في سورة آل عمران: بيان أن الدنيا محفوفة بالشهوات، ومحبوبة لدى الناس، وقد زينها الله تعالى لهم؛ ليبتليهم بها؛ وليعمروا الأرض بالسعي فيها، ويكون بعضهم سخرة لبعض بسببها.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: أنزل الله تعالى القرآن هداية للقلوب، وشفاء للصدور، وفيه معرفة حقائق الأشياء وقيمتها؛ لأن الذي أنزله هو العليم الحكيم، اللطيف الخبير. وسورة آل عمران سورة عظيمة فيها معان جليلة، ومما كرر فيها بيان حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة؛ ليكون المؤمن على معرفة بحقيقتها فلا يغتر بزخرفها، وعلى معرفة بالآخرة فيجتهد في العمل لها. وكل ما يملكه العبد من متاع الدنيا لا ينفعه يوم القيامة شيئا، وهو ما جاء في قول الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: 10- 11]. ولن يخفى على قارئ القرآن أن ملك فرعون وآله كان ملكا عظيما، وكانت الأنهار تجري من تحت قصوره، ومع ذلك لم ينفعه ملكه عند الله تعالى شيئا، ولم ينجه من العذاب المهين.
وفي موضع آخر من السورة تأكيد لهذا المعنى العظيم الذي ينبغي أن يكون حاضرا في بال المؤمن على الدوام ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 116-117]. فلا تنفعهم أموالهم يوم القيامة ولا أولادهم، وما أنفقوه من أموال عظيمة في حرب دين الله تعالى، ومحاولة إطفاء نوره؛ ذهب كما يذهب الزرع حين تهب عليه ريح شديدة فتتلفه وتفسده. وفي موضع ثالث من السورة بيان أن ما يملكه الكافر من أموال مهما بلغت كثرتها فإنها لا تنفعه في افتدائه من عذاب النار، مما يدل على أن الدنيا بكل ما فيها لا تساوي شيئا أمام الآخرة، وأن العمل للدنيا يزول وهي تزول، وأن العمل للآخرة يبقى ولا يزول ولا يحول ولا ينفد ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 91].
وفي سورة آل عمران: بيان أن الدنيا محفوفة بالشهوات، ومحبوبة لدى الناس، وقد زينها الله تعالى لهم؛ ليبتليهم بها؛ وليعمروا الأرض بالسعي فيها، ويكون بعضهم سخرة لبعض بسببها. ورغم ذلك فالآخرة خير منها؛ لأنها أبقى؛ ولأن نعيمها أكمل ولا يكدره شيء ألبتة، وهو ما جاء بيانه في قول الله تعالى ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 14- 15].
وفي سورة آل عمران: فضح لمن اغتروا بالدنيا فباعوا دينهم لأجلها؛ كما فعل بعض علماء أهل الكتاب، وأحبار اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ علموا صدقه فلم يتبعوه؛ حسدا من عند أنفسهم، وخوفا على دنياهم، فاشتروا الدنيا بدينهم وعلمهم؛ فذمهم الله تعالى بما فعلوا، وبين حالهم يوم القيامة وما ينتظرهم من العذاب والنكال، عوذا بالله تعالى من ذلك ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 77- 78]. وفي آخر السورة فضحهم الله تعالى بقوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].
وفي سورة آل عمران: بيان أن الدنيا والآخرة متاحتان لمن يطلبهما، فمن طلب الدنيا دون الآخرة أعطاه الله تعالى من الدنيا بما يبذل من أسباب في طلبها، وكذلك من أراد الآخرة أعطاه الله تعالى إياها إذا عمل بعملها، وأتى أسبابها. وكان هذا البيان الرباني في ثنايا الحديث عن غزوة أحد التي انهزم فيها المسلمون وقُتلوا وجرحوا؛ لأن المؤمنين فيها كانوا من طلاب الآخرة، بينما كان الكفار والمنافقون من طلاب الدنيا ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 145].
وبما أن أهل الكفر والنفاق يعيشون في الدنيا لأجل الدنيا، ولا يؤمنون بالآخرة ولا يعملون لها، وقد يفتح الله تعالى لهم من الدنيا، فيعطيهم من زهرتها، ويمنحهم من قوتها؛ فإن ذلك قد يغر بعض أهل الإيمان، فيستدلون بالعطاء الدنيوي على الرضا الرباني، مع أنه لا تلازم بينهما؛ إذ إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب. لأجل ذلك جاء في آخر السورة ما يبدد ذلك الغرور، ويثبت الحقيقة التي يجب أن يضعها المؤمن نصب عينيه، ولا سيما حين يرى في قلبه ميلا إلى الدنيا ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: 196-198].
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131- 132].
أيها المسلمون: أهل الإيمان قد يضعفون أمام زهرة الدنيا، فيميلون إليها في مواقف يعاقبون فيها؛ تأديبا لهم وتذكيرا؛ كما عصى الرماة في غزوة أحد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفارقوا مواقعهم لأجل الغنائم، فكانت الهزيمة ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152].
وإذا صدق المؤمنون في طلب الآخرة أنالهم الله تعالى الدنيا والآخرة جميعا؛ كما أخبر الله تعالى عن حال المؤمنين من الأمم السالفة حين قابلوا أعداءهم في ساحات الوغى ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 147-148]. وثواب الدنيا هو النصر على أعدائهم، وثواب الآخرة رضوان الله تعالى والجنة، فنالوا بصدقهم كلا الحسنتين.
وكما كان في أوائل سورة آل عمران بيان حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة، وأنها فانية لا محالة، وأن الآخرة هي الباقية، وكرر ذلك في منتصفها، ففي آخرها تأكيد على هذه الحقيقة المهمة، وأن الموت مصير كل حي؛ لينتقل به العبد من دار الدنيا إلى البرزخ ثم إلى الآخرة، مع بيان الفوز الحقيقي، وذلك في قول الله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
ولأن عدم الغرور بزينة الدنيا، وطلب الآخرة يحتاج من العبد إلى صبر وجهاد للنفس الأمارة بالسوء، وإقامة على الطاعات، وبعد عن المحرمات؛ ختمت السورة العظيمة بوصية المؤمنين بذلك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].
وصلوا وسلموا على نبيكم...