شكلت مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت سابقة، وتباينت ردود الأفعال تجاها عالميا وإقليميا، لكن السؤال الأهم إلى أي مدى ستدفع تلك المذكرات في تجاه تغييرات الواقع على الأرض وتحد من عمليات القتل والإبادة التي تطال الشعب الفلسطيني؟
على غير المتوقع أصدرت
"المحكمة الجنائية الدولية" الخميس الحادي والعشرين من تشرين ثاني نوفمبر مذكرات
اعتقال بحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت
بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، بعد أن رفضت الالتماسات التي قدمتها دولة
الاحتلال في وقت سابق بهذا الخصوص.
وأكدت أن هناك أسبابًا
منطقية للاعتقاد بأنهما ارتكبا تلك الجرائم، وأشارت إلى أن جرائم الحرب المنسوبة
إليهما تشمل استخدام التجويع كسلاح حرب، كما تشمل الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في
القتل والاضطهاد، وتوجيه هجوم متعمد ضد السكان المدنيين، وغيرها من الأفعال غير
الإنسانية، وربطت هذه الجرائم بأنشطة الحكومة الصهيونية وممارسات جيشها ضد المدنيين
في غزة، واعتبرت أن القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء
والماء والدواء، أدت إلى تجويع السكان المدنيين في غزة وتعريضهم للمعاناة الشديدة.
وبينت المحكمة أن قبول
دولة الاحتلال باختصاص المحكمة غير ضروري، كما اعتبرت أن الكشف عن أوامر الاعتقال
هذه يصب في مصلحة الضحايا الفلسطينيين.
ومنذ بدء حرب الإبادة
الصهيونية ضد غزة، تعقدت الحالة القانونية بسبب عدة عوامل معقدة، تتداخل فيها
القضايا القانونية والسياسية والإنسانية، ولعل أبرز الأسباب التي ساهمت في تعقيد
الوضع القانوني تشمل:
الوضع الإنساني:
إن تزايد الأعداد الضخمة من القتلى والجرحى المدنيين الفلسطينيين في غزة بفعل الحرب
الصهيونية التي خلفت ما يزيد عن 200 الف ما بين قتيل وجريح، أثار قلقًا دوليًا
متزايدًا، وكذلك الوضع الإنساني الصعب في غزة،
بما في ذلك الحصار الصهيوني المستمر منذ سنوات طويلة، ساهم بشكل كبير في تصاعد
الدعوات للتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية، مما شكل ضغطًا كبيرًا على المحكمة
الجنائية الدولية من قبل المنظمات الحقوقية والمجتمع الدولي للتحقيق في مثل هذه
القضايا، كما أن المواقف الدولية من محكمة الجنائية الدولية تتفاوت فبعض الدول تدعم
التحقيقات في القضايا المتعلقة بالصراع الفلسطيني- الصهيوني، بينما دول أخرى، خاصة
الولايات المتحدة وبعض حلفائها، قد تتخذ مواقف مناهضة ضد المحكمة الجنائية الدولية
وتعارض التحقيقات ضد دولة الاحتلال.
|
دول الاتحاد الأوروبي، دعمت موقف المحكمة الجنائية الدولية، مشددة
على ضرورة أن تلتزم الأطراف بتطبيق القانون الدولي. بينما كانت هناك دول
أخرى تتحفظ على بعض تفاصيل التحقيقات،
|
الاختلافات في تفسير
قوانين الحرب:
فقانون النزاع المسلح
الدولي (مثل اتفاقيات جنيف) يُحدد كيفية تصرف الأطراف في النزاع بما يضمن حماية
المدنيين والحد من الأضرار التي تلحق بالبنية التحتية والمدنيين، ولكن تطبيق هذه
القوانين في الصراعات الحديثة، خاصة في مناطق مثل غزة، حيث لا توجد جبهات قتال
تقليدية، ولا تكافؤ في العتاد والأسلحة والجيوش يصبح الأمر صعباً، فتقع كل الهجمات
الصاروخية في المناطق المدنية المزدحمة، ما يجعل تقييم التمييز بين الأهداف
العسكرية والمدنية معقداً، كما أن دولة الاحتلال قد بالغت في استخدام القوة
العسكرية ضد الفلسطينيين المدنيين الأبرياء العزل.
الاتهامات المتبادلة:
المنظمات الحقوقية
الفلسطينية والفصائل الفلسطينية، تتهم دولة الاحتلال بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين
الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك القصف العشوائي للمدن والمناطق المكتظة بالسكان،
واستهداف البنية التحتية المدنية وكذلك السكان المدنيين الأبرياء، معتبرة أن ذلك من
صلب اختصاصات محكمة الجنائية الدولية التي يجب أن تكون معنية بالتحقيق في مثل هذه
القضايا، فيما تتهم دولة الاحتلال الفصائل الفلسطينية باستخدام المدنيين كدروع
بشرية، وتتذرع بإطلاقها الصواريخ على مدنها من قلب المناطق المدنية، مما يعرض حياة
المدنيين للخطر، وتعتبر نفسها بأنها تتبع القوانين الدولية في هجماتها العسكرية،
لكن هناك انتقادات واسعة بشأن تنفيذ هذه الهجمات.
الحقوق الفلسطينية وغياب
الدولة:
فصائل المقاومة الفلسطينية
في غزة، وجدت بسبب وجود الاحتلال، وبسبب السيطرة على أرضها واغتصابها من قبل دولة
الاحتلال التي احتلت الأرض واغتصبت المقدرات وهجرت الشعب، ووجودها مرهون بمقاومة
الاحتلال، وهو حق شرعي كفلته كل القوانين الدولية والمعاهدات الشرعية، ولكن مع غياب
العدالة الدولية في الحالة الفلسطينية، بسبب الظلم الدولي والانحياز الكامل لدولة
الكيان الصهيوني لا يعترف المجتمع الدولي بها ويعتبرها منظمات إرهابية، كما أنها لا
تُعتبر جزءًا من دولة معترف بها دوليًا، مما يجعل محاكمة القادة العسكريين
والسياسيين الفلسطينيين على المستوى الدولي أكثر تعقيدًا، علاوة على ذلك، هناك جدل
حول اعتراف محكمة الجنائية الدولية بسلطة محاكمتها على الأفراد في مناطق لا تتمتع
بالاعتراف الكامل كدول ذات سيادة.
ورغم الدعم اللامحدود الذي
تحظى به دولة الاحتلال الصهيوني من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تسعى
لحمايتها وتدافع عنها في منظمات الأمم المتحدة كان آخرها استخدام حق النقض الفيتو
في مجلس الامن ضد قرار وقف الحرب على غزة، إلا أن مثل هذه القرار قد يكون له أهمية
كبيرة على المستوى الدولي والفلسطيني:
1- يُمثل خطوة كبيرة نحو
محاسبة المسؤولين الصهاينة على الأفعال التي يعتبرها المجتمع الدولي انتهاكًا صارخا
لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
2- يُؤثر على سمعة دولة
الاحتلال على الصعيد الدولي، ويزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية عليها.
3-
يُشكل دعمًا للأصوات
المنادية بحقوق الفلسطينيين في المحافل الدولية، ويُظهر التزام محكمة الجنايات
الدولية بمكافحة الاجرام وعدم الإفلات من العقاب.
4- يُحفز بعض الدول
والمجموعات الدولية على اتخاذ مواقف أقوى ضد السياسات الصهيونية.
ولقد لاقى القرار ردود
أفعال دولية متباينة، أبرزها:
0 الدعم الفلسطيني
والدولي، حيث اعتبرت السلطة الفلسطينية وداعميها أن التحقيق في الجرائم الصهيونية
سيكون خطوة نحو تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية.
كما أكدت منظمات حقوق الإنسان الدولية، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"
على أهمية القرار في تحقيق العدالة الدولية لضحايا الجرائم.
- الرفض الصهيوني
والأمريكي، فدولة الاحتلال اعتبرت القرار غير قانوني، ورفضت اختصاص المحكمة بالنظر
في القضايا المتعلقة بالأراضي الفلسطينية، مشيرة إلى أن فلسطين ليست دولة ذات سيادة
ولا يحق لها تقديم قضايا إلى المحكمة. أما الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم أنها
ليست عضوًا في المحكمة إلا أنها عبرت عن دعمها لدولة الاحتلال، وأكدت على موقفها
المعارض للمحكمة، ودعت إلى عدم الاعتراف بقراراتها بشأن القضايا الفلسطينية.
-
دول الاتحاد الأوروبي، دعمت موقف المحكمة الجنائية الدولية، مشددة على ضرورة أن
تلتزم الأطراف بتطبيق القانون الدولي. بينما كانت هناك دول أخرى تتحفظ على بعض
تفاصيل التحقيقات،
مع التأكيد على أهمية
إيجاد حل سياسي للنزاع الصهيوني الفلسطيني.
كما كان للقرار تأثير كبير
على نتنياهو سواء داخليًا أو خارجيًا أو على مستوى التحدي الدبلوماسي:
- داخليًا: فقد كان القرار
فرصة لتعزيز موقفه السياسي في الداخل، حيث استخدم القرار للظهور أمام الرأي العام
الصهيوني كمدافع عن أمن دولته وسيادتها. كما اعتبر هذا القرار جزءًا من حملة هجوم
دولية ضده وضد دولته، مما يعزز دعمه بين أوساط اليمين المتطرف، وأشار إلى أن
المحكمة تمارس ازدواجية في المعايير، وأكد على أن دولته ستكون دائمًا ملتزمة
بالدفاع عن نفسها ضد أي تهديدات، مما ساعده في الحصول على دعم فئات واسعة من الشعب
الصهيوني.
- خارجيًا: أدى القرار إلى تصعيد التوترات بين دولة الكيان
وبعض الدول الأوروبية التي أيدت التحقيقات، وكذلك مع دول أخرى في الأمم المتحدة،
رغم أن بعض القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، وقفت إلى جانب حليفتها الصهيونية،
إلا أن قرار المحكمة كان له تداعيات سلبية على صورة دولة الاحتلال على المستوى
الدولي مما ينذر بعزلتها دوليا.
- دبلوماسيا: فمواجهة
القرار على الساحة الدولية يتطلب من نتنياهو استراتيجيات دبلوماسية مكثفة، وبذل
جهود إضافية للحفاظ على تحالفاتها، خاصة مع الولايات المتحدة، ومواصلة حملات الضغط
على المحكمة الجنائية الدولية.
إن قرار المحكمة الجنائية
الدولية يمثل اختبارًا سياسيًا كبيرًا لنتنياهو، وسيؤثر في ديناميكيات السياسة
الداخلية والخارجية الصهيونية على حد سواء، ويُعتبر خطوة هامة في مسار المحاسبة على
الجرائم الدولية، وقد يكون له تأثيرات بعيدة المدى على الأمن والسياسة في منطقة
الشرق الأوسط.