• - الموافق2025/07/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حكمت الهجري... من مشيخة العقل إلى أحضان الاحتلال

لقد كشفت مواقف الهجري وتحولات مواقفه من السلطة قديما وحديثا عن أنه مجرد أداة وظيفية التقت مع أطماع شخصية، وبدلًا من أن يكون محذرا من خطر التدخل الخارجي. أصبح متضامنا مع كل ما يمكن أداة لتفتيت الوطن.


لم يكن خروج حكمت الهجري، أحد الزعماء الروحيين لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، عن الإجماع الوطني مجرد انحراف عابر في خطاب ديني، بل مثّل انزلاقًا خطيرًا نحو خيانة مكتملة الأركان، حين قرّر أن يستقوي بالاحتلال الإسرائيلي، ويبرّئه من دماء السوريين، بل ويدعوه ضمنيًا إلى لعب دور "الضامن" لطائفته في وجه الدولة السورية. من رجل دين كان يُفترض أن يحفظ مكانته كمرجعية روحية، إلى شخصية تُدين الضحية وتفتح أبواب الجبل أمام العدو، خطا حكمت الهجري خطوات متسارعة نحو التورّط في مشاريع التقسيم والتدخل الأجنبي، متخلّيًا عن ثوابت الانتماء، ومتجاوزًا كل الخطوط الوطنية والأخلاقية. إننا لا نقف أمام تحوّل شخصي، بل أمام مشروع تفكيكي يُدار بأدوات ناعمة على لسان رجل يدّعي التوازن، ويخفي وراء عمامته بيعة معلنة لأعداء الوطن.

نشأة وخلفية

وُلِدَ حكمت الهجري عام 1965م في فنزويلا، ضمن عائلة درزية مهاجرة حافظت بشدّة على هويتها المذهبية، على الرغم من البُعد الجغرافي عن الشرق الأوسط. هذا النشوء خارج الوطن الأم، في بيئة ثقافية واجتماعية غريبة، عمّق الإحساس بالخصوصية والانغلاق، وساهم في ترسيخ شعور مبكر بـ"الاختلاف المقدّس" لدى الطفل الذي سيصبح لاحقًا رمزًا مؤثرًا في واحدة من أكثر الطوائف السورية انغلاقًا. عندما عادت عائلة الهجري إلى السويداء، انخرط الشاب حكمت في فضاء التعليم الديني المحلي، ودرس في مدارس الطائفة، قبل أن يتخرّج لاحقًا من كلية الحقوق بجامعة دمشق، وبمزج العلم المدني مع الخلفية المذهبية، وبدأ في رسم معالم صورته المستقبلية كمرجع لا يقتصر نفوذه على الجانب الروحي، بل يتعداه ليشمل التأثير الاجتماعي والسياسي.

 

ظهر الهجري منذ الأيام الأولى للثورة كصوت داعم للنظام، لا بوصفه رجل دين يدعو إلى التهدئة، بل كمرجعية تكرّس بقاء السلطة القائمة وتُضفي عليها شرعية

السويداء، التي لطالما مثّلت معقلًا للمجتمع الدرزي في سوريا، كانت مهيأة بطبيعتها لتلقّي قيادة ترتكز على ثنائية الدين والعُرف، وهو ما وجد فيه حكمت الهجري نقطة انطلاق. فإلى جانب نشأته في عائلة متدينة، كان ينتمي إلى بيت له تاريخ في المرجعيات الدينية، حيث ورث المنصب عن شقيقه الأكبر أحمد الهجري، في تكريس لصيغة شبه وراثية لتولي مشيخة العقل، وهي الصيغة التي تعكس كيف يتم بناء السلطة الروحية ضمن الطائفة وفق ثقة اجتماعية موروثة، لا مجرد كفاءة دينية. لقد وفّرت له هذه النشأة مناخًا مثاليًا للظهور كرجل دين محافظ، يتمتع بثقة مجتمعية عالية، ويعبّر في خطاباته الأولى عن الالتزام بالتقاليد الروحية للدروز، الذين يُعرف عنهم انغلاقهم العقائدي وعدم قبولهم التجديد في المرجعيات.

لكن النشأة الدينية التي منحته شرعية قوية داخل الطائفة، تحوّلت لاحقًا إلى غطاءٍ لتوجّهات تبتعد كل البعد عن الثوابت الروحية، لتتداخل مع مسارات سياسية خطيرة، تنزلق نحو استقواء بالخارج، ومساومات تمسّ وحدة الدولة، سرعان ما بدأت هذه الصورة في التآكل؛ فخلف الهدوء الظاهري كان يتشكّل مشروع أكثر طموحًا وخطورة. لقد استغل الهجري الإرث الديني والاجتماعي الذي ورثه، لا لتعزيز الوحدة الوطنية، بل لتغليف طموحات سياسية بغلاف ديني يحميه من النقد والمساءلة.

دعم نظام الأسد

حين تولّى الهجري مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز في مارس 2012، خلفًا لشقيقه، كانت سوريا تمرّ بمرحلة مفصلية، إذ كانت الانتفاضة الشعبية ضد نظام بشار الأسد قد تحوّلت إلى ثورة شاملة تُطالب بإسقاط النظام. وفي وقت كانت معظم القوى الاجتماعية والدينية تحاول التزام الحياد أو الحذر، ظهر الهجري منذ الأيام الأولى للثورة كصوت داعم للنظام، لا بوصفه رجل دين يدعو إلى التهدئة، بل كمرجعية تكرّس بقاء السلطة القائمة وتُضفي عليها شرعية داخل أحد أهم مكوناتها الطائفية. شكّل موقف الهجري منذ البداية انحرافًا خطيرًا عن الدور المنتظر من مشيخة العقل، التي كان يُفترض بها أن تحافظ على مسافة واحدة من أطراف الصراع، وأن تحمي مجتمعها المحلي من الانجرار وراء مشاريع دموية. لكنه اختار الاصطفاف، وصبغ انتماءه السياسي بلغة دينية، من خلال بيانات واضحة دعت شباب السويداء إلى الالتحاق بالجيش السوري النظامي، واعتبار الوقوف إلى جانب النظام "واجبًا أخلاقيًا ومذهبيًا"، وهو ما أثار موجة من الغضب في صفوف أبناء الطائفة، واعتُبر خيانة لدماء الضحايا الذين سقطوا بنيران قوات الأسد في المظاهرات.

وبينما كانت محافظات سورية عديدة تنزف تحت نيران النظام، كانت السويداء تشهد حالة من الغليان الداخلي، خصوصًا بعد عام 2013، حين تصاعدت وتيرة القمع وبدأت تظهر فصائل مسلحة محلية مستقلة عن النظام، أبرزها حركة "رجال الكرامة" بقيادة وحيد البلعوس. هذه الحركة ولدت من رحم السخط الشعبي داخل الطائفة، ورفعت شعار الدفاع عن الأرض والعرض دون الانخراط في مشاريع السلطة أو المعارضة الخارجية، لكنها سرعان ما اصطدمت بالهجري الذي شكّل عقبة كبرى أمام هذا المزاج الثوري.

 

طوال سنوات الحرب، لم يكن الهجري مجرد صديق للنظام، بل تحول إلى حليف استراتيجي في نظر مؤسسات الدولة الأمنية، إذ مثّل الغطاء الديني الذي يحتاجه النظام لفرض سلطته الرمزية على السويداء

وفي خطوة صادمة، شارك الهجري مع مشايخ آخرين في إصدار قرار بعقوبة دينية ضد البلعوس وعدد من رفاقه، بحجة "الخروج عن إجماع الطائفة". ولم تمرّ سوى شهور قليلة حتى تعرّض البلعوس لعملية اغتيال في سبتمبر 2015م في حادثة بشعة، واتهمت أصابع كثيرة النظام السوري بالوقوف خلفها، أما موقف الهجري من اغتياله، فكان صمتًا يُقرأ منه الكثير، بل زاد الطين بلة عندما لم يُظهر أي موقف تضامني أو استنكاري، ما دفع شريحة واسعة من الدروز إلى اتهامه بالتواطؤ، إن لم يكن بالتحريض.

طوال سنوات الحرب، لم يكن الهجري مجرد صديق للنظام، بل تحول إلى حليف استراتيجي في نظر مؤسسات الدولة الأمنية، إذ مثّل الغطاء الديني الذي يحتاجه النظام لفرض سلطته الرمزية على السويداء. وكانت زياراته إلى دمشق، ولقاءاته مع مسؤولي الدولة، تُعدّ رسائل واضحة مفادها أن النظام لا يزال يمسك بمفاصل المحافظة عبر البوابة الدينية. ومن هنا كانت مواقف الهجري دائمًا متماهية مع سردية النظام، حتى حين كانت الطائفة تُذبح بسلاح الفوضى والميليشيات التابعة للمخابرات.

في هذه المرحلة، تجاهل الهجري جميع الأصوات التي كانت تنادي بالكرامة والحرية واكتفى بلعب دور "الشيخ الوصي على الصمت"، لكن المشهد تغيّر فجأة في يناير 2021، عندما تعرّض الهجري لإهانة بالغة من رئيس فرع الأمن العسكري في الجنوب، اللواء لؤي العلي، خلال مكالمة هاتفية كان فيها الهجري يطالب بالإفراج عن أحد المعتقلين من أبناء المحافظة. هذه الإهانة كسرت صمته الطويل، وأحدثت شرخًا واضحًا في علاقة الهجري بالنظام، لكنه لم يكن شرخًا ناتجًا عن يقظة ضمير وطنية، بل نتيجة مسّ مباشر بهيبته الشخصية، التي ظلّ يحرص على صونها طيلة السنوات السابقة. وبناء على هذه الإهانة، أصدر الهجري بيانًا شديد اللهجة، دعا فيه إلى إقالة رؤساء الأفرع الأمنية، ووجه اتهامات مباشرة إلى هذه المؤسسات بأنها تزرع الفوضى داخل السويداء، ومنذ تلك اللحظة بدأ الهجري في محاولة إعادة التموضع، مستخدمًا لغة أكثر تصالحًا مع المعارضة، دون أن يقطع صلاته مع النظام بشكل نهائي، لكن لم يبتلع أحد بسهولة محاولات الهجري لإعادة تدوير صورته. فقد أدرك كثيرون أن هذا التحوّل ليس ناتجًا عن إيمان حقيقي بمطالب الناس، بل عن خوف من خسارة السيطرة على المشهد داخل المحافظة.

التحوّل بعد سقوط النظام

بعد انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024م وصعود حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع، دخل الشيخ الهجري مرحلة جديدة من التحولات المثيرة للجدل، لم تنفصل عن سجله السابق في المواقف المتقلبة. فقد كشفت المرحلة الانتقالية عن نزعة صدامية متأصلة في سلوكه، سرعان ما تجلّت في رفضه للنظام الجديد، ورفضه الاعتراف بالحكومة المنتخبة، ولم يكن هذا التحوّل السياسي سوى استمرار لنمط طويل من الاستخدام الانتهازي للموقع الديني، معيدًا طرح نفسه كلاعب سياسي لا كمرجع ديني؛ رفض أي وجود رسمي أو عسكري في السويداء ما لم يتم بإذنه أو عبر قنواته، ومسوّغًا موقفه بخطاب يخلط بين السيادة المحلية والزعامة الشخصية. وقد أثارت لقاءاته مع وفود أمريكية، وتوجيهه دعوة صريحة لتدخل دولي في سوريا، موجة غضب عارمة داخل الطائفة وخارجها، اعتُبرت تجاوزًا للخطوط الوطنية الحمراء، ومحاولة خطيرة لإدخال السويداء في دوامة تدويل النزاع.

لم يتراجع الهجري، بل صعّد موقفه أكثر عندما أوقف رتلًا عسكريًا تابعًا للجيش السوري الجديد، ورفض السماح له بالمرور في المحافظة، وأظهر في مرحلة ما بعد الأسد، أن ولاءه الحقيقي لم يكن يومًا لسوريا الدولة أو لشعبها، بل لموقعه الخاص، حتى لو أدى ذلك إلى ضرب وحدة الطائفة أو زعزعة استقرار البلاد. وبينما كانت دمشق تعيد بناء مؤسساتها، اختار الهجري الاصطفاف مع قوى خارجية، غير عابئ بالثمن السياسي أو الوطني، ما جعل كثيرين يرون في خطابه الأخير انتقالًا من موقع المتواطئ مع النظام السابق إلى موقع المتحالف مع مشاريع التدخل والوصاية الأجنبية.

وفي خضم الاحتقان السياسي، جرى تداول وثيقة تفاهم بين عدد من شيوخ العقل والحكومة السورية الجديدة. سرعان ما نفت الرئاسة الروحية للدروز أي علاقة رسمية بها، وقال مستشار الهجري إن من وقّعوا على الوثيقة لا يمثلون سوى أنفسهم. هذا التناقض كشف عن ارتباك داخل دوائر الهجري، وأثار الشكوك حول مدى التنسيق بينه وبين القوى المحلية، ومدى استعداده للتعامل بمرونة مع الدولة الجديدة، وظل خطاب الهجري يتأرجح بين التصعيد والتفاوض، حتى خرج في منتصف مارس ببيان مسجّل يصف الحكومة بـ "المتطرفة والمطلوبة للعدالة الدولية".

الارتماء في أحضان إسرائيل

شكّل انكشاف علاقات الهجري مع جهات إسرائيلية منعطفًا خطيرًا في مسيرته، تجاوز كل الخطوط السياسية والدينية والوطنية. فخلال الفترة التي تزامنت مع تصاعد التوتر في الجنوب السوري، ظهر الهجري في تسجيلات متلفزة وتصريحات إعلامية، تزامنت بشكل لافت مع سلسلة من الغارات الإسرائيلية التي استهدفت العاصمة دمشق ومواقع عسكرية سورية، تحت شعار "حماية الدروز". كان التوقيت قاتلًا، والمضمون موحيًا، وكأن الغطاء الروحي الذي يمثله الهجري أضحى منصة لتبرير التدخل الأجنبي المباشر. والأخطر أن الهجري لم يُصدر أي تنديد بتلك الغارات، ولم يُظهر أي موقف تضامني مع الضحايا المدنيين الذين سقطوا جراءها. وعلى العكس، انتشرت تقارير موثوقة عن وساطات واتصالات غير مباشرة أجراها مع مسؤولين إسرائيليين، في محاولة للحصول على اعتراف إقليمي بدوره، واستثمار ورقة "أقليات مهدّدة" لكسب تعاطف دولي، ولو على حساب السيادة السورية.

لقد كشف هذا المسار عن تحوّل الهجري من موقع المرجع الديني إلى مجرد أداة وظيفية ضمن أجندة إسرائيل الإقليمية، وبدلًا من أن يكون الصوت الذي يحذّر من خطر التدخل الخارجي، صار شريكًا في شرعنته، وقد أسفرت هذه الانزلاقات العلنية نحو إسرائيل عن سلسلة تطورات ميدانية خطيرة في الجنوب السوري، بدأت بانسحاب تدريجي لوحدات الجيش السوري من بعض النقاط داخل السويداء، كإجراء احترازي لخفض الاحتكاك، كذلك انسحبت قوات الأمن الداخلي من عدد من المقرات الإدارية، ما فُسّر حينها على أنه انسحاب تكتيكي لتفادي انفجار أمني واسع قد يجر البلاد إلى صراع أهلي.

إلا أن هذا الفراغ لم يدم طويلًا؛ فمع تصاعد المخاوف من تدخل خارجي عبر البوابة الإسرائيلية، أعلنت الحكومة السورية أنها لن تسمح بتحويل السويداء إلى "جيب معزول" أو "إقليم مستقل برعاية خارجية". وبدعم من العشائر العربية في ريف السويداء الشرقي والغربي، التي أصدرت بيانات حازمة ترفض أي مساس بوحدة سوريا أو تقديم الغطاء للتمدد الإسرائيلي، بدأت القوات النظامية في العودة التدريجية إلى بعض المواقع، وسط أجواء مشحونة بالتوتر والترقّب، وكان لموقف العشائر أثر بالغ في إعادة التوازن، إذ أعلنت أنها "لن تقف على الحياد إذا تعرّضت البلاد لخطر التقسيم أو الاحتلال غير المباشر"، مشيرة إلى أن "السكوت على خطاب الهجري أصبح ضربًا من الخيانة"، وتزامن ذلك مع تحرك حكومي لاحتواء الموقف عبر التواصل مع القيادات الدرزية التقليدية غير المرتبطة بالهجري، في محاولة لقطع الطريق على سيناريوهات التقسيم أو التدخل الخارجي.

خيبة المرجعيات

في زمن التحولات الكبرى، تُختبر حقيقة المرجعيات الدينية ليس بكثرة أتباعها، بل بقدرتها على حفظ التوازن، والبقاء خارج دوائر الاستقطاب ولعبة الاصطفافات، إن استقواء الهجري بالخارج، وتبريره الضمني للعدوان الإسرائيلي، وتجاهله لتحفظات بعض عقلاء الطائفة، لم تكن مواقف عابرة بل تموضعًا خطيرًا سيبقى وصمة في تاريخ الطائفة الدرزية. وفي لحظة تتطلع فيها سوريا لتأسيس عقد اجتماعي جديد، بعيدًا عن الاستبداد والتبعية، فإن صمت الطوائف على التمزيق، وتواطؤ بعض رموزها مع مشاريع مشبوهة، لن يُنتج سوى مزيد من الخراب. سوريا اليوم أمام فرصة استثنائية لتضميد الجراح، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، ولن يكون ذلك ممكنًا إذا تحوّلت المرجعيات الدينية إلى أدوات سياسية أو جسور عبور لقوى أجنبية. لقد أخطأ الهجري الطريق، ويبقى على عقلاء سوريا أن يقطعوا الطريق على فتنة قد لا تبقي ولا تذر.

أعلى