أمريكا تحتاج تركيا!

استمر الغرب في تقبل الدور التركي كخادم لمشاريع الغرب في المنطقة، ولكن عندما شعر أن تركيا بدأت في بناء نفسها اقتصاديا وعسكريا باعتمادها على الذات وفي نفس الوقت شرعت في تمدد سياسي وعسكري وثقافي، بدأ يشعر بخطورة الدور التركي على مشروعه في الشرق الأوسط والبلق


أثار الفيديو الذي تم نشره ويظهر فيه توجه الرئيس الأمريكي جو بايدن للسلام على نظيره التركي رجب طيب أردوغان، والذي كان جالسا أثناء قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل التي جمعت بينهما، فيما هم الأخير بالقيام من مكانه للسلام على الرئيس الأمريكي وسط ابتسامات بينهما، ولاحقا عقد الزعيمان لقاءا ثنائيا مغلقا، وقال بايدن في تصريح عقب اللقاء الذي يعد الأول منذ توليه السلطة إنه كان "اجتماعا جيدا للغاية" بينما صرح أردوغان خلال مؤتمر صحفي في بروكسل بعد اللقاء "أجرينا لقاء صريحا ومثمرا جدا"، مضيفا أنه "ليس من مشكلة في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة لا يمكن تجاوزها"...... كل ذلك يثير التكهنات حول وجود رغبة أمريكية في تحسين العلاقات مع تركيا، والتي شهدت مزيدا من التوترات في الشهور الماضية والتي أعقبت انتخاب جو بادين كرئيس للولايات المتحدة في مطلع العام الحالي.

الأمر الذي يدفع لعدد من التساؤلات أهمها:

ما طبيعة العلاقات الأمريكية وكيف بنيت منذ بدايتها؟

وما أسباب الخلاف الذي حدث مؤخرا؟

وما الحاجات الملحة والتي دفعت الولايات المتحدة لتحسينها؟

العلاقات الأمريكية التركية:

مع بدء استراتيجية الاحتواء الأمريكية تجاه الاتحاد السوفيتي في بدايات الخمسينات من القرن الماضي كان لتركيا في هذه الاستراتيجية دورا محوريا، حيث كان لموقع تركيا في هضبة الأناضول وتأثيرها الثقافي على محيطها عاملا كبيرا في حصار جنوب الاتحاد السوفيتي، وموقعا متقدما عززته الولايات المتحدة بعدة قواعد عسكرية، وبما عرف بمبدأ ترومان والذي أصدره الكونجرس الأمريكي عام 1947، وبموجب بنوده صارت تركيا تستقبل المساعدات الاقتصادية والعسكرية الخاصة من أجل مساعدتها في مقاومة تهديدات الاتحاد السوفيتي.

وبعدها انضمت تركيا إلى الناتو عام 1952، وأصبحت عضوا مؤسسا في منظمة المعاهدة المركزية، وهي حلف دفاعي مشترك تأسس عام 1955، كما تبنت الدولة التركية مبادئ مذهب أيزنهاور عام 1957، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت تركيا حصنا للجناح الجنوبي الشرقي للناتو، ومنذ انشاء قاعدة إنجرليك الجوية في الأراضي التركية، صارت تركيا مرتكزا هاما لعمليات القوات الجوية الأمريكية، والتي لعبت دوراً حيوياً أثناء الحرب الباردة، ومن بعدها في حرب الخليج، ثم في حرب العراق.

ولقد ظن الجميع أن الدور التركي قد تلاشى مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، لكن في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 إبان إدارة الرئيس بوش الابن، زادت أهمية تركيا كلاعب رئيسي في إطار ما عُرف بالحرب على الإرهاب، وخلال أقل من 24 ساعة قامت تركيا بتسهيل استخدام أراضيها ومجالها الجوي للقوات الأمريكية لبدء الحرب على أفغانستان في أكتوبر 2001.

لقد أسست تركيا هذه العلاقة مع الغرب عموما والولايات المتحدة بصفة خاصة على الدخول في شراكة استراتيجية طويلة المدى، بتقديم نفسها كحجر زاوية في أي سياسة أمريكية تجاه الشرق الأوسط والأدنى، وباعتبارها أحد المفاتيح الاستراتيجية في المنطقة الممتدة من أوروبا وحتى القوقاز مروراً بالبلقان والشرق الأوسط، كل هذا مقابل الاحتفاظ بالدولة التركية موحدة بعد أن حاولت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى تفتيت الدولة العثمانية، وكذلك مقابل مساعدات اقتصادية وتكنولوجية.

اندلاع الخلاف التركي الأمريكي

مع مجيء حزب العدالة والتنمية ونجاحه في الانتخابات أواخر عام 2002 وتسلمه السلطة في تركيا، انقلبت المعادلات داخل تركيا وخارجها ولكن بالتدريج.

فالحزب كان له أهداف وطموحات إقليمية ودولية تتعلق باستعادة دور تركيا التاريخي العثماني ولكن بأدوات العصر، وبالرغم من استمرار الدور التركي كتقديم نفسه كحجر زاوية وكدور يخدم مصالح الغرب، ولكن بدلا من أن يكون لمصلحة تركية ضيقة أصبح يتطلع إلى دور إقليمي ودولي كبير.

في البداية استمر الغرب في تقبل الدور التركي كخادم لمشاريع الغرب في المنطقة، ولكن عندما شعر أن تركيا بدأت في بناء نفسها اقتصاديا وعسكريا باعتمادها على الذات وفي نفس الوقت شرعت في تمدد سياسي وعسكري وثقافي، بدأ يشعر بخطورة الدور التركي على مشروعه في الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى.

بدأ الخلاف الاستراتيجي بين الدولتين يأخذ أشكالا عديدة: تأتي في مقدمته منظومة أس400 الروسية التي اشترتها تركيا، حيث تظل على رأس المشاكل العالقة مع الولايات المتحدة والتي تصر على عدم استخدام المنظومة الروسية في تركيا التي تعتبرها أمريكا تهدد الحلف الأطلنطي.

ومن بين نقاط الخلاف أيضا الدعم الذي تقدمه أمريكا لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، والذي تعتبره أنقرة حزبا إرهابيا حيث ينتمي إلى منظمة حزب العمال الكردستاني والذي يسعى للانفصال عن تركيا وإقامة دولة مستقلة للأكراد.

كذلك يبرز الخلاف بين الدولتين في الموقف من الثورات العربية وبالذات في سوريا حيث تتخذ أمريكا موقفا شبه مؤيد لبقاء الأسد على رأس الحكم هناك بخلاف تركيا التي تريد نظاما جديدا يعيد ملايين اللاجئين إلى ديارهم، خاصة أن تركيا تدفع أثمانا كبيرة من تدفق اللاجئين على أرضها.

وأسفرت هذه الخلافات عن توقيع عقوبات أمريكية على تركيا، وتصعيد بايدن باعتراف الولايات المتحدة لأول مرة بما أطلقت عليه مذابح الأتراك العثمانيين للأرمن.

عودة المياه إلى مجاريها

تحتاج أمريكا تركيا في عدة قضايا كبرى أبرزها: أفغانستان وليبيا.

بالنسبة لأفغانستان فإدارة ترامب لم يكن لديها مانع في استحواذ طالبان على أفغانستان بعد الانسحاب، وبالنسبة لمسألة عودة الارهاب فقد تعهدت طالبان بعدم رجوعه مرة أخرى لأفغانستان، وقد أظهرت طالبان في بيانات عدة أن من بين الدروس التي تعلمتها ودفعت ثمنها، أن انحياز الحركة للجماعات الجهادية في السابق أدى إلى الغزو الأمريكي، وتعرض البلد لاحتلال غربي لأكثر من عقدين وهي لا تريد تكرار التجربة مرة أخرى، وفي نفس الوقت فإن الولايات المتحدة قد أوضحت مرارا، ان الطائرات الأمريكية سوف تعاود قصف أفغانستان مرة أخرى من القواعد الأمريكية في جمهوريات آسيا الوسطى، إذا أعادت القاعدة تمركزها مرة أخرى في افغانستان.

ولكن عندما جاء بايدن لم يجد هذه الاجراءات كافية لمنع عودة الجماعات الارهابية وتمركزها في أفغانستان، وقناعة إدارته هي ادماج طالبان في الحكومة الأفغانية الحالية الأمر الذي ترفضه طالبان بشدة.

هنا عرضت تركيا على الولايات المتحدة للخروج من مأزقها في أفغانستان، أن تتسلم الملف كاملا من أمريكا، والتي تتعهد بموجبه تركيا بضمان ألا تأوي الأراضي الأفغانية أي منظمة تهدد الأمن القومي الأمريكي، وذلك باعتبار أن تركيا دولة إسلامية وتربطها وشائج قوية بباكستان والتي تعتبر الراعي الرسمي والخفي والحقيقي لطالبان، خاصة أن القوات التركية تتواجد بالفعل في أفغانستان في إطار حلف الناتو.

ومما يساعد الولايات المتحدة في هذا الأمر أن تركيا لها تجربة سابقة في الصومال، حيث تقوم القوات التركية في هذه الأراضي بحماية النظام الصومالي، وتمنع تواجد مؤثر لما تعتبره الولايات المتحدة جماعات إرهابية.

ولكن هذا العرض التركي تراقبه روسيا بارتياب لأنه تعتبره جزء من التمدد التركي في آسيا الوسطي حيث ترتبط شعوب المنطقة بالأتراك عقيديا وعرقيا، وفي نفس الوقت رفضته حركة طالبان في بيان رسمي، حيث اعتبرت أن الوجود التركي هو جزء من احتلال الناتو لأفغانستان وأن على تركيا سحب قواتها من هناك.

ولكن الموقف الباكستاني الذي لا يزال غامضا هو الذي سيحسم العرض التركي.

الاحتياج الأمريكي الهام الآخر لتركيا هو في ملف ليبيا.

فمع التواجد الروسي في ليبيا عن طريق دعم حفتر، والذي أعقبه احتلال قوات الفاجنر الروسية لقاعدة الجفرة، الأمر الذي أقلق أمريكا وأوروبا من خطر تواجد عسكري روسي في حوض المتوسط المواجه لجنوب أوروبا لأول مرة، وفتح طريقا للروس إلى التغلغل في وسط أفريقيا وهي منطقة نفوذ فرنسي أمريكي، فكان السكوت والتشجيع الأمريكي على الدعم التركي والتواجد العسكري على الأرض في ليبيا، لدعم حكومة الوفاق ثم حكومة الوحدة الوطنية لتكون هذه القوات التركية سدا منيعا أمام التغلغل الروسي.

ومما يدل على الرغبة الأمريكية من تركيا في هذا الأمر، أن اليوم الذي سبق لقاء بايدن بأردوغان أوفدت تركيا وفدا ضم أركان الدولة التركية إلى طرابلس، ومغزى هذه الزيارة هي التأكيد على التواجد التركي في ليبيا ليكون ورقة مطروحة بجدية على لقاء بادين أردوغان في بروكسل.

 

أعلى