الخطبة تبرز أوصاف الجاهلية الأربعة: ظن الجاهلية، حكم الجاهلية، تبرج الجاهلية، وحميتها، محذرة المسلمين من الوقوع فيها، مؤكدة أهمية اتباع الإسلام، التقوى، والعمل الصالح، ليكون القلب سليماً والنجاة في الآخرة محفوظة.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾
[الفاتحة: 2 - 4]؛ أرسل لنا نبيه الكريم، وأنزل علينا كتابه المبين، وهدانا لدينه
القويم، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بدينه، فمنهم من أحسن
الاختيار والعمل، فكانت لهم الحسنى في الآخرة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، ومنهم من أساء الاختيار والعمل ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 25]، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله؛ حرص على هداية أمته، واجتهد في إنقاذ عمه، ولكنه مات على غير ملته، فخاطبه
ربه سبحانه ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]، صلى الله وسلم
وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينه، واستقيموا على أمره، واجتهدوا في طاعته؛
فإن الدنيا دار عمل وزوال، وإن الآخرة دار جزاء وقرار ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ *
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 39- 40].
أيها الناس:
الجاهلية مرحلة عاشها الناس بلا آثار من الوحي والنبوة، فركبوا فيها أهواءهم،
وعبدوا أوثانهم، وقلدوا آباءهم، وساءت فيها أخلاقهم؛ فقطعوا أرحامهم، واستحلوا
دماءهم، وظلم القوي منهم الضعيف، ونهب الغني منهم الفقير.
وفي القرآن الكريم أربعة
أوصاف بالجاهلية، وهي ظن الجاهلية، وحكم الجاهلية، وتبرج الجاهلية، وحمية الجاهلية.
فأولها:
ظن الجاهلية، وجاء في قول الله تعالى ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [آل عمران: 154]، وهذا الظن
كان من المنافقين، ظنوا في غزوة أحد أن أمر الإسلام قد انتهى، وأن الرسول صلى الله
عليه وسلم قتل، وأن أصحابه لن تقوم لهم قائمة. كما أنه ظن المشركين؛ كما أخبر الله
تعالى عنهم جميعا في قوله تعالى ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: 6]، وقال تعالى ﴿بَلْ
ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ
أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ
قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: 12].
وإنما كان ظن سوء، وظن
جاهلية؛ لأنه ظن في الله تعالى بما لا يليق به سبحانه، ولا بأسمائه وصفاته وأفعاله،
ولا بقدرته وقوته، ولا بوعده الذي لا يخلف؛ فقد وعد المؤمنين بالنصر المبين، وبظهور
دينه على الدين كله. وكل من ظن أن دين الله تعالى ينتهي ويضمحل بسبب حملات الكفار
والمنافقين عليه، وظن أن أولياءه سبحانه يبادون عن بكرة أبيهم، فقد غرق في ظن
الجاهلية، وارتمس في ظن السوء.
وكذلك من ظن أن الله تعالى
خلق الخلق لغير عبادته، أو أن الخلق وجد صدفة، أو أن الحياة الدنيا دار لهو وعبث؛
فقد وقع في ظن الجاهلية ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27].
وكذلك من ظن أن الله تعالى
لا يثيب المؤمنين بإيمانهم وعملهم الصالح، أو ظن أنه سبحانه لا يعاقب الكافرين
والمنافقين، ويقال لأهل هذا الظن الجاهلي يوم القيامة ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
[فصلت: 23].
وثانيها: حكم الجاهلية،
قال الله تعالى ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾
«أَيْ:
يَبْتَغُونَ وَيُرِيدُونَ، وَعَنْ حُكْمِ اللَّهِ تعالى يَعْدِلُونَ».
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]،
«أَيْ:
وَمَنْ أَعْدَلُ مِنَ اللَّهِ فِي حُكْمِهِ لِمَنْ عَقل عَنِ اللَّهِ شَرْعَهُ،
وَآمَنَ بِهِ وَأَيْقَنَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ،
وَأَرْحَمُ بِخُلُقِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ
الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَادِلُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ».
فمن ابتغى غير حكم الله
تعالى في نفسه أو على غيره، فقد عدل عن حكم الله تعالى إلى حكم الجاهلية. فإن عدل
عن حكم الله تعالى؛ لظنه أن حكم غيره أكمل أو أعدل، أو لظنه أن حكمه لا يناسب هذا
العصر؛ فقد جمع مع حكم الجاهلية ظن الجاهلية؛ فإن أهل الجاهلية حين عزفوا عن حكم
الله تعالى؛ ادعوا أنه أساطير الأولين ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5]. ومن
عدل عن حكم الله تعالى إلى حكم غيره لأجل عرض دنيوي، فقد وافق المنافقين في فعله،
قال الله تعالى مخبرا عنهم ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ
وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ
يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ
يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 47 - 51].
وثالثها:
تبرج الجاهلية، قال الله تعالى ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]
«أي:
لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم
عندهم ولا دين».
«وَوَصْفُهَا
بالْأُولى وَصْفٌ كَاشِفٌ؛ لِأَنَّهَا أُولَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَجَاءَ
الْإِسْلَامُ بَعْدَهَا».
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوع التبرج في نساءٍ من أمته فقال صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صِنْفَانِ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ
الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ
مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ
الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ
كَذَا وَكَذَا»
رواه مسلم. فوصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن كاسيات عاريات، يلبسن ثيابا
رقاقا تصف ما تحتها، فهن كاسيات في ظاهر الأمر، عاريات في الحقيقة. وغايتهن إغراء
الرجال، ولفت الأنظار إليهن. وهن بهذا الفعل مائلات عن طاعة الله تعالى، ومميلات
للرجال بإغرائهم فيهن، كما أنهن مميلات لمن اتبعهن من النساء ممن يقلدنهن. وقد
انتشر تبرج الجاهلية، وتخلق به كثير من النساء، وفتنَّ به الرجال، وصار بسببهن غض
البصر من أشق العبادات على الرجال. وفي وسائل التواصل الجماعي ما يندى له الجبين من
عرض النساء لمفاتنهن، وإغراء الرجال بهن؛ لتكثير متابعتهن، وذلك من الفتنة.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا
ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه
سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا
مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم
إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:
281].
أيها المسلمون:
على المؤمن أن يعرف أمور الجاهلية وأوصافها ليحذر من الوقوع في شيء منها؛ فإن
الإسلام جاء بمحوها وإلغائها.
هذا؛ ورابع الأوصاف
بالجاهلية في القرآن: حمية الجاهلية، قال الله تعالى ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح:
26].
«وَالْحَمِيَّةُ:
الْأَنَفَةُ، أَيِ: الِاسْتِنْكَافُ مِنْ أَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ غَضَاضَةً
عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اسْتِكْبَارٍ لَا مُوجِبَ لَهُ».
وما رفض المشركون دعوة
النبي صلى الله عليه وسلم إلا بسبب حميتهم لآبائهم التي قادتهم إلى تقليدهم في
الشرك؛ حتى قال أبو طالب وهو في النزع:
«على
ملة عبد المطلب»،
والنبي صلى الله عليه وسلم عند رأسه يلقنه الشهادة فأبت عليه حميته لعبد المطلب أن
ينطقها، فمات على الشرك، وخلد في العذاب.
وأبو جهل كان يعلم صدق
النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حمية الجاهلية ردته عن الإيمان؛ إذ خَلَا
الْأَخْنَسُ بنُ شُرَيقٍ بِأَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ:
«يَا
أَبَا الْحَكَمِ، أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟
فَإِنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ
كَلَامَنَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا
لَصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ
بِاللِّوَاءِ وَالْحِجَابَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ
لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟».
ويصاب بحمية الجاهلية كثير
من الناس وهم لا يشعرون حين يتعصب لأفراد أو لدولة أو لطائفة أو لحزب أو لجماعة؛
فيقبل باطلهم ويدافع عنه، ويرفض الحق إذا كان مع غيرهم. بل قد يقع بسبب حمية
الجاهلية في الكفر أو في النفاق أو في البدعة أو في المعصية، أو يحل حراما، أو يسقط
واجبا، أو يدعو إلى منكر. وما أكثر الواقعين في ذلك وهم لا يشعرون.
وحين حذر الله تعالى في
القرآن الكريم من ظن الجاهلية، ومن حكم الجاهلية، ومن تبرج الجاهلية، ومن حمية
الجاهلية؛ فذلك لحفظ قلوب المؤمنين وإيمانهم وأعمالهم من تلوثها بشيء من أوضار
الجاهلية؛ لتكون قلوبهم سَلَمًا لله تعالى، مستسلمة لأمره سبحانه ﴿يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
[الشعراء: 88- 89].
وصلوا وسلموا على نبيكم...