• - الموافق2025/07/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جيفري إبستين وجزيرة الرعب  الوجه المظلم للسياسة والمشاهير في فضيحة بيتزاغيت!

في عالم السياسة الدولية، قلما تتقاطع قصص الفساد الأخلاقي مع دوائر صانعي السياسية كما تقاطعت في قضية جيفري إبستين. الذي راكم ثروة ونفوذًا عبر وسائل غامضة، تحوّل إلى أيقونة لوجه النظام العالمي الأكثر ظلامية: منظومة تخلط بين الشذوذ، الابتزاز، رأس المال، والا


في عالم يُدار من وراء الكواليس، حيث تُعقد الصفقات في العتمة وتُدفن الفضائح تحت طبقات النفوذ، لم تكن قضية جيفري إبستين مجرّد جريمة جنسية بقدر ما كانت مرآة مكبّرة لانحلال النظام العالمي الذي يسمح لأصحاب المال والسلطة بالإفلات من المحاسبة.

 رجل يملك علاقات مترامية من الأمير أندرو إلى دونالد ترامب، ومن وول ستريت إلى هارفارد، ومع ذلك عاش حياته بين القصور الخاصة والطائرات الفاخرة، متّكئًا على شبكة نفوذ معقّدة سمحت له باستغلال العشرات، وربما المئات، من الفتيات القاصرات دون أن يمسّه قانون أو يُسائل مسؤول.

حين اعتُقل إبستين في 2019، بدا كأنّ لحظة الحساب قد اقتربت. لكن مقتله في زنزانته تحت مراقبة أمنية يُفترض أن تكون مشددة فجّر شكوكًا أكبر من أن تُطفأ ببيانات رسمية.

الانتحار المزعوم، الكاميرات المعطّلة، والحراس النائمون، كلها فصول تكرّرت أكثر من اللازم في روايات الاغتيال السياسي. لم يكن الأمر نهاية القصة، بل بداية الشك الكبير في كل ما قيل ويقال.

أما اتفاق 2008، المعروف إعلاميًا بـ"صفقة العار"، فقد مثّل أول اختراق حقيقي في نسيج العدالة الأمريكية؛ حيث جرى إبرام صفقة سرية بين إبستين والمدّعين العامين سمحت له بقضاء أقل من 13 شهرًا في "سجن مخفف" لم يكن سجنًا فعليًا، بل امتيازًا مغلفًا بالقانون. الصفقة وقّعها المدّعي العام ألكسندر أكوستا، الذي نال لاحقًا منصبًا وزاريًا في إدارة ترامب، ما عزز الشكوك حول تواطؤ سياسي لحماية رجل أسرار.

الوثائق التي كُشف عنها لاحقًا أثارت زلزالًا سياسياً، خصوصًا مع ورود أسماء مرشحة للرئاسة، وشخصيات نافذة في الإعلام، وأخرى في الأوساط الأكاديمية والمالية. حتى الجامعات الكبرى، مثل هارفارد وMIT، تورطت في قبول تمويلات بملايين الدولارات من إبستين، رغم علمها بسجله الإجرامي.

 

إن جوهر قضية إبستين لا يكمن فقط في أفعال فرد منحرف، بل في قدرة النظام على حماية مثله، مادام يملك الأسرار الصحيحة والصلات اللازمة

في هارفارد، تمتع إبستين بلقب "زائر مرموق" وتبرع بتمويلات سخية، بينما أظهرت التحقيقات أن إدارة الجامعة علمت بقضاياه منذ 2008، لكنها تجاهلت الأمر حفاظًا على علاقاتها المالية. وفي معهد MIT، حاول مسؤولون تمرير أموال إبستين سرًا عبر وسطاء، ما دفع مدير المختبر الإعلامي في المعهد إلى الاستقالة بعد انكشاف الفضيحة.

سياسيًا، تفاعل الكونغرس الأمريكي مع الفضيحة بشكل متفاوت. بعض النواب الديمقراطيين، مثل مارك فيسي، قدّموا قرارات تطالب بنشر كل الملفات المتعلقة بالقضية، بما فيها العلاقات التي جمعت إبستين بشخصيات نافذة، وعلى رأسهم دونالد ترامب.

لكن مقاومة داخل المؤسسات العدلية ومماطلة في فتح الملفات ظلت تحول دون كشف الصورة الكاملة، بينما الإعلام الذي من المفترض أن يكون سلطة رقابية بدا في كثير من الأحيان متواطئًا أو مترددًا، بل إن بعض المنصات الكبرى مارست نوعًا من الرقابة الذاتية، خشية الاصطدام بمراكز النفوذ.

أما في بريطانيا، فقد تفجّرت فضيحة الأمير أندرو المرتبطة بإبستين كقنبلة سياسية وأخلاقية. فبينما واجهت إحدى الضحايا، فرجينيا جوفري، القصر الملكي باتهامات مباشرة، اختار الإعلام البريطاني الرسمي، وخاصة "بي بي سي"، سياسة التغطية المحسوبة، دون الغوص فعليًا في جوهر العلاقة بين الأمير والمدان السابق. وحتى حين أُجبر الأمير أندرو على التراجع من واجباته الملكية، لم يُفتح تحقيق جنائي، بل تم ترتيب تسوية مالية بعيدة عن المحاكم.

كل ما سبق يرسم صورة قاتمة لعالم موازٍ تُحكم فيه القوانين بمعايير مزدوجة. إبستين لم يكن وحشًا منفردًا، بل جزءًا من منظومة تغذّت على الصمت، وتطورت داخل شبكات النفوذ المالي والسياسي والإعلامي. لم يكن موته نهاية القصة، بل تكثيفًا لمعنى الدولة العميقة، حيث تُدفن الجرائم تحت طبقات من العلاقات، ويُخضع القانون للإملاءات السياسية.

إن جوهر قضية إبستين لا يكمن فقط في أفعال فرد منحرف، بل في قدرة النظام على حماية مثله، مادام يملك الأسرار الصحيحة والصلات اللازمة. وحين تكون العدالة رهينة حسابات السلطة، فإن ما يبدو "استثناء" في قضية إبستين، يتحوّل إلى قاعدة تُعمّم على بقية العالم.

 

اتهامات العمالة لصالح الموساد لم تعد ترفًا تحليليًا أو هوسًا نظريًا. عشرات التحقيقات، من "فانيتي فير" إلى "واشنطن بوست"، ومن وثائق المحكمة إلى تقارير الـ FBI، أشارت إلى وجود "مصلحة إسرائيلية" مباشرة في استمرار نشاط إبستين؛

لقد ظنّ هذا النظام، في لحظة ما، أن بمقدوره وأد الفضيحة بوفاة الرجل، لكنّ ما لم يدركه هو أن الفضيحة لم تكن حول الرجل نفسه، بل حول العالم الذي سمح له أن يعيش طليقًا، أن يُموَّل، أن يُحتَضن، أن يُشرَّع، ثم يُنسى.

وفي عالم السياسة الدولية، قلما تتقاطع قصص الفساد الأخلاقي مع هندسة صانعي السياسة كما تقاطعت في قضية جيفري إبستين. الذي راكم ثروة ونفوذًا عبر وسائل غامضة، تحوّل إلى أيقونة لوجه النظام العالمي الأكثر ظلامية: منظومة تخلط بين الشذوذ، الابتزاز، رأس المال، والاستخبارات. رجل تحوّل قصره إلى مسرح للرذيلة المُقنّنة، وجزيرته الخاصة إلى نقطة التقاء بين نخب المال والسياسة والإعلام، لتُدار الصفقات من تحت الطاولة، وتُصنع الولاءات عبر ملفات لا تُفتح إلا عند الحاجة.

ومنذ ظهوره الأول كمستشار مالي لرجل الأعمال ليزلي فكسنر، مالك "فيكتوريا سيكريت"، بدأت ملامح مشروع إبستين تتبلور. استغل ولعه بالسيطرة، وجاذبيته المزيفة، ليخلق شبكة استقطاب من الشابات الطموحات، اللواتي حوّلهن إلى أدوات ترويج ومادة ابتزاز. لم يكن الأمر مقتصرًا على الاستغلال الجنسي فحسب، بل كان منظومة متكاملة من التوريط والتوثيق والضغط، خُطط لها بذكاء لا يخلو من برود إجرامي.

لكن القصة لم تكن عن نزوة فردية. فوجود جيلين ماكسويل إلى جانبه، ابنة قطب الإعلام البريطاني اليهودي روبرت ماكسويل المعروف بعلاقته بالموساد والذي لقي مصرعه في ظروف غامضة بعد تهديده بفضح شبكة فساد مالي أضفى على المشروع بُعدًا استخباريًا صريحًا. كانت جيلين ضلعه اللوجستي، و"حارسته الناعمة"، وخبيرة ربط العلاقات بالنخب السياسية والإعلامية حول العالم، من الأمير البريطاني أندرو إلى رؤساء دول سابقين، وصناع قرار أميركيين، بل وحتى أكاديميين وعلماء بارزين.

اتهامات العمالة لصالح الموساد لم تعد ترفًا تحليليًا أو هوسًا نظريًا. عشرات التحقيقات، من "فانيتي فير" إلى "واشنطن بوست"، ومن وثائق المحكمة إلى تقارير الـ FBI، أشارت إلى وجود "مصلحة إسرائيلية" مباشرة في استمرار نشاط إبستين؛ ليس بوصفه رجل أعمال، بل باعتباره أداة ضغط ناعمة في لعبة النفوذ. تسجيلات، صور، سجلات طيران، وعلاقات غامضة مع مصرفيين وعملاء سابقين في الاستخبارات الإسرائيلية، كلّها تصب في اتجاه واحد: لقد كان الابتزاز وظيفة، والرشاوى الأخلاقية وسيلة، وتحقيق الأهداف الجيوسياسية غاية.

تكمن الخطورة في أن نموذج إبستين نفسه أي خلق شبكات ضغط تقوم على التوريط الأخلاقي يُستخدم منذ سنوات كأداة للتحكم في المواقف السياسية، وتوجيه قراراتها، أو على الأقل، شراء صمتها.

في النهاية، مات إبستين في زنزانته رسميًا بالانتحار لكن عالمه لم يمت. بقيت الشبكة، وتبدّلت الأسماء، وربما تغيّرت التكتيكات، لكن اللعبة مستمرة: التحكم بالنخب عبر ملف أخلاقي، صناعة القرار الدولي من مكاتب مضاءة خافتًا، وتوجيه الإعلام من وراء الستار. لم تكن قضية إبستين عن الجنس فقط، بل عن كيف يُدار العالم حقًا.

السؤال الأخطر لم يعد: "من زار جزيرته؟"، بل: "من سُكت عنه خوفًا من أن يُفضح؟". وهذه، وحدها، جريمة صمت بحجم جريمة إبستين نفسه.

وظهرت في سجلات جيفري إبستين وأوراق قضيته ومذكراته وسجلات طيرانه مجموعة من الأسماء البارزة التي أثارت جدلاً واسعًا حول مدى تورطها في الفضيحة.

§                    من أبرز تلك الأسماء الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، الذي سافر مرارًا على متن طائرته الخاصة إلى جزيرته الخاصة. والرئيس دونالد ترامب الذي التقى به في عدة مناسبات اجتماعية رغم تبرؤه منه لاحقًا. والأمير أندرو نجل الملكة إليزابيث، الذي اتُّهم علنًا بإقامة علاقة مع فتاة قاصر. وغيرهم الكثير.

القائمة تشمل كذلك شخصيات أكاديمية، ومصرفيين، ودبلوماسيين، ومشاهير، بعضهم لا يزال ينفي أي صلة بأعمال إبستين غير القانونية، فيما اختفى آخرون عن الأضواء بعد ذكر أسمائهم علنًا.

في النهاية، فإن ما يجب أن يُحاكم ليس إبستين وحده، بل النظام الذي أنشأه ووفّر له الغطاء. وإن كانت العدالة قد عجزت عن قول كلمتها حين كان على قيد الحياة، فإن المجتمعات لا تزال تملك أدوات المحاسبة الرمزية. فإبستين ليس مجرد رجل، بل مرآة عاكسة لزيف العالم النظيف على السطح، المتعفّن في العمق !

 

أعلى