من هو الجاسوس الإسرائيلي "إيلي كوهين" الذي تحوّلت قصته إلى إرثًا استخباراتيًا وسياسيًا يعكس طبيعة الصراع الإقليمي المستمر؟، ولماذا تعود هذه القصة إلى الواجهة الآن، مع بحث إسرائيل المحموم عن رفاته، وكأنها تسعى لإغلاق فصل لم تُكتب نهايته بعد؟
في أروقة السياسة
والمخابرات، هناك أسماء تظل عالقة بالذاكرة لشدة مكرها وخبثها، واحدة من تلك
الشخصيات التي ظلت تتصدر النقاشات من وقتٍ لآخر كانت الجاسوس الإسرائيلي "إيلي
كوهين"، الذي اخترق المجتمع السوري النخبوي في الستينات، قبل أن يُعدم شنقاً في
ساحة المرجة بدمشق في عام 1965م، واليوم تعود هذه القصة إلى الواجهة مجددًا، ليس
فقط بفضل فصولها الغامضة، ولكن بسبب البحث المضني الذي تقوده إسرائيل مؤخرًا لتحديد
مكان دفنه واستعادة رفاته، ضمن مساعٍ حثيثة تجمع بين السياسة والوسطاء الدوليين.
خيانة مبكرة
وُلِدَ إيلي كوهين في
مدينة الإسكندرية بمصر في 26 ديسمبر 1924م لأسرة يهودية هاجرت من مدينة حلب
السورية، انضم مبكرًا إلى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني في الإسكندرية في عام
1944م، حيث تبنّى أفكار الصهيونية وسعى لدعم فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين،
ونظرًا لإقامته في مصر فإنه كان يخفي تأييده العلني للحركة الصهيونية، لكنه استغل
التحولات السياسية والاجتماعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتطورت أفكاره
وأعماله لتشمل تقديم الدعم اللوجستي والمعلوماتي لليهود الذين كانوا يهاجرون إلى
فلسطين.
مع اشتداد التوترات
السياسية في المنطقة، قرر كوهين الهجرة إلى إسرائيل في عام 1957م، كان هذا القرار
نقطة تحول محورية في حياته، إذ ترك مصر بعد سنوات من النشاط السري لصالح الحركة
الصهيونية، وعند وصوله إلى إسرائيل جذبت مواهبه انتباه جهاز الموساد الذي جنّدَه
وبدأ في إعطائه تدريبات مكثفة على التمويه والاندماج في المجتمعات العربية وبناء
العلاقات بطريقة تُخفي تمامًا هويته الحقيقية، مع التركيز على إتقان اللهجة السورية
والعادات المحلية هناك، أرسله الموساد إلى الأرجنتين لتقديم نفسه كرجال أعمال سوري
مهاجر، مستخدمًا هوية مستعارة باسم "كامل أمين ثابت"، تواصل كوهين مع أفراد الجالية
السورية وأظهر اهتمامًا كبيرًا بالوطن الأم، مما أكسبه ثقة المحيطين به، وكان هذا
التحضير مقدمة ضرورية لزراعته لاحقًا داخل سوريا، حيث سيصبح واحدًا من أخطر
الجواسيس الذين عملوا لصالح إسرائيل.
اختراق عميق
في يناير 1962م، وطئت
أقدام إيلي كوهين العاصمة دمشق، وتمكن كوهين بسرعة من الاندماج في الأوساط العليا
للمجتمع السوري، واستغل مهاراته الشخصية لبناء شبكة واسعة من العلاقات مع النخبة
السياسية والعسكرية، ونسج علاقات وثيقة مع مسؤولين كبار في الحكومة السورية والجيش،
حتى أنه دُعي لحضور اجتماعات استراتيجية حساسة.
نجاح "كوهين" في التسلل
إلى أعلى مستويات صنع القرار، جعله مقربًا من شخصيات نافذة في القيادة السورية،
واستثمر وجوده في الأوساط السياسية لتقديم نفسه كشخصية وطنية مخلصة تهدف إلى تعزيز
الاقتصاد السوري، وقد ساعدته تلك الصفة في حضور اجتماعات استراتيجية مغلقة، حيث
نوقشت خطط عسكرية حساسة، لا سيما تلك المتعلقة بمرتفعات الجولان.
لم يكن اختراقه "كوهين" مقتصرًا على جمع المعلومات، بل تجاوز ذلك إلى التأثير على
بعض القرارات، حيث نجح في توجيه النقاشات بشكل يخدم المصالح الإسرائيلية دون أن
يثير الشكوك، ومن
أبرز الإنجازات التي حققها كوهين لصالح إسرائيل؛ كان نقله لتفاصيل دقيقة عن تحصينات
الجيش السوري في مرتفعات الجولان، بما في ذلك المواقع الدفاعية، خطط انتشار القوات،
ومسارات الإمداد، هذه المعلومات الثمينة ساهمت بشكل كبير في تفوق إسرائيل خلال حرب
1967م (نكسة يونيو)، إذ مكنت الجيش الإسرائيلي من اختراق الدفاعات السورية بسهولة
والسيطرة على الجولان خلال وقت قصير.
خلال فترة نشاطه، استطاع
كوهين أن يكون ضيفًا دائمًا في المناسبات الاجتماعية والسياسية الكبرى، بل إنه كسب
ثقة شخصيات سياسية بارزة، وبعض المصادر تشير إلى أنه كان مرشحًا لتولي منصب وزاري
أو دبلوماسي في سوريا، ما يعكس مدى تمكنه من خداع النخبة السورية وعمق اختراقه
للبنية السياسية للدولة، لكن رغم ذلك، لم يتمكن كوهين من تجنب السقوط، ففي عام
1965م لاحظت السلطات السورية نشاطًا غير عادي في الاتصالات اللاسلكية الموجهة إلى
الخارج، وبعد تحقيقات مكثفة تمكنت من اعتراض إشاراته اللاسلكية وتتبع مصدرها، وفي
فبراير 1965م ألقي القبض على كوهين أثناء إرساله إحدى الرسائل الاستخباراتية إلى
الموساد.
بعد محاكمة سريعة أُدين
كوهين بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وصدر حكم بالإعدام، وفي 18 مايو من العام ذاته،
نُفذ الحكم شنقًا في ساحة المرجة بدمشق أمام حشد كبير، تُركت جثته معلقة لساعات
طويلة على المشنقة، كتحذير لمن يفكر في التعاون مع الأعداء. كما وُضِعَت لافتة على
صدره كتب عليها تفاصيل اتهامه وخيانته، الإعدام كان صدمة كبيرة لإسرائيل التي حاولت
في اللحظات الأخيرة التفاوض لإنقاذه عبر تدخلات دبلوماسية من دول غربية، لكنها فشلت
أمام إصرار سوريا على تطبيق الحكم.
أبعاد رمزية
وسياسية
لم تنتهِ قصة كوهين عند حد
إعدامه، إذ تحولت قضيته إلى رمز للصراع الاستخباراتي بين إسرائيل وسوريا، ومنذ ذلك
الحين طالبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة باستعادة رفاته، إلا أن سوريا رفضت تلك
المطالب مرارًا، الروايات السورية حول مكان دفنه ظلت متباينة، حيث أشير إلى أن
عمليات بناء لاحقة قد غيّبت مكان الدفن الأصلي.
مع مرور السنوات، استمرت
إسرائيل في محاولاتها لاستعادة رفاته، مستغلة التحولات السياسية في سوريا بعد
اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، وفي لقاءات سرية مع روسيا التي كانت
حليفة وثيقة لنظام الأسد، وطلبت تل أبيب وساطة موسكو، وبالفعل قام الروس تحت ضغط
إسرائيلي بعمليات بحث في منطقة مخيم اليرموك بدمشق، سعياً للعثور على رفات كوهين،
إلا أن تلك الجهود لم تؤتِ ثمارها آنذاك، رغم وجود تقارير في الصحف العبرية تحدثت
عن نقل جزء من جثمان يُعتقد أنها تعود لكوهين إلى إسرائيل، إلا أن مكتب رئيس
الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفى صحة تلك التقارير، وأعلن أن تلك الرفات لا
علاقة لها بإيلي كوهين.
يُظهر إصرار إسرائيل على
استعادة رفات كوهين بُعدًا رمزيًا، فكوهين بالنسبة لهم ليس مجرد جاسوس، بل رمز
للتفوق الاستخباراتي والصراع المستمر مع الدول العربية، وقد سعت إسرائيل لإبقاء قصة
كوهين حية في الذاكرة العامة، من خلال كشف وثائق جديدة، مثل البرقية الأخيرة التي
أرسلها قبل القبض عليه، وافتتاح متحف يحمل اسمه، كما قام الموساد بعمليات سرية
لاستعادة مقتنياته، مثل ساعة اليد التي استُخدمت كرمز دعائي لتسليط الضوء على ما
تسميه "بطولاته".
تُعد قصة كوهين مثالاً
ساطعاً على أهمية الجاسوسية على رسم مصائر الأفراد والدول. فقد استطاع هذا الرجل،
الذي تسلل إلى قلب النخب السورية، أن يكون شاهداً على أسرارها، وناقلًا لها إلى تل
أبيب، قبل أن يُكشف أمره، ليصبح اسمه مرادفًا للحرب الخفية التي لا تخضع لقوانين
واضحة، ورغم مرور عقود على إعدامه، لا تزال قضيته تؤرق ذاكرة العرب، حيث تمثل درسًا
تاريخيًا على الخيانة وكيفية تصدي الدول لها، في تذكير دائم بأن الحذر واجب أمام أي
محاولات اختراق تمس الأمن والسيادة.