مضى زمن فتلاشى حزنه شيئا فشيئا، وصارت أفراحه وأحزانه الماضية مجرد ذكريات يضحك على نفسه إذا تذكرها. هذه هي الدنيا، لا فرح فيها يدوم، ولا حزن فيها يبقى، وما هي إلا متاع الغرور.
الحمد لله العلي العظيم، العليم القدير؛ جعل رمضان للمؤمنين أنسا، وجعل العيد لهم فرحا، وجعل في ذهاب الشهور والأعوام عبرا. والحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. والحمد لله لا نحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو الجواد الكريم، البر الرحيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ علم حقيقة الدنيا فلم يحفل بها، وعرف حقيقة الآخرة فعمل لها، ونام على حصير أثر في جنبه وقال: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعبدوه في رمضان وبعد رمضان، وراقبوه في كل الأحوال؛ فإنه سبحانه الرقيب عليكم، العليم بأفعالكم، المحيط بأحوالكم، المدبر لأرزاقكم، المقدر لآجالكم.
الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الناس: يتقلب الإنسان في الدنيا بين أفراح وأحزان، وعافية وابتلاء، وبين هموم وانجلائها، وكروب وانكشافها، ومخاوف وتبددها، فلا يستقيم له فرح يدوم، ولا يستبد به حزن لا يزول ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140].
وفي تاريخ المسلمين أعياد صاحبها فرح عظيم، وأعياد شابها حزن عميق، ولا تسل عن فرح المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم في عيد السنة الثانية من الهجرة؛ إذ فرح المؤمنون بأول عيد شرع، وأول رمضان فرض، وأول انتصار على المشركين في بدر الكبرى، ثم فرحوا في عيد فطرهم بعد ست سنوات بفتح مكة. وأعياد أخرى كثيرة تعاقبت على المسلمين وهم في أفراح زادت العيد بهجة وفرحا.
ومرت بالمسلمين نكبات عظيمة من حروب وخوف وجوع أشغلت من أصابتهم عن فرحة العيد، وفي العيد الماضي شغل أهل فلسطين بأنفسهم عن الفرح بعيدهم؛ حيث الحرب الضروس التي أهلكت خلقا كثيرا منهم، ودمرت ديارهم، وفي هذا العيد يفرحون بتوقف الحرب، ولكنه فرح مشوب بخوف اشتعالها من جديد، مع ما يعانونه من الحصار، وما يلقونه من تآمر عليهم بتهجيرهم وإخراجهم من ديارهم ظلما وعدوانا، فرج الله تعالى كربهم، وكبت أعداءهم، ولعلها أن تكون القاضية على الصهاينة كما كانت القاضية على فرعون وجنده ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا﴾ [الإسراء: 103]. ولن تسع فرحة العيد أهل الشام بتحررهم من حكم باطني خبيث جثم عليهم نصف قرن، سامهم فيها سوء العذاب، وهكذا في كل عيد تفرح بلاد وتحزن بلاد أخرى، وتعافى بلاد وتبتلى أخرى، ولله الأمر من قبل ومن بعد ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: 154].
الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
وما يجري على الأمم والبلدان يجري على الأفراد، فإن كل واحد منا لو استذكر ما مر به من أعياد مضت في حياته لتذكر أعيادا عاشها وهو في غاية الفرح والحبور، ومنتهى السعادة والسرور، ومرت به أعياد خالطها خوف أو حزن أو هم ما استطاع كتمانه، يتصنع الفرح للناس وهو محزون مكلوم، أو قلق مرعوب.. ثم مضى زمن فتلاشى حزنه شيئا فشيئا، وصارت أفراحه وأحزانه الماضية مجرد ذكريات يضحك على نفسه إذا تذكرها. هذه هي الدنيا، لا فرح فيها يدوم، ولا حزن فيها يبقى، وما هي إلا متاع الغرور.
الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
وإذا كانت أفراح الدنيا وملذاتها زائلة، وأحزانها وهموما متلاشية، فإنه لا فرح في الدنيا يشبه فرح الآخرة إلا فرح القلب بمعرفة الله تعالى وعبادته. والفرح بطاعته، والأنس به، والقرب منه. ذلك الفرح الذي يخالط القلب فيكون نعيما على صاحبه، ويزيد من شوقه إلى الله تعالى وإلى جنته، ولذا كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يناجي فيها ربه عز وجل، فلا عجب أن تتفطر قدماه من طول القيام، ولا عجب أن يتلذذ المتهجدون ساعات طويلة في قيام الليل. فلا لذة مثل لذة المناجاة.
ومن داوم على الطاعة حتى وجد لذتها زاد شوقه إلى الله تعالى، وعظمت رغبته في الجنة، ولم يغتر بالدنيا وزينتها، ولنتأمل دعاء يوسف عليه السلام حين ازدانت له الدنيا، وأعطي الملك، واجتمع بوالديه وأهله بعد طول الفراق، فدعا بلقاء الله تعالى؛ شوقا إليه سبحانه، وهو في أوج عزه وتمكينه. قال عليه السلام: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101]. ولما خير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين الخلد في الدنيا وقد كملت له بالنصر والغنى وبين لقاء الله تعالى؛ اختار لقاء الله تعالى على الدنيا وزينتها، وقال: «اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» ثم فاضت روحه. إنه الشوق إلى الله تعالى وما عنده من النعيم، ذلك الشوق الذي جعل أنس بن النضر رضي الله عنه يقول وهو مستقبل المشركين في أحد «وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ، أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ».
والفرح الأعظم للمؤمنين فرحهم يوم القيامة حين يتبدد خوفهم وحزنهم يقال لهم ﴿يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: 68-70]، وفرحهم حين يقال لهم: «أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» وحين يجد الصائم فرحته الكبرى بصيامه: «وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ»، اللهم إنا قد وجدنا الفرحة الأولى فبلغنا الفرحة الثانية بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
وليس في الدنيا خوف ولا قلق ولا حزن ولا وحشة أشد على صاحبها من وحشة المعرض عن الله تعالى وعن عبادته، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 124]، ويكون حزن المعرض عن الله تعالى أشد، وخوفه أعظم يوم قدومه على الله تعالى، حين يتحسر على مصيره فيقول ﴿يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 56]، وحين يحرم من رحمة الله تعالى وعفوه، ويحجب عن رؤيته وكلامه، وقال له ولأمثاله: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 108]، فلا مال ينفع، ولا شفيع يشفع، فما ثم إلا خلود في عذاب أليم، وخوف شديد، وحزن عظيم، ﴿أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15]، نعوذ بالله تعالى من حالهم ومآلهم.
اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الحَمْدُ.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله الحميد المجيد؛ أفرحنا بعد رمضان بالعيد، ووعدنا على الشكر بالمزيد، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بعد رمضان كما اتقيتموه في رمضان، وأتبعوا رمضان بصيام ست من شوال؛ ليكون لكم كصيام الدهر.
الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: أنس القلب بالله تعالى وفرحه وسعادته، وقربه منه، والإقبال على طاعته، والتلذذ بعبادته، لا تنال بجاه ولا مال ولا قوة. ولن ينالها إلا من علم حقيقة وجوده، وحقيقة الدنيا، وأنه إنما خلق لعبادة الله تعالى، وأن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة دار القرار، ثم عمل بمقتضى هذه الحقيقة، فأسلم قلبه لله تعالى، وصانه عما يزاحمه من الفتنة بالدنيا، والفتنة بالمال، والفتنة بالشهوات ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد: 26].
الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيتها المرأة المسلمة: يعاني الشباب والفتيات من موجات خوف وقلق واكتئاب، بسبب تعقد الحياة، وكثرة الشبهات والشهوات، وسعي أهل الفساد في صرف الناس عن دينهم، ولا سبيل لتأمين قلوب الأبناء والبنات إلا بتوثيق صلتهم بالله تعالى، وتعليق قلوبهم بالدار الآخرة، مع أخذ نصيبهم من الدنيا، فتكون الآخرة هي الغاية، وتكون الدنيا وسيلة إليها. وعلى المرأة مسئولية كبيرة بتربية أولادها على هذا النهج الصحيح في معرفة قدر الدنيا وقدر الآخرة؛ لإزالة قلقهم وخوفهم، وحمايتهم من الاكتئاب والأمراض النفسية، فلا سعادة للقلب إلا بالله تعالى، وفي طاعته عز وجل، وكل سعادة بغير ذلك فهي متوهمة، لا تلبث أن تزول ويعقبها شقاء وعذاب.
الله كبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: المؤمن يغتنم مواسم الطاعة في الطاعة، ومواسم الفرح في الفرح. والفرح بالعيد عبادة، لأنه فرح بطاعة الله تعالى في رمضان والإعانة على صيامه وقيامه، ومن لوازم ذلك الفرح: البقاء على العهد، وإتباع الطاعة بالطاعة، وأن يكون عيد المؤمن هذا خيرا من عيده السالف في اتباع أوامر الله تعالى، والانتهاء عن نواهيه.
أعاده الله تعالى علينا وعليكم وعلى المسلمين باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].