنائية لا يوفر أمنًا غذائيًا، بل يشرعن الحصار ويطيل أمد الجوع، ولا شك أن خلاصة الموقف الذي لا يريدون التصريح به علنًا هو أنه لا بديل عن فتح بري كامل، منتظم، واسع النطاق، وتحت حماية تضمن وصول المساعدات إلى المدنيين بلا تدخل من المحتل، لكن بين هذا المبدأ وما يجري، يقف جدار المصالح السياسية الذي يحمي المجرم ويطيل عمر المجاعة.

سياسات المقادير الدقيقة

فوق الخنق المادي المباشر، يفرض الاحتلال الصهيوني "سياسات المقادير الدقيقة"، وهي ببساطة تتلخص في: فتحات زمنية ضيقة، ومسارات إجبارية، وحظر دائم للوقود وقطع الغيار وأجهزة الاتصالات، مع تغيير مستمر لقواعد الحركة، بحيث تصبح سلسلة الإمداد غير قابلة للتنبؤ أو الاستقرار، وقد أفادت تقارير عديدة بأن حجب معدات الاتصالات والوقود ضرب في مقتل قدرة المنظمات على تنسيق التوزيع، ليغدو كل شاحن مساعدات مشروعًا محفوفًا بالتعطيل أو الإلغاء، وهو ما يؤكد على أن هذه ليست قرارات منفصلة، بل حزمة هندسية متراكبة تقود إلى المجاعة.

قبل الحرب، ورغم الحصار المزمن، كانت غزة تملك زراعة مكثفة في مساحة محدودة، اليوم تُظهر صور الأقمار الصناعية وتحليلات مراكز الأبحاث تلاشي مساحات واسعة من البساتين، وتلف شبكات المياه، وتلوث التربة، وتدمير أكثر من ثلثي الصوبات البلاستيكية، والنتيجة هي انتقال مجتمع غزة من العوز المؤقت إلى الاعتماد المزمن على المعونة، مع مضاعفة كلفة التعافي لسنوات وربما عقود، وفي ظل بيئة التفاوض على الأسرى أو الهدنة، يتحول الغذاء إلى ورقة ابتزاز سياسي وعسكري، وقد أثبت التاريخ مرارًا أن الممرات المشروطة ليست ممرات إنسانية بل أدوات لإعادة رسم خرائط السيطرة الميدانية والسكانية، وفرض واقع جديد على الأرض.

كلفة إنسانية متراكمة

الجوع في غزة ليس مجرّد غياب للطعام، بل منظومة قتل بطيء تتضافر فيها الأمراض المعدية، والانهيار المناعي، والتكدّس في مستشفيات عاجزة، مع حصار يقطع شرايين الحياة. المشاهد القادمة من أجنحة الأطفال تُظهر أجسادًا هزيلة وعيونًا غائرة، وأصوات أمهات لا يحملن سوى العجز. التقارير الميدانية تؤكد أن آلاف قد استشهدوا وجُرحوا وهم يحاولون بلوغ شاحنة مساعدات أو كيس دقيق، فيما يلوح في الأفق شبح جيل كامل محكوم بالتقزّم، وبكساد صحي ومعرفي واقتصادي لن يمّحي دون جهد استثنائي طويل المدى. إن تسمية ما يحدث بـ "هندسة المجاعة" ليست توصيفًا لغويًا؛ إنها اتهام مباشر، وتحديد لمسؤولية، وكشف لنية مُبيّتة. فالجوع هنا مُبرمج، ومفاتيح وقفه ليست في يد الطبيعة ولا في يد القدر، بل في قرارات سياسية يمكن تغييرها الآن.

إذا استمر مسار الاحتلال في هذه الهندسة القذرة للجوع، فإن الأسابيع القادمة ستحمل مزيدًا من الوفيات القابلة للمنع، وانفجارًا في معدلات الهزال الحاد، وانهيارًا لما تبقى من شبكات الإغاثة. أما إذا تم كسر الحصار، وفتح المعابر لوصول كامل ودائم وآمن، مقرون بوقف العدوان، فإن المنحنى يمكن أن ينعكس خلال شهرين، ويُنقذ نصف مليون إنسان من براثن المرحلة الأسوأ للمجاعة، وبين المسارين يقف سؤال واحد يختبر جدية هذا العالم: هل يقبل أن يُستَخدم الجوع كسلاح إبادة بطيئة لشعب بأكمله، أم يملك الشجاعة لتفكيك هذه الجريمة الآن، قبل أن يُغلق التراب على آخر الضحايا؟

أعلى