هل تشتعل الحرب في البحر الأحمر؟

شكلت هجمات الحوثيين أن تحدث إزعاجا للتجارة الدولية في البحر الأحمر، مما دفع الولايات المتحدة لتشكيل تحالفا عسكريا دوليا لمواجهة هذه الإشكالية، هل تتطور المواجهات بين الطرفين، هل تستطيع الولايات المتحدة لجم الحوثية وما هي السيناريوهات المتوقعة؟

 


فيما تستمر الحرب الغاشمة التي تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزة المُحَاصر؛ ثمة حرب أخرى تدور رحاها على بُعد أكثر من ألفي كيلومترًا في البحر الأحمر، إذ يصعّد الحوثيون في اليمن هجماتهم على السفن المرتبطة بـ"إسرائيل" التي تمر عبر مضيق باب المندب، مما أثار مخاوف بشأن تأثير ذلك على تدفق النفط والحبوب والسلع الاستهلاكية عبر شريان تجاري عالمي رئيسي يمر خلاله حوالي 12% من التجارة العالمية، يستغل الحوثيون موقعهم الجغرافي الاستراتيجي على البحر الأحمر وبالقرب من مضيق باب المندب في إظهار التضامن مع الفلسطينيين في غزة، فكيف يمكننا قراءة هذا التصعيد الحادث في البحر الأحمر؟، وهل من الوارد أن تشتعل جبهة صراع كبرى في تلك المنطقة البحرية الهامة؟

خلفية الأحداث

الحوثيون هم يمنيون شيعة مدعومون من الإيرانيين الذين بدأوا في مساعدتهم عام 2004م بعد تمردهم لأول مرة على الحكومة المركزية في اليمن، وشرعت طهران في عام 2009م بتزويدهم بكميات كبيرة من الأسلحة، حيث نجحت بالفعل في إدراج الحوثيين ضمن المجموعة الكبيرة التي أسستها تحت مسمى "محور المقاومة"، إذ يشمل هذا المحور نظام الأسد في سوريا، وحزب الله في لبنان، وميليشيات عصائب أهل الحق وكتائب الإمام علي وكتائب الشهداء وغيرها في العراق، كما يتضمن المحور أيضًا قوات أخرى؛ منها كتائب "فاطميون" التي جندتهم طهران من الأقلية الشيعية في أفغانستان، وجماعة "الزينبيون" التي تستند إلى الأقلية الشيعية في باكستان، وبفضل الدعم الإيراني استولى الحوثيون على العاصمة صنعاء في عام 2014م، وشنّوا حربًا ضد التحالف العربي الذي يسعى لاستعادة الحكومة الشرعية في البلاد، طيلة السنوات الماضية استهدف الحوثيون بشكل متقطع السفن في منطقة مضيق باب المندب الذي يبلغ عرضه حوالي

 

هذه الأهمية الاستراتيجية هي التي دفعت مكتب السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إلى التحذير مبكرًا من الهجمات التي تنطلق من الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن، لأنها تهدد الملاحة الدولية والأمن البحري، معتبرًا ذلك انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي

 20 ميلًا بين جيبوتي واليمن، لكن الهجمات تزايدت منذ بداية الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة، حيث استخدموا طائرات بدون طيار وصواريخ مضادة للسفن لمهاجمة السفن العابرة للمضيق، وفي إحدى الحالات استخدموا طائرة هليكوبتر للاستيلاء على سفينة مملوكة لـ"إسرائيليين" وطاقمها، وبالتوازي مع ذلك قاموا بإطلاق صواريخ باليستية طويلة المدى على "إسرائيل"، لكنها لم تكن فعالة بما يكفي وتم اعتراض بعضها من قبل الولايات المتحدة، وهو ما اضطرهم إلى تغيير تكتيكاتها للتركيز على مهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر.

صحيح أن منطقة نفوذ الحوثيين في الممر المائي لا تزال محدودة، ولا يملك الحوثيون سفنًا حربية بحرية يمكنهم من خلالها فرض طوق على مضيق باب المندب ويعتمدون على نيران مضايقة وهجوم متفرق بالمسيّرات أو بطائرات هليكوبتر، لكن هجماتهم تثير قلق صناعة الشحن ولا يمكن الاستخفاف بها، لأن هناك قدرًا هائلاً من التجارة يمر عبر البحر الأحمر الذي تكمن أهميته في وجود قناة السويس في نهايته الشمالية ومضيق باب المندب في طرفه الجنوبي المؤدي إلى خليج عدن، وبالتالي فهو ممر مائي هام للغاية ومزدحم بالسفن دائما لنقل البضائع بين آسيا وشرق إفريقيا وأوروبا، فهناك كمية هائلة من إمدادات الطاقة الأوروبية ـ خاصةً النفط ووقود الديزل ـ التي تمر عبر هذا الممر المائي كثيف الحركة، وكذلك المنتجات الغذائية مثل زيت النخيل والحبوب، إلى جانب أي منتجات أخرى يتم جلبها على متن سفن الحاويات، هذه الأهمية الاستراتيجية هي التي دفعت مكتب السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إلى التحذير مبكرًا من الهجمات التي تنطلق من الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن، لأنها تهدد الملاحة الدولية والأمن البحري، معتبرًا ذلك انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي.

تأثيرات وتبعات

هجمات الحوثيين في البحر الأحمر على السفن العابرة تثير القلق والتوترات في المنطقة، لا سيما بعدما وعد الحوثيون بمهاجمة أي سفينة يعتقدون أنها متوجهة إلى "إسرائيل" أو قادمة منها، حيث يقوم الحوثيون بالاتصال بالسفن عبر الراديو لمحاولة إقناعهم بتغيير مسارهم بالقرب من الأراضي التي يسيطرون عليها، لكن ما هي التأثيرات والتبعات لهذا السلوك؟

* ثمة تهديد متعاظم يواجه التجارة العالمية، وقد تزايد مؤخرًا مع تعرض سفن الحاويات وناقلات النفط التي ترفع أعلام دول أخرى مثل النرويج وليبيريا لاستيلاء الحوثيين عليها، أو تعرضها لإطلاق الصواريخ إذا رفضت الانصياع لأوامر الحوثيين أثناء عبورها الممر المائي بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية.

* في إشارة إلى اتساع نطاق التأثير على التجارة العالمية، قالت شركة ميرسك، أكبر شركة شحن في العالم، إنها أبلغت جميع سفنها المقرر أن تمر عبر جنوب البحر الأحمر، بإيقاف الرحلة مؤقتًا حتى إشعار آخر، كما أعلنت شركة الشحن الألمانية هاباج لويد إنها ستوقف مؤقتًا جميع حركة سفن الحاويات عبر البحر الأحمر، لا سيما بعد تعرض إحدى سفنها للهجوم، والقرار ذاته اتخذته شركة "إم إس سي" وغيرها من مجموعات الشحن العالمية.

* تشير التقديرات إلى أنه يتم شحن ما بين 7% إلى 10% من النفط العالمي و8% من الغاز الطبيعي المسال عبر البحر الأحمر وقد قامت شركة بريتيش بتروليوم بإيقاف شحناتها عبر هذا الممر المائي الهام، ويقول المحللون إنه إذا استمرت الهجمات على السفن وتوقفت المزيد من ناقلات شركات النفط فمن المرجح أن ترتفع تكاليف الطاقة أكثر عبر البحر الأحمر.

* بدأت بعض السفن المرتبطة بـ"إسرائيل" في سلوك الطريق الأطول حول إفريقيا ورأس الرجاء الصالح، وهذا يطيل الرحلة من حوالي 19 يومًا إلى 31 يومًا اعتمادًا على سرعة السفينة، وبالتالي زيادة التكاليف وزيادة التأخير.

 

 تصدت الولايات المتحدة لبعض محاولات الصعود الحوثي على متن سفن الشحن العابرة للمضيق من خلال الاستعانة ببعض قطعها البحرية المنتشرة في البحر الأحمر، في حين أسقطت السفن الحربية الأمريكية والفرنسية والبريطانية طائرات بدون طيار

* كان التأثير المباشر الأكبر للتصعيد الحوثي هي زيادة تكاليف التأمين بالنسبة لشركات الشحن التي تتحرك عبر البحر الأحمر، إذ أن التهديد المتزايد للسفن يمثل عائقًا كبيرًا أمام الشحن التجاري في المنطقة، والتي يشكل أعضاؤها أكبر سوق للتأمين في العالم، ووفقًا لتقارير فإن تكاليف الشحن بالنسبة لأصحاب السفن "الإسرائيليين" قد ارتفعت بنسبة 250%، وبعض شركات التأمين رفضت تغطية تأمين الرحلات "الإسرائيلية" من الأساس.

* مع زيادة تكاليف التأمين فإن أي تأخير في إيصال البضائع والإمدادات المتداولة كل عام والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات يعني أن هناك ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار سيصيب الأسواق التي تنتظر تلك البضائع والإمدادات.

* "إسرائيل" هي المتضررة الكبرى جراء ذلك، إذ يعاني المستوردون الصهاينة من عدم اليقين وارتفاع تكلفة الشحن البحري، لدرجة أن ميناء إيلات الذي يعتمد على حركة السفن في البحر الأحمر، بدأ يفقد نشاطه تمامًا بسبب قلة السفن التي تصل إليه.

خيارات المواجهة

مع تصاعد التهديدات بشكل أكبر في الأسابيع الماضية، كانت خيارات المواجهة محصورة في:

* تصدت الولايات المتحدة لبعض محاولات الصعود الحوثي على متن سفن الشحن العابرة للمضيق من خلال الاستعانة ببعض قطعها البحرية المنتشرة في البحر الأحمر، في حين أسقطت السفن الحربية الأمريكية والفرنسية والبريطانية طائرات بدون طيار وصواريخ تابعة للحوثيين.

* "إسرائيل" المنشغلة بقصف قطاع غزة ليلًا ونهارًا، وصفت تلك الأفعال بالقرصنة وبأنها تشكل تهديداً لأمن الملاحة في تلك المنطقة، واعتبرت أفعال الجماعة الحوثية بمثابة تهديد لأمنها، وتوعدت بالرد عليها بقوة في عدة تصريحات رسمية، كما أرسلت بعض قطعها البحرية إلى البحر الأحمر دون إعطاء مزيد من التفاصيل حول المهمة.

* أعلنت الولايات المتحدة عن تحالف بحري متعدد الجنسيات للدفاع عن الشحن البحري والقيام بدوريات في جنوب البحر الأحمر لمحاولة حماية السفن من الهجمات، ووفقًا للإعلان الأوليّ فإن التحالف الجديد، المُسمّى بعملية حارس الازدهار (OPG)، يضم عددًا من الدول؛ ورغم أنه من غير الواضح متى ستشعر مجموعات الشحن التجارية بالثقة الكافية للسماح لسفنها بالمرور عبر مضيق باب المندب مرة أخرى، نجد أن بعض الدول التي كانت مشمولة ضمن التحالف قد بدأت في الانسحاب منه؛ وعلى رأسها إسبانيا، في حين رفضت قوى كبرى المشاركة من البداية رغم تواجدها في المنطقة بكثافة مثل الصين التي تمتلك قاعدة في جيبوتي ولديها سفن حربية هناك.

تثير الطريقة التي يعمل بها الحوثيون تحديات أمام القوات البحرية الغربية، حيث إنهم يتصدون للطائرات بدون طيار الرخيصة بمعدات باهظة الثمن، فعلى سبيل المثال تقدر تكلفة صواريخ أستر 15 أرض ـ جو، تلك التي أطلقتها الفرقاطة الفرنسية لانغدوك صوب طائرة حوثية بدون طيار، بأكثر من مليون يورو لكل منها، في حين أن الطائرات بدون طيار إيرانية الصنع من نوع "شاهد"، والتي يستخدمها الحوثيون، تكلّف بالكاد 20 ألف دولار، وقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية قبل أيام أن الحوثيين شنوا نحو 100 هجوم بطائرات مسيرة وصواريخ باليستية على 10 سفن تجارية خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما يعني أن مواجهة كل هذه الهجمات ستكون كلفته باهظة للغاية.

تصعيد مرتقب

لا تواجه "إسرائيل" نفس القيود التي تواجهها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية في هذا الصدد، ويمكنها أن تخوض صراعًا بعيدًا إذا لزم الأمر، فالانفجار الغامض الذي وقع في صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون في 30 نوفمبر الماضي والذي استهدف مستودع أسلحة للحوثيين، يحمل بصمات عملية قامت بها الأجهزة الاستخباراتية "الإسرائيلية" التي لديها بالفعل خبرة واسعة ضد الأهداف الإيرانية في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وفي إيران ذاتها، يُضاف إلى ذلك أن تل أبيب ليست مهتمة بالسياسة أو التفاصيل القانونية المتعلقة بحدود الدولة والقوانين الدولية عندما يتعلق الأمر بإضفاء الطابع الخارجي على أمنها، ولا سيما في مواجهتها مع إيران؛ والتي تشير العديد من التقارير إلى أنها هي من تقف وراء هجمات جماعة الحوثي، وأن النهج الإيراني ظاهرًا بقوة في خلق هذا النوع من النزاعات، لدرجة أن طهران قد هددت على لسان أحد قادة الحرس الثوري بأن البحر المتوسط قد يُغلق أيضا، ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال عدة رسائل عبر دول وسيطة إلى إيران بشأن العمليات الأخيرة في البحر الأحمر، لكن طهران كانت تصرّ على أن القرار يعود لليمنيين وحدهم.

حتى اللحظة لا يزال التهديد العسكري المباشر محدود، لكن هناك مخاوف من تصاعد الوضع إذا أدت هجمات الحوثيين إلى سقوط قتلى أو تفاقم الوضع السيء للتجارة الدولية، وهناك من يعتقد أن الحوثيين يأملون في توريط الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة لاستنزافها في حرب طويلة سيخوضها الحوثيون بالوكالة نيابةً عن إيران، بعض التحليلات ترجح أن الهجوم الأخير على السفن يعكس الجهود المبذولة من قبل الحوثيين لتحسين مكانتهم بين الشعب اليمني، والتي تفاقمت تدريجيًا بسبب الوضع الإنساني الصعب وحكمهم بقبضة حديدية.

 

أعلى