ما هي رسائل حماس الاستراتيجية التي أرادت إرسالها للعدو، وكيف أدارت الحرب النفسية بنفس القدرات العالية التي أدارت بها الحرب العسكرية والإعلامية.
بعض المراقبين ينتقدون حركة حماس بسبب إصرارها على الظهور بمظهر القوة كما حصل
مؤخرًا أثناء تبادل الأسرى في غزة.
من وجهة نظر هؤلاء، فإن الظهور بهذا الشكل، يوحي أنه بالرغم من الضربات المميتة
التي وجهها جيش الكيان الصهيوني لقياداتها العسكرية والسياسية ولجسمها العسكري
متمثلاً في كتائب القسام، تبقى هذه الحركة محتفظة بقواتها كاملة، وهذا يجعل الكيان
الصهيوني مُصرًا على عدم وقف الحرب، والاستمرار في القتال لتحقيق هدفه المعلن وهو
كسر حماس، وأنه كان الأجدى والأجدر بالحركة إخفاء قوتها حتى لا تعطي الذريعة للكيان
في استمرار الدمار والإبادة للشعب الفلسطيني والإصرار عليها.
فهل هذا الانتقاد صحيح؟
لكي نجيب على هذا السؤال، يجب معرفة مبررات حماس والتي دفعتها لاتخاذ هذا الموقف،
ومناقشتها لتحليل تلك الدوافع.
ولكن في البداية يجب أن نبين حجم هذا الاستعراض ومفردات هذا الظهور والذي ظهر على
الشاشات.
مشهد إخراج الأسرى
بمجرد أن دخل اتفاق وقف النار بين الكيان الصهيوني وحركة المقاومة الإسلامية حيز
التنفيذ يوم الأحد، ١٩ يناير الماضي، حتى جاب مسلحون ملثمون تابعون لكتائب القسام،
يستقلون شاحنات صغيرة بيضاء، شوارع محافظات غزة، بينما كان أنصارهم يهتفون باسم
الجناح العسكري لحماس.
وتنقل صحيفة نيويورك تايمز عن شهود عيان وعن طريق فيديوهات منشورة على مواقع
التواصل تأكدت الصحيفة من صحتها كما تقول: إن عشرات المقاتلين بزيّهم الرسمي
وأسلحتهم كانوا وسط الحشود مساء الأحد، حيث حاولوا التحكم بالجماهير أثناء مرور
السيارات التي كانت تقل الأسيرات الإسرائيليات وتسلميهن إلى الصليب الأحمر الدولي،
قبل نقلهن إلى الكيان.
|
فإن الحروب النفسية تتَّجه إلى المعنويات وتحطيم الإرادة بقصد إضعاف نفسية
النخبة لدى الخصم، والتأثير على الطبقة الشعبية والجماهيرية الحاضنة،
وإصابتها بالإحباط واليأس والعجز |
وفي نفس الوقت أعلن مكتب الإعلام الحكومي في غزة، عن نشر آلاف من عناصر وضباط
الشرطة في أنحاء القطاع، للحفاظ على الأمن والنظام على حد تعبير المكتب الحكومي.
وأضاف المكتب إن الوزارات والمؤسسات الحكومية مستعدة لبدء العمل وفقًا لخطة الحكومة
لتنفيذ جميع التدابير التي تضمن إعادة الحياة الطبيعية.
وفي مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي القطاع، كان هناك ما لا يقل عن ثلاثة
ضباط شرطة يرتدون الزي الرسمي بينما كان النشيد الوطني الفلسطيني يعزف في الخلفية،
وفقًا لمقطع فيديو نشر على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولكن المشهد في الأسبوع الأول كان فوضويًا إلى حد ما، وهذا ما تغير في الأسبوع
الثاني للتبادل.
ففي الجزء الثاني من الصفقة، تجنبت حماس سلبيات المرة السابقة، وأخرجت المشهد
بطريقة مؤسسية وأظهرت قدراتها كنظام سياسي يدير دولة وليس حركة تحرير أو مقاومة فقط.
ففي ميدان فلسطين وسط غزة، ظهر مئات المسلحين الملثمين من كتائب القسام الذين
يعصبون رؤوسهم بالأوشحة الخضراء، كما ظهر العشرات من سرايا القدس لأول مرة بالزي
العسكري، وجاءت تلك القوات في سيارات دفع رباعي ودراجات نارية. حاملين الرايات،
وتوزعوا وسط الميدان الذي حوّلت الحرب أرضيته إلى أتربة.
وشيدت الحركة المنصة حيث جهزت بها مقعدين لمندوب الصليب الأحمر ومندوب حماس وخلفهما
أكوام من الحجارة من آثار القصف وعلم كبير لفلسطين، ووقع الرجلان على وثيقة الإفراج
عن الأسرى، ورُفعت في المكان لافتة بالعبرية كتب عليها الصهيونية لن تنتصر، بينما
تراصت خلفهم على المنصة جنود القسام الملثمون ويحملون سلاحًا متشابهًا مختلفًا عن
بقية الجنود، ليتم الإعلان على لسان الجيش الصهيوني بعد ذلك، بأنه سلاح صهيوني تم
غنمه من جيش الكيان في أثناء هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.
لقد كانت كل تفصيلة في هذا الاحتفال تحمل دلالة ورسالة، الأمر الذي يشي بأن المشهد
جرى تخطيطه لمقاصد ورسائل موجهة لأطراف عديدة لا تقتصر فقط الى الجانب الصهيوني.
دوافع حماس في استعراض القوة
من خلال تتبع وسائل الإعلام الغربية والصهيونية، وعلى ضوء استراتيجيات المقاومة
الفلسطينية وقراءة ما يفكرون، نرى أن استعراض القوة التي قامت به حماس يحقق لها عدة
أهداف ويبعث رسائل إلى أطراف عدة سواء الكيان الصهيوني، أو الدول الإقليمية، أو
القوى الدولية سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، ومنها أيضًا موجهة للشعب
الفلسطيني.
|
لقد قامت خطة المقاومة في حربها النفسية على عدة أهداف؛ أهمها زعزعة ثقة
المجتمع الإسرائيلي بنفسه وبجيشه وبحكومته، وتكريس الانقسامات بين طوائفه |
لكن أكبر رسالتين هي ما
كانت موجهة إلى قضية المفاوضات والمخططات الخاصة فيما بات يعرف في دهاليز السياسة
العالمية ووسائل الإعلام باليوم التالي لحرب غزة.
والرسالة الثانية ذات الأهمية التي يرمي إليها استعراض القوة أيضًا، هي أنها تندرج
في الحرب النفسية التي تخوضها المقاومة من قبل حرب طوفان الأقصى في السابع من
أكتوبر، واشتدت وتيرته بعدها.
اليوم التالي لحرب غزة
يُقصد دائمًا بهذا التعبير، هو
إخراج حركة حماس من السيطرة على حكم غزة.
ومنذ بدايات حرب
الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة، تم طرح سيناريوهات عديدة لشكل الحكم الجديد
الذي يمكن أن يسيطر على القطاع.
كانت أكثر هذه السيناريوهات تطرفا، ما طرحته أحزاب الصهيونية الدينية في الحكومة
الصهيونية ممثلة في سيمورتش وبن غفير، حيث كانوا يريدون تهجير أهل غزة أو أكثرهم،
منها وإحلال مستوطنين مكانهم، وبدء عملية استثمار لثروات غزة من غاز وزراعة
ومنتجعات سياحية شاطئية وغيرها، فكانت خطة الجنرالات كوسيلة عملية لتطبيق
السيناريو، والذي تبنتها بطريقة غير معلن حكومة الاحتلال بزعامة نتانياهو، والتي
تقضي بتقسيم القطاع إلى أجزاء، وتهجير وتجويع سكانه منه، والذي يظل متمسكًا بأرضه
فيمكن اعتباره من المقاومة والتي ستتم تصفيتها في هذا الجزء.
وبدأ تطبيق هذا السيناريو بالفعل في شمال غزة، حتى أنهم كانوا يدخلون تلك الأجزاء
عدة مرات، وصلت في بعضها إلى خمس مرات، وفي كل مرة يغادرون بعد أن يظنون أنهم أنهوا
على المقاومة، ولكنهم يفاجئون بخروج المقاومة من الأنفاق ومن قلب الركام ليكيلوا
ضربات موجعة إلى الجيش الصهيوني في حرب عصابات ناجحة، ومن ثم اقتنع الصهاينة بفشل
هذا السيناريو بعد تكبدهم خسائر فادحة في معدات وأفراد قواتهم.
وكانت قد طرحت سيناريوهات أخرى لليوم التالي لحرب غزة تتعلق بإعادة السلطة
الفلسطينية في رام الله بزعامة محمود عباس لحكم القطاع، ومنها أيضًا إدخال جيوش
عربية لفرض الأمن في القطاع وتمكين السلطة الفلسطينية.
وافترضت هذه السيناريوهات أنه بإمكان هذه القوات هزيمة حماس وحلفائها من المقاومة،
وهو ما عجز عنه جيش الكيان وحلفائه من الولايات المتحدة والغرب.
وكان آخر هذه السيناريوهات، هو التوافق الذي جرى في القاهرة بين الفصائل الفلسطينية
ووافقت فيه حماس على إدخال حكومة تكنوقراط لإدارة الأمور في غزة، مع احتفاظ
المقاومة بسلاحها، ولكن عادت سلطة محمود عباس لتتراجع عن هذه التفاهمات ربما بإيعاز
من حكومة دولة الكيان الصهيوني.
ومن خلال إرسال مقاتليها في استعراض واضح للقوة، كانت حماس تحاول توصيل رسالة لا
لبس فيها إلى الفلسطينيين في غزة، وإلى إسرائيل والمجتمع الدولي، مفادها أنه على
الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدتها خلال الحرب بين مقاتليها وضباط الشرطة
والقادة السياسيين ومسؤولي الحكومة، فإنها تظل القوة الفلسطينية المهيمنة في القطاع.
ويقول الكاتب الفلسطيني إبراهيم المدهون، وهو محلل سياسي يقيم في تركيا إن الرسالة
هي أن حماس نفسها اليوم التالي للحرب.
الحرب النفسية
الحروب النفسية تختلف عن حروب الأفكار.
فإذا كانت حروب الأفكار تتَّجه إلى عقول الشعوب لتغيير العقيدة الراسخة واتجاهات
الرأي والتفكير،
فإن الحروب النفسية تتَّجه إلى المعنويات وتحطيم الإرادة بقصد إضعاف نفسية النخبة
لدى الخصم، والتأثير على الطبقة الشعبية والجماهيرية الحاضنة، وإصابتها بالإحباط
واليأس والعجز،
فتتلاشى قدرتها على المقاومة والصمود، وهذا سِرّ قوة تلك النوعية من الحروب.
فالهدف النهائي للحرب النفسية يتعلَّق بتغيير سلوك الخصم، حتى يقتنع بالهزيمة، وأنه
لا جدوى من الاستمرار في الحرب، وأن الاستسلام هو الحل.
لقد قامت خطة المقاومة في حربها النفسية على عدة أهداف؛ أهمها زعزعة ثقة المجتمع
الإسرائيلي بنفسه وبجيشه وبحكومته، وتكريس الانقسامات بين طوائفه، والضغط
بورقة الأسرى الصهاينة لكي تقوم أُسَرهم بزيادة الضغط على حكومتهم، وفي نفس الوقت
بثّ الأمل في نفوس الناس في البيئة الحاضنة؛ سواء في غزة أو خارجها.
واعتمدت المقاومة -في سبيل تحقيق أهداف حربها النفسية تلك- على مسارين:
الأول: بالضغط على الكيان بملف الأسرى عبر توجيه رسائل مصوَّرة من هؤلاء الأسرى، أو
رسائل بالتشكيك في بقائهم أحياء.
أما المسار الثاني فيتعلق بإظهار قدرات المقاومة العسكرية، وبثّها الموادّ
المصوَّرة والتي تظهر عملياتها النوعية، سواء بإطلاق الصواريخ على مدن الكيان
ومستوطناته أو بتدمير الآليات الصهيونية المتوغّلة في القطاع، أو قنص جنوده.
ويبدو أن الاستعراض الذي جرى في غزة أثناء إخراج أسرى الكيان قد جرى في هذا السياق.
يروي مهندس مصري على مواقع التواصل، موقفًا حدث له في ألمانيا، فقد كان يعمل معه
مهندسون ألمان، ويصفهم من أكثر مناصري ومعتنقي السردية الصهيونية تأثرا بالإعلام
الألماني المنحاز للصهاينة كليًا، وكثير ما حصلت مشادات حادة بينه وبينهم من بداية
الطوفان، حتى توصلوا إلى وقف الحديث في الموضوع.
ومنذ أيام وبعد ظهور مشاهد تسليم المقاومة للدفعة الأولى من الأسيرات الصهاينة، إذا
بالمهندسين الألمان يتحدثون عن المشهد، ويعبرون عن مدى إحساسهم بالهزيمة النفسية من
مجرد مشاهد عزة المقاومة وإحباطهم من عدم استسلامهم.
لم يكن هناك مشهد تبادل الأسرى فقط والذي أخرجته حركة حماس، بل كان هناك مشهد آخر
لم تتدخل فيه الحركة إلا قليلاً، بل مشهد صنعه الشعب الفلسطيني في غزة بنفسه، عندما
عاد مئات الألوف إلى ديارهم سيرًا على الأقدام إلى بيوتهم في شمال غزة، والتي
هجّرهم منها جيش الاحتلال قبل خمسة عشر شهرًا ... يعودون إلى بيوت مهدمة ... يعودون
إلى مناطق لا تتوفر فيها الحد الأدنى من بنية تحتية ... فلا إمدادات مياه أو كهرباء
أو مستشفيات، بل معظم مساكنهم ركام.
هؤلاء الذين يصنعون التاريخ.