الخطبة تؤكد أن المصافحة عبادة إذا صَحِبتها النية والاتباع، فهي سبب للألفة ومغفرة الذنوب، ولها آداب شرعية وضوابط، ويُنهى فيها عن مصافحة غير المحارم أو ما يخالف الهدي النبوي.
الحمد لله العلي الأعلى ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى
* وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾
[الأعلى: 2-5]، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له؛ أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على
بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى
وأطيعوه، وتعلموا من دينكم ما تتقربون به إلى ربكم؛ فإن العلم يقود إلى الهدى
والنور، ويزيل الجهل والضلال، وبالعلم يستطيع العبد أن يحول العادات إلى عبادات،
وأن يستحضر النية الصالحة في كل الأعمال؛ فتكون حياته كلها طاعة لله تعالى ﴿قُلْ
هَلْ
يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الْأَلْبَابِ﴾
[الزمر: 9].
أيها الناس: الآداب في الإسلام
عبادات إذا استحضرت فيها النية الصالحة، والتزم العبد فيها الهدي النبوي. وللآداب
في الإسلام حظ وافر من نصوص الكتاب والسنة، سواء أدب الإنسان مع ربه سبحانه، أو
أدبه مع رسله عليهم السلام، أو أدبه مع الناس قريبهم وبعيدهم، مؤمنهم وكافرهم، برهم
وفاجرهم، كبيرهم وصغيرهم.
ومن آداب اللقاء بين الناس المصافحة، وفيها نصوص وافرة؛ ليعمل الممتثل بها فيؤجر
على ما هو من قبيل العادات والأعراف.
فالمصافحة مندوب إليها، مأجور من بدأها، وهي
«الصاق
صفحة
الكف
بالكف، ويلزم منه مقابلة الوجه بالوجه عند اللقاء»
قال النووي:
«الْمُصَافَحَةُ
سُنَّةٌ
عِنْدَ
التَّلَاقِي
لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ»
وقال أيضا:
«المصافحة
مستحبّة
عند
كل
لقاء»
وفي صحيح البخاري عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
«قُلْتُ
لِأَنَسٍ رضي الله عنه:
أَكَانَتِ
الْمُصَافَحَةُ
فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ».
وامتدح أنس رضي الله عنه أهل اليمن بأوليتهم في المصافحة فقَالَ:
«إنَّهُ
لَمَّا أَقْبَلَ أَهْلُ الْيَمَنِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ
جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ مِنْكُمْ قُلُوبًا. قَالَ أَنَسٌ:
وَهُمْ
أَوَّلُ
مَنْ
جَاءَ
بِالْمُصَافَحَةِ»
رواه أحمد.
والمصافحة سبب للألفة والمودة؛ فكأن اليد إذا التقت باليد أوصلت المودة إلى قلبي
المتصافحَين، وفي قصة نزول قبول توبة كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن غزوة
تبوك؛ تأثر كعب بموقف طلحة بن عبيد الله، قَالَ كَعْبٌ:
«حَتَّى
دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ حَوْلَهُ
النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى
صَافَحَنِي
وَهَنَّانِي،
وَاللهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْسَاهَا
لِطَلْحَةَ»
رواه الشيخان. وعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قال:
«تَصَافَحُوا
يَذْهَبُ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبُ الشَّحْنَاءُ»،
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ:
الْمُصَافَحَةُ
تَجْلِبُ
الْمَوَدَّةَ».
وقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادَةَ:
«صَافَحْتُ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -أحمد بن حنبل- غَيْرَ مَرَّةٍ،
وَابْتَدَأَنِي
بِالْمُصَافَحَةِ،
وَرَأَيْتُهُ يُصَافِحُ النَّاسَ كَثِيرًا»
فالمصافحة بريد القلوب للألفة والمودة.
ومن عظيم أمر المصافحة أن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه لما عاب على نفسه خشوعه عند
النبي صلى الله عليه وسلم حين يذكرهم بالجنة والنار، ثم اشتغالهم بعد ذلك بالأهل
والأولاد والأموال كأنهم نسوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي
الذِّكْرِ
لَصَافَحَتْكُمُ
الْمَلَائِكَةُ
عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً،
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» رواه
مسلم.
والمصافحة سبب لمغفرة الذنوب؛ كما في حديث الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«مَا
مِنْ مُسْلِمَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ،
فَيَتَصَافَحَانِ
إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا»
رواه أهل السنن إلا النسائي، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
ومن أحكام المصافحة: أن يصحبها السلام
عند اللقاء، ومن الناس من يصافح بلا سلام، أو بتحية أخرى غير السلام، فيفوته أجر
السلام، وهو التحية التي اختارها الله تعالى لعباده، وعلمها آدم عليه السلام حين
خلقه؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
«خَلَقَ
اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ: طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ:
اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ
جُلُوسٍ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ؛ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ
ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ:
السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ،
فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ»
رواه الشيخان.
ومن أحكام المصافحة: أن يصافح بطلاقة
وجه وبشر وتبسم، ويظهر فرحه بمن يصافحه؛ لعموم حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«لَا
تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ
تَلْقَى
أَخَاكَ
بِوَجْهٍ طَلْقٍ»
رواه مسلم. وفي حديث آخر:
«وَلَوْ
أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ
مُنْبَسِطٌ»
رواه أحمد.
ومن أحكام المصافحة: أنه لا يبدأ
الكافرَ بها كما لا يبدأ بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«لَا
تَبْدَءُوا
الْيَهُودَ
وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ»
رواه مسلم. لكن إن بدأ الكافر بالمصافحة فيرد عليه بها ويصافح؛ لعموم قول الله
تعالى ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا﴾
[النساء: 86].
ومما يجلب الود في المصافحة المبادرة بها، والتباطؤ في نزع اليد منها، وهكذا كان
فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه
قَالَ: «كَانَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَصْرِفْ
وَجْهَهُ عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ، وَإِذَا صَافَحَهُ لَمْ
يَنْزِعْ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ
هُوَ
الَّذِي
يَنْزِعُهَا»
رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى
آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
مما ينهى عنه في
المصافحة: مصافحة الرجل لامرأة ليست من محارمه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إِنِّي
لَا
أُصَافِحُ
النِّسَاءَ»
رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. ولقول عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله
عليه وسلم:
«وَاللَّهِ
مَا
مَسَّتْ
يَدُهُ
يَدَ
امْرَأَةٍ
قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ»
رواه البخاري. قال أبو زرعة العراقي:
«وَفِيهِ
أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ
قَطُّ
يَدَ
امْرَأَةٍ
غَيْرِ
زَوْجَاتِهِ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، لَا فِي مُبَايَعَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا.
وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ هُوَ ذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ وَانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ فِي
حَقِّهِ؛ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ»،
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:
«لَأَنْ
يُطْعَنَ
فِي
رَأْسِ
أَحَدِكُمْ
بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ»
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وقال المنذري والهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وما أكثر
الذين يتساهلون في مصافحة نساء لا تحل لهم؛ ولا سيما في الوظائف والأعمال ونحوها.
وبعض المجتمعات انتشرت فيها مصافحة النساء غير المحارم، وصارت من قبيل العرف
والعادة فلا يستنكرونها
«وسُئِلَ
الإمام أحمد بن حنبل عَنْ الرَّجُلِ يُصَافِحُ الْمَرْأَةَ قَالَ: لَا، وَشَدَّدَ
فِيهِ جِدًّا، فقيل له:
فَيُصَافِحُهَا
بِثَوْبِهِ؟
قَالَ: لَا».
ومما ينهى عنه في المصافحة: الانحناء عند أدائها؛ لأن الانحناء تعظيم لا
يليق إلا بالله تعالى؛ ولذا خص سبحانه بالركوع والسجود له عز وجل دون سواه. وكذلك
المصافحة بأطراف الأصابع؛ فإنه مظنة الكبر والتعالي على الناس، ومن تكبر على الناس
كرهوه، علاوة على ما في الكبر من وعيد شديد؛ كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ
مِثْقَالُ
ذَرَّةٍ
مِنْ
كِبْرٍ»
رواه مسلم.
وصلوا وسلموا على نبيكم....