قصة تعريب بلاد المغرب
إن القارئ لما كتب عن تاريخ بلاد المغرب تستوقفه ملاحظة مهمة تتوقف عندها جل
الأبحاث التاريخية وخاصة الفرنسية منها، وهي إدراجهم في مؤلفاتهم مبحثًا خاصًا عن
أسلمة وتعريب المنطقة؟ محاولين الإجابة عن سؤال: لماذا تعربت بلاد المغرب؟[1].
وهذه الأبحاث تنطلق من إقرار موضوعي فرض عليهم ذلك التساؤل، وهو أن المغرب تعرب
وجعل من اللغة العربية لغة ثقافته العالمة منذ دخول الإسلام إلى المنطقة. وهذا
التساؤل يطرح بصيغة الاستغراب والدهشة، خاصة عندما يقارن بحدث تاريخي مهم عرفته
المنطقة ولم ينتج عنه تحول في ثقافتها ولغتها، ألا وهو خضوعها للهيمنة الرومانية
لعدة قرون، فقد لاحظ هؤلاء الباحثون أنه وبمجرد دخول الإسلام إلى المنطقة تعرضت
الثقافة واللغة اللاتينية إلى الاضمحلال بسرعة كبيرة، ولم يعد لهما أثر ابتداءً من
القرن الثاني الهجري.
وهذا الإقرار بتعريب المنطقة منذ فترة طويلة رافقه تأكيد بأن التعريب استهدف
الثقافة العالمة مع احتفاظ اللغات الأمازيغية بدورها التواصلي اليومي مع تطور
تدريجي للدارجة العامة. وبرغم هذا الاتفاق بين الباحثين حول موضوع تعريب المغرب
فإنهم اختلفوا في تحديد العوامل المفسرة لذلك. والدراسة المتعمقة لتاريخ المغرب
وللأبحاث التي أنجزت حوله تجعلني أتوقف عند عدة عوامل، وهي:
أولًا: تتفق الأبحاث التاريخية أن المنطقة لم تعرف لغة موحدة ولم تطور لغة خاصة
بالثقافة العالمة، فكانت اللاتينية هي لغة الكتابة في فترة الفتوحات العربية
الإسلامية، وكانت في الوقت نفسه لغة معزولة غير معتمدة إلا في حدود نخبة ضيقة تعد
على رؤوس الأصابع، ولم تستطع أن تكسب شعور عامة السكان الذين تمسكوا بلغاتهم دون
تطويرها لتصبح لغة الثقافة العالمة. وعندما دخل الإسلام إلى بلاد المغرب وجد هذا
الوضع قائمًا، مما سهل من مأمورية انتشار اللغة العربية التي اعتبرها البربر لغة
الإسلام وأنه يجب تعلمها وإتقانها.
ثانيًا: الفتوحات العربية الإسلامية التي تعد الخطوة المؤسسة للتعريب، فبعد جهود
مضنية استطاع الفاتحون فتح بلاد المغرب وإقناع ساكنتها بالإسلام وقيمه الحضارية،
حيث أقبلوا عليه أفواجًا أفواجًا، خاصة بعد تأسيس مدينة القيروان التي مارست
إشعاعًا حضاريًّا على المنطقة جعلتها محط حج للساكنة الذين أعلنوا إسلامهم بأعداد
كبيرة[2].
كما كان قادة الفتح يتركون في المناطق المفتوحة دعاة يعلمون الناس أمور دينهم، كما
فعل عقبة بن نافع عندما ترك صاحبه شاكرًا في إحدى مناطق المغرب الأقصى[3]،
وأيضًا حسان بن النعمان وموسى بن نصير اللذان أرسلا مع القبائل التي أعلنت إسلامها
مجموعة من الدعاة لنشر تعاليم الإسلام واللغة العربية بين أبنائها[4]،
كما تم دمج أبناء القبائل البربرية في جيش الفتح للمساهمة في عملية الفتوحات، بداية
بعقبة لتصل إلى مستوى تولي القيادة مع حسان بن النعمان وموسى بن نصير[5].
وهذا الدمج كان يهدف إلى إشراكهم في فضل الجهاد وأيضًا تعميق معرفتهم بالقيم
الإسلامية واللغة العربية، نظريًّا وعمليًّا، ليتحولوا إلى معلمين ومرشدين ودعاة
عند رجوعهم إلى قبائلهم. وهذه المشاركة الفعالة في الفتوحات منذ بدايتها جعلت
المغاربة يدركون أنه لابد من تعلم اللغة العربية من أجل فهم الإسلام فهمًا صحيحًا
وتفسيره وتطبيقه على واقعهم الخاص، ومن ثم الفعل الإيجابي في العالمية الإسلامية
الصاعدة.
ثالثًا: بناء المدن وإعمار القائمة منها حيث أصبحت محجًا لكل القبائل المجاورة لها،
وخاصة مدينة القيروان التي مارست كما قلنا سابقًا تأثيرًا كبيرًا على المنطقة ككل،
وكانت الوسيلة للاندماج فيها هي تعلم اللغة العربية، وهذا ما نجحت فيه، لتلتحق بها
مدن تونس وتاهرت وسجلماسة وفاس ونكور...[6].
رابعًا: هجرة القبائل العربية مع الفتوحات والتي استقرت في المنطقة خاصة في
القيروان وما رافقها من انتشار لظاهرة المصاهرة مع قبائل المنطقة، ومما ساعد في ذلك
التشابه الكبير في العادات والتقاليد ونمط العيش، وهذا ما سهل من مأمورية الاندماج،
ونتج عن ذلك ظهور جيل جديد عرف جيل البلديين أو المولدين[7].
وهذا الانصهار والاندماج ظهر تأثيره باكرًا عندما لم يستطع كسيلة أن يفعل شيئًا ضد
ساكنة القيروان بعد أن دخلها، حيث وجد أن العلاقات بين العرب والبربر قد أصبحت
دموية يصعب استهدافها بسوء.
خامسًا: تأثير الحضارة البونيقية حيث أكد جل الباحثين أن هذه الحضارة التي تواجدت
في المنطقة لقرون عديدة تفاعلت بشكل كبير مع ساكنة المنطقة، ولم تستطع الحضارة
الرومانية استئصالها برغم مجهوداتها الكبيرة، فاستمرت اللغة البونيقية في التواجد
في المدن وبعض القرى وفي قصور أمراء البربر وعلى رأسهم ماسينيسا، وحتى عصر سانت
أوغسطين الذي أكد في رسائله عن مدى تغلغل البونيقية في المنطقة، وهذا ما أكده
المؤرخ بروكوب في القرن السادس الميلادي، فهذا التغلغل للغة البونيقية في المنطقة
قد مهد الطريق لانتشار اللغة العربية بكل يسر فيها، وسهل من مأمورية إقبال الأمازيغ
عليها والإبداع من خلالها[8].
سادسًا: بناء المساجد والكتاتيب، حيث تذكر المصادر أن هذا البناء واكب مرحلة
الفتوحات منذ بداياتها وتعمق بعد إسلام المنطقة، بدءًا بجامع القيروان الذي ما لبث
أن اشتد الإقبال عليه، مما فرض بناء مساجد جديدة للعبادة والتعليم في مدينة
القيروان، بل إن كل التابعين الذين أرسلهم عمر بن عبدالعزيز اتخذوا مساجد وكتاتيب
خاصة بهم لتدريس أبناء المدينة ومن حج إليها لطلب العلم. وهذا البناء شمل باقي
المناطق، كما فعل عقبة حيث قام ببناء مجموعة من المساجد أثناء حملته على المغرب
الأقصى مثل مسجد نفيس وغيره[9]،
كما ازدهر دور جامع الزيتونة بتونس الذي تحول إلى أهم مركز علمي في المنطقة، ثم
جامع القرويين الذي تحول إلى منارة علمية عالمية. وحركة البناء لم تتوقف واستمرت في
النشاط مع كل الدول التي ظهرت في المنطقة، كالأغالبة وإمارة تاهرت وبني مدرار
والأدارسة والمرابطيين والموحدين والمرينيين الذين تطور الأمر معهم إلى بناء مدارس
نظامية لعبت دورًا كبيرًا في الحياة الثقافية والعلمية للمغرب.
سابعًا: من الباحثين وخاصة الفرنسيين من يعتبر أن التعريب عرف دفعة قوية مع هجرة
بني هلال وبني سليم، الذين كان لهم دور كبير في فرض العربية على بلاد المغرب[10]،
بمعنى أن هذه الهجرة لو لم تقع لما كان المغرب تعرب بهذا الشكل.
لكن هذا الرأي فيه ضعف منهجي كبير لأنه خلط بين تعريب الثقافة العالمة وبين لغة
التواصل اليومي، فنحن نتحدث عن لغة التعليم والإدارة والثقافة التي كانت أصبحت
ناجزة ورسمية قبل مجيء بني هلال، وكان التأليف والإبداع بها في جميع النواحي قويًّا
ومزدهرًا، بل العكس هو الذي حدث حيث إن تأثير هذه الهجرة كان سلبيًّا جدًّا على هذا
المستوى، بل المصادر تتحدث على أن هذه القبائل لم يكن لها حظ من العلم وكان الجهل
والأمية متوغلين فيها وأنها تلقت تعاليم دينها وأصول ثقافتها من القبائل البربرية.
أما التأثير الحقيقي فكان في لغة التواصل اليومي حيث سرعت من انتشار الدارجة العامة
المتأثرة بالعربية والأمازيغيات.
ثامنًا: الحاجة إلى لغة موحدة لتجاوز حالة التعدد اللغوي السائدة في المنطقة، والتي
لم تساعد القبائل في التوحد تحت راية نظام سياسي واحد، فكل واحدة ترى أن لغتها هي
الأصل وترفض الخضوع للأخرى، لذلك وجدت في اللغة العربية الملاذ لتحقيق الهدف
المرجو، خاصة أنها لغة متعالية عن البعد القبلي، اختارها الله لتكون لغة رسالته
الأخيرة إلى البشرية.
تاسعًا: دور الدعاة الذين دخلوا المنطقة مع بداية الفتوحات أو الذين جاؤوا لاحقًا،
من بينهم شاكر الذي تركه عقبة في منطقة السوس الأدنى[11]
في منطقة سيدي شيكر حاليًا، ومن المؤكد أنه لعب دورًا مهمًا في هذا المجال، وأيضًا
أولئك الذين بعثهم كل من حسان بن النعمان وموسى بن نصير إلى القبائل البربرية
لتعليمهم وإرشادهم، ليأتي دور العشرة من التابعين الذين بعثهم عمر بن عبدالعزيز
لتعليم وتفقيه ساكنة المنطقة، والذين - كما تؤكد المصادر - حققوا نجاحًا كبيرًا في
مهمتهم، حيث تمكنوا من نشر تعاليم الدين الصحيح في صفوف البربر، وما يدل على ذلك أن
مسجد القرويين لم يستطع استيعاب نشاطهم لذلك اتخذ كل واحد منهم مسجدًا خاصًا به[12].
الخلاصة
إن تعريب المغرب تحقق نتيجة تضافر عدة عوامل، لكن يبقى العامل الحاسم والرسمي هو
اقتناع الأمازيغ بأن العربية ضرورية لفهم الإسلام والإبداع من داخل الحضارة العربية
الإسلامية، بحيث تحول هذا الاقتناع إلى شعور عام طاغٍ، لم تستطع اقتلاعه الجهود
التي بذلت في فترة الاستعمار، بحيث يمكن القول إنها دخلت فيما يعرف في علم النفس
باللاوعي الجماعي.
فهذه نقطة الارتكاز الرئيسية التي مهدت الطريق لنجاح باقي العوامل، وهذا هو وجه
الاختلاف الرئيسي مع ما حدث في باقي المناطق التي قبلت الإسلام ولكن دون لغته،
فأصبحت مسلمة ولكن بدون عربية مما جعلها دائمًا خاضعة لسيطرة الترجمة والوساطة التي
يمثلها بعض العلماء المتمكنين من اللغة العربية.
وعندما نتحدث عن التعريب فالمقصود تعريب الثقافة العالمة التي تستخدم اللغة العربية
كأداة للتواصل والبحث المعرفي، والتي أبدع من خلالها المغاربة وشاركوا بشكل فعال في
بناء الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن الثاني الهجري.
وهذا ما يجعل اعتراض البعض على موضوع التعريب الذي يدعو إليه عموم المغاربة غير ذي
معنى ويقوم على تدليس واضح، وهو الزعم بأن التعريب جاء نتيجة قرار سياسي فوقي مفصول
عن الواقع الاجتماعي والثقافي لبلاد المغرب والمراد منه طمس وتشويه الهوية
الأمازيغية ومرتكزها الأساسي اللغة الأمازيغية، مع عدم الاعتراض على إبقاء اللغة
الفرنسية في وضعها المهيمن.
فالأبحاث التاريخية تنفي ذلك وتثبت أن قضية التعريب قضية تم حسمها تاريخيًّا وتنسجم
مع المعطى التاريخي الثقافي للمنطقة، وأن اللغة العربية ارتضاها ساكنة المغرب منذ
الفتوحات لتكون لغة الثقافة العالمة بدون منازع، وأن تجاوز هذا المعطى هو ما يثير
التساؤل والاستغراب.
وبذلك يكون قرار الدولة المغربية الذي اتخذته مباشرة بعد الاستقلال والقاضي بتعريب
التعليم والإدارة وبصفة عامة الثقافة العالمة، قرار خاضع لمعطى موضوعي وتاريخي فرض
نفسه على الحركة الوطنية وليس قرارًا فوقيًّا خاضعًا لهوى أيديولوجي. وبالتالي
الدعوة إلى التعريب - والتي ما زالت قائمة حتى الآن - هي الحالة الطبيعية المنسجمة
مع تاريخ المجتمع المغربي، والدعوة لغير ذلك هي التجني الفعلي على إرادة الشعب
التاريخية والحالية. والصراع الحالي حول التعريب ما هو إلا صراع بين الداعين إلى
الاعتزاز بالشخصية الوطنية وانتمائها الحضاري وبين المستلبين الذين لا يرون الخير
إلا بتقليد واتباع الآخر ولو دخل جحر ضب.
:: مجلة البيان العدد 334 جمادى الآخرة 1436هـ، مارس – إبريل 2015م.
[1]
-Gabrie lcamps, comment la berbérie est devenue le maghreb arabe, revue de l’[1]
occident musulman et de la méditerranée,n35,.p 07 et Georges marçais, la
berbérie musulmane et l’orient au moyen age,p40.
[2]
ابن خلدون، كتاب العبر، م3
ص13،
وأيضًا ابن الأثير، الكامل في التاريخ، م3
ص464.
[3]
ابن عبدالحليم، نص جديد عن فتح العرب للمغرب، تحقيق ليفي بروفنصال، مجلة المعهد
المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، ع2
ص220.
[4]
نفسه، ص223-224،
وأيضًا ابن عداري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، م1
ص42.
[5]
ابن عبدالحكم، فتوح مصر والمغرب، ص228.
[6]
عبدالعزيز غوردو، الفتح الإسلامي لبلاد المغرب:
جدلية التمدين والسلطة، ص68.
www.nashiri.net
[7]
محمد عبده حثاملة، جيل المولدين في المغرب والأندلس، ص75.
[8] E.F.Gautier, Les siécles obscurs du Maghreb, p104.
[9]البكري،
المسالك و الممالك، م2،
ص346.
[10] Mémoire et identité,p135 : - Gabriel camps, Les berbéres.
[11]
ابن عبدالحليم، المصدر السابق، ص227.
[12] المالكي،
رياض النفوس، ص100.