• - الموافق2025/04/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المدن التجارية الإيطالية ودورها في الحروب الصليبية

وكانت مدينة البندقية هي الأقوى بحريًّا، والأكثر جندًا، والأشد فتكًا بالمسلمين، فشاركت في حصار مدينة يافا بمائتي سفينة، وأما معركة السيطرة على عسقلان -مركز الأسطول العبيدي في فلسطين، ومفتاح مصر-، فقد خاضها أسطولها الضخم المكون من 300 سفينة


سبق قيام الحركة الصليبية في الغرب الأوروبي، تقدُّم لافت في صناعة الأساطيل في المدن الساحلية الإيطالية، وظهور هذه المدن كقوى بحرية تجارية في البحر المتوسط، وهو ما استفاد منه مُنظِّمو الحملات الصليبية ضد المسلمين في المشرق، في بلوغ غاياتهم، وفي استمرارهم في تلك الحروب العدوانية الاستئصالية لمدةٍ طويلةٍ.

فمتى ظهرت المدن الإيطالية كقوى بحرية تجارية؟ وأيّ دور لعبته في الحروب الصليبية؟ وماذا كانت دوافعها للمشاركة فيها؟ وماذا استفادت منها؟ هذا المقال يحاول الإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها، والله المستعان وعليه التكلان.    

ظهور المدن الإيطالية على مسرح البحر المتوسط

شهد مطلع القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري، ظهور قوى بحرية جديدة على مسرح البحر المتوسط، إلى جانب القوتين البحريتين التقليديتين: البحرية الإسلامية والبحرية البيزنطية، وتلك القوى البحرية الجديدة هي قوى المدن الساحلية الإيطالية، التي بدأت تتحرك تجاريًّا وعسكريًّا، عبر أساطيلها في ذلك البحر، بعد أن قبع أهل هذه المدن، كغيرهم من سكان غرب أوروبا، في جحورهم لعدة قرون، نتيجة لسيطرة الأساطيل الإسلامية على هذا البحر من جميع جوانبه، وصَوْلتها العظيمة فيه، وسيطرتها على معظم جزره، وغاراتها المتكررة، على الشواطئ الإيطالية؛ حيث تقع أغلب تلك المدن، مثل البندقية (فينيسيا) وبيزا وجنوة وغيتا وبافيا وميلان وأمالفي ونابلي وباري. وهي المدن-الدول، التي بدأت أساطيلها تمخر عباب البحر المتوسط للتجارة والمغامرة والقرصنة.

وكانت أساطيل تلك المدن، على درجات متفاوتة في القوة والتنظيم والعدد، بطبيعة الحال، وكانت كل منها مستقلة عن الأخرى، ويلقب حاكمها بلقب «الدوق». وكانت في طليعة تلك المدن وعلى رأسها جميعًا: مدينة البندقية، الواقعة في شمال غرب إيطاليا على ساحل البحر الأدرياتيكي، والتي بدأت تظهر، آنذاك، كقوة بحرية ضاربة ومرهوبة الجانب في مياه البحر المتوسط، ويلي البندقية، مدينتا بيزا وجنوة، فقد كان أسطول كلٍّ منهما قويًّا ومُنظَّمًا؛ بحيث إنهما تمكَّنتا من غزو مدينة المهدية في ساحل إفريقيا، وحصارها بواسطة 400 سفينة، والظفر بغنائم كبيرة منها، بعد نجاح المهاجمين في اقتحامها، فيما عدا قلعتها، التي اتَّقتهم بدفع فدية نقدية كبيرة، وبالتزام حاكم المدينة تميم الزيري (454-501هـ/1062-1108م)، بعدم مهاجمة سفنهما، أثناء مرورها في المياه الإفريقية. حدث هذا بعد أن كانت أساطيل الشيعة العبيديين، تنطلق من المهدية، وتغزو جزيرة جنوة وغيرها، وتعود بالظفر والغنيمة.

علاقاتها التجارية وأنواع السلع المتبادلة

كان لجميع هذه المدن الإيطالية علاقات تجارية، على درجات متفاوتة، مع القسطنطينية، وأيضًا مع موانئ الشرق الإسلامي، وكانت بينها منافسة شديدة على الأسواق وعلى تصدير واستيراد السلع. فالبندقية، كانت الطرق البحرية بينها وبين القسطنطينية مفتوحة، وكانت تحتكر تجارة الحوض الشرقي للمتوسط، أما بيزا وجنوة، فكوَّنتا بينهما حلفًا للسيطرة على التجارة والملاحة في الحوض الغربي للمتوسط. بينما غيتا (غيطة)، كانت على اتصال مباشر بالقاهرة العبيدية.

ولم ينتصف القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري، إلا وقد صارت التجارة البحرية عامة بين موانئ الشرق وموانئ أوروبا الغربية، تحت سيطرة تجار هذه المدن الإيطالية، في الوقت الذي تراجع فيه دور التجار الشرقيين من العرب والمسلمين، عما كان عليه في السابق، إلى حدّ كبير؛ نظرًا لاستفحال الصراع الطائفي والسياسي بين كلٍّ من الأتراك السلاجقة والشيعة العبيديين، في بلاد الشام ومصر، وعدم اهتمام كلّ منهما -بالتالي- ببناء السفن وركوب البحر للتجارة والفتح، وبخاصة الأتراك السلاجقة.

وكانت سفن تلك المدن الإيطالية تنقل إلى الشرق سِلَع أوروبا الغربية، كالأخشاب والحديد والسلاح والزجاج وغيرها، وتعود مُحمَّلة بسِلَع الشرق، كالقماش والحرير والطراز والتوابل والسكر والعسل وزيت الزيتون والمصنوعات النحاسية والفضية، وغيرها.

ومنذ مطلع القرن الثاني عشر الميلادي/ مطلع السادس الهجري، بعد قيام الحروب الصليبية، واحتلال الصليبيين لبيت المقدس وسواحل الشام، صارت سواحل هذه المدن الإيطالية مركزًا لتجمع الحملات الصليبية القادمة من جميع أرجاء أوروبا الغربية، تمهيدًا لنقلها بواسطة أساطيلها إلى أرض اللبن والعسل (الشام)، وإلى غيرها، فضلاً عن نقل الحُجّاج الوافدين والمدد إلى سواحل فلسطين، ثم نقل المنهوبات والغنائم والحجاج العائدين منها، إلى موانئ غرب أوروبا، واستمر ذلك حوالي قرنين من الزمان.

دور المدن الإيطالية في الحروب الصليبية

لقد كانت المدن التجارية الإيطالية ممثلة بأساطيلها وجنودها وطبقتها التجارية، حاضرةً بقوة في الحروب الصليبية، منذ تدشين البابا أربانوس الثاني لتلك الحروب العدوانية ضد المسلمين بمجمع كليرمونت بوسط فرنسا (488هـ/1095م)، وبخاصة المدن التجارية الإيطالية الكبرى الثلاث؛ وهي: البندقية وبيزا وجنوة، وكانت هي القوى البحرية الأوروبية الأساسية، في ذلك الوقت، إضافةً إلى مدينة مرسيليا في جنوب غربي فرنسا. فلم يكد الصليبيون في الحملة الأولى، يجتازون آسيا الصغرى، ويبلغون شمال الشام، ويحاصرون بوابتها وعاصمة ثغورها (أنطاكية)، من جهة البر، إلا وقد حضرت سفن بعض هذه المدن لمساعدتهم في حصارها واقتحامها من جهة البحر، ثم شاركت معهم في حصار مدن الساحل الشامي بطوله، والمساهمة في قتال الحاميات المسلمة المدافعة عنها، وذلك من أنطاكية وإسكندرونة في أقصى الشمال، حتى غزة وعسقلان في أقصى الجنوب، وصولاً إلى اقتحام هذه المدن بعد فترة قد تطول وقد تقصر، بما كان يصاحب ذلك الاقتحام، في أغلب الأحيان، من مذابح للمسلمين، ومن عمليات سَلْب ونَهْب، وحَرْق وتدمير لمساجد هذه المدن.

ولم يكن بإمكان الصليبيين، الذين كانوا يفتقرون إلى القوة البحرية عند انطلاق الحملات الصليبية، احتلال هذه المدن الساحلية، وأيضًا بعض المدن الداخلية القريبة من الساحل، وفرض سيادتهم على شواطئ فلسطين وغيرها، من دون مساعدة أساطيل تلك المدن، وأيضًا لولا تهاون الشيعة العبيديين، حكّام مصر والشام، والذين كانوا يسيطرون عليها، في النهوض بواجب الجهاد دفاعًا عنها، رغم قوتهم البرية والبحرية ووفرة عددهم وعتادهم. كما لم يكن بالإمكان وصول المدد إلى الصليبيين، من جنود ومؤن وأسلحة وآلات حصار، من بلدانهم في أوروبا الغربية، بعد سيطرتهم على مدن الشام، ما لم تنقلها لهم أساطيل تلك المدن.

المدن الشامية التي شاركت في احتلالها

كانت جنوة أول المدن الإيطالية التي شاركت في الحملة الصليبية الأولى، فقد ساعدت سفنها الصليبيين في احتلال مدينة أنطاكية (491هـ/1098م)، وبيت المقدس (492هـ/1099م)، ثم ساعدتهم بعد ذلك في احتلال مدينتي أرسوف وقيسارية (494هـ/1101م)، ثم في احتلال مدينة عكا أمنع موانئ الشام (497هـ/1105م)، ثم في احتلال مدينة طرابلس (502هـ/1109م)، ثم بيروت (503هـ/1110م). ولم تلبث بيزا أن التحقت بجنوة، فعندما كان الصليبيون يحاصرون بيت المقدس، استطاع البحارة البيازنة أن ينقلوا إليهم، مُؤَنًا وأقواتًا من سفنهم الراسية في الساحل، ثم لم يمر أقل من ثلاثة أشهر على سقوط بيت المقدس في أيدي الصليبيين، إلا وأسطول بيزا يجوب السواحل الشامية، ثم ساعدت سفنها الصليبيين، بعد ذلك، في احتلال مدينة اللاذقية (501هـ/1108م)، ثم في احتلال بيروت (503هـ/1110م)، وذلك بجانب السفن الجنوية.

وظلت البندقية مترددة لعدة سنوات عن المشاركة في الحروب الصليبية؛ إلا أنها لم تلبث أن حسمت أمرها، والتحقت ببيزا وجنوة، فشاركت سفنها في احتلال مدينتي حيفا ويافا (494هـ/1101م)، ثم في احتلال صيدا (504هـ/1110م)، ثم في حصار مدينة عسقلان (517هـ/1123م)، ثم في احتلال مدينة صور (518هـ/1124م).

وكانت مدينة البندقية هي الأقوى بحريًّا، والأكثر جندًا، والأشد فتكًا بالمسلمين، فشاركت في حصار مدينة يافا بمائتي سفينة، وأما معركة السيطرة على عسقلان -مركز الأسطول العبيدي في فلسطين، ومفتاح مصر-، فقد خاضها أسطولها الضخم المكون من 300 سفينة، وشارك فيها15.000 بحار بندقي، وقادها الدوق بنفسه، وانتهت بهزيمة العبيديين وتحطيم أسطولهم، وتمادي الأسطول البندقي في غارته على الشاطئ الجنوبي لفلسطين حتى العريش. وهذا الأسطول البندقي هو نفسه، الذي شارك في اقتحام صور بعد ذلك، كما شارك دوق البندقية بنفسه أيضًا في احتلال مدينة صيدا.

دوافع المدن الإيطالية للمشاركة في الحروب الصليبية

هناك دوافع عديدة دفعت المدن التجارية الإيطالية للمشاركة في الحروب الصليبية ضد المسلمين في المشرق؛ فمنها الدوافع التجارية والاقتصادية، والمتمثلة في الفرص الجديدة للربح، التي ستُتَاح لهذه المدن التجارية في مدن الشرق الإسلامي؛ حيث توجد الأسواق التي تزخر بسلع الهند والصين وجزر الملايو، وبخاصة التوابل، والتي يمكن لتجار هذه المدن الحصول عليها من تلك المدن بسهولة، وبالتالي، نقلها إلى أسواق غرب أوروبا.

ويمكن القول: إن الطبقات التجارية في تلك المدن، والتي كانت من قبل تحلم بالحصول على تصاريح بالتجارة والإقامة في مدن الشرق، قد جاءت الحروب الصليبية لتُحقّق أحلامها تلك ولتعطيها ما تريد وأكثر؛ إذ إن الذي ستحصل عليه الآن ليس منحة من حكّام البلاد، بل سيصبح حقًّا لها؛ لمساهمتها في تلك الحروب. فضلاً عن الغنائم والمنهوبات، التي ستحصل عليها تلك المدن، جراء مشاركة أساطيلها، في اقتحام المدن المسلمة، وما ستحصل عليها أيضًا من امتيازات تجارية في هذه المدن. وهي الامتيازات التي لم تكن تلك المدن توافق على مساعدة الصليبيين، إلا بعد أن تضمن حصولها عليها من قادتهم.

هذا عن الدوافع التجارية والاقتصادية، ثم تأتي بعده الدوافع الدينية، وهي الدوافع الرئيسية، في ظهور هذه المدن كقوى بحرية في المتوسط، ويتمثل هذا العامل في تحمُّس هذه المدن لنصرة «الصليب»، ونشر الكاثوليكية في الشرق، وتمكينها من بيت المقدس، والانتقام من المسلمين (الكفار)، الذين ظلت أساطيلهم تغزو الشواطئ الإيطالية؛ حيث تقع تلك المدن، لعدة قرون، لدرجة أنها (الأساطيل الإسلامية) أجبرت البابوية نفسها في روما على دفع الجزية، في بعض الأوقات، ولم تكن تلك المدن تقل عدوانية وسفكًا لدماء المسلمين، وتنكيلًا بهم، عن بقية الصليبيين.

مصير التجار المسلمين في البحر المتوسط

وهناك أيضًا دافع مُهِمّ آخر، دفَع المدن التجارية الإيطالية للمشاركة في الحروب الصليبية، وهو أنها وجدت أن هذه الحروب ستُتيح لها الفرصة للقضاء على التجار المسلمين المنافسين لها، في تجارة البحر المتوسط، قلب الدنيا وبؤرة التاريخ، وبخاصة تجار مصر والشام، وبالتالي، الاستئثار بالتجارة بين مدن الشرق ومدن غرب أوروبا، والعكس، فتصير، بالتالي، هي الوسيط، وحسب، في تبادل سِلَع هاتين المنطقتين الحيويتين من عالم العصر الوسيط. وذلك ما حدث.

ونتيجة لكل ذلك، فقد وصلت هذه المدن وغيرها إلى ذروة الانتعاش الاقتصادي، وحقَّق تجارها مكاسب طائلة، في تلك الفترة، وبخاصة البندقية، التي كانت عقيدتها في خدمة تجارتها؛ لأنه لم يكن لها مورد دخل آخر غير التجارة. فقد وصلت البندقية، آنذاك، إلى قمة عصرها الذهبي.

وقد استمرت تلك المدن الإيطالية تسيطر على تجارة البحر المتوسط، في ظل منافسة شديدة بين بعضها البعض، وصلت في بعض الأحيان إلى حدّ الاقتتال، كما حدَث بين البندقية وجنوة، وبين جنوة وبيزة، ولم يُضعف من احتكار هذه المدن لتجارة البحر المتوسط، سوى قيام دولة سلاطين المماليك، والتي بقيامها، وفي ظل التمتع بحمايتها، استأنف التجار المسلمون نشاطهم في هذا البحر من جديد، وذلك بعد أن استعادت البحرية الإسلامية مكانتها وقوتها، في عهدهم، وصار لها صولة كبيرة في المتوسط، وتحديدًا منذ عصر السلطان الظاهر بيبرس، الذي تبنَّى سياسة اقتلاع بقايا الصليبيين من سواحل الشام، ونجح في اقتلاعهم فعلًا من العديد من المدن والقلاع، التي كانت تحت سيطرتهم، وعلى رأسها مدينة أنطاكيا، والتي كانت أحد المراكز التجارية لمدينة جنوة في الشرق، وأقوى الإمارات الصليبية المتبقية في الشام بعد أن قضى صلاح الدين على مملكة بيت المقدس.

المكاسب التي حققتها تلك المدن الإيطالية

  حققت المدن التجارية الإيطالية، مكاسب اقتصادية ضخمة، من مشاركتها في الحروب الصليبية ضد المسلمين، فكان بحّارة هذه المدن، يشتركون في عمليات النهب، التي تلي اقتحام الصليبيين للمدن الشامية، وقد مُنِحَ القباطنة الجنويون 15% من الغنيمة التي غنمها الصليبيون بعد اقتحام ميناء قيسارية (494هـ/1101م)، وقُسِّم الباقي على 8.000 بحار وجندي، فنال الواحد منهم 48 دينارًا ذهبيًّا ورطلين فلفل، كما كان أولئك البحارة والجنود، ينالون حصتهم من الفدية النقدية، التي تدفعها بعض المدن الشامية لهم، مقابل فكّ حصارهم عنها.

والأهم من هذا وذاك، هو أن تلك المدن كانت تُمنَح في مدن الشام المحتلة، أحياء ومخازن وأسواقًا وكنائس، وتحصل على امتيازات تجارية وسياسية فيها. فقد أُعطيت جنوة في أنطاكية سوقًا وثلاثين بيتًا وكنيسة، وحصلت على نصف دخل ميناء اللاذقية، ونالت بيزا وأمالفي مثل ذلك في مدن أخرى.

كما حصلت جنوة على امتيازات في مملكة بيت المقدس، وطلبوا من ملكها الصليبي (بلدوين الأول) أن يضعوا في كنيسة «الضريح المقدس»، بالقدس لوحةً (وثيقة) نُقِشَ عليها بحروف ذهبية تلك الامتيازات والخدمات التي قدمتها جنوة للصليبيين، ووافقهم الملك على ذلك.

أما البندقية، فكانت الأوفر حظًّا؛ بسبب مشاركتها بعدد كبير من السفن والرجال. فقد كان نصيبها حيًّا في القدس، وربع ميناء عكا، وثلث ميناء صور، وثلث ميناء عسقلان، ومُنِح التجار البنادقة أيضًا، حقّ الاتجار بحُرّية في المملكة الصليبية في بيت المقدس، وأُعفوا من دفع ضريبة البيع في الموانئ والأسواق، التي كانت تحت سيطرتها. ولم تتوقف مكاسب تلك المدن عند هذا الحد، فقد أصبحت سفنها وسائل نقل للمحاربين، وذلك مقابل أجور يدفعها هؤلاء، غالبًا في صورة منهوبات. وهذه صارت، مع الوقت، عملية مربحة جدًّا.

النتائج الأخرى

هذه الامتيازات التي حصلت عليها المدن التجارية الإيطالية، في الإمارات الصليبية التي أُقيمت في سواحل الشام، وفي مملكة بيت المقدس، جعلت من جالياتها في مدن هذه الإمارات ومدن هذه المملكة، كيانات مستقلة إداريًّا وماليًّا وقضائيًّا، عن السلطات الصليبية، وحوَّلت المدن الشامية الساحلية إلى أسواق تجارية تزخر بسلع الشرق والغرب، وبخاصة موانئ عكا وصور واللاذقية، والتي كانت تصبّ فيها مختلف منتجات بلاد الشام والجزيرة، وكانت تتنافس فيما بينها لاستقبالها، وكانت مدينة عكا، بالذات، مجمعًا للسفن «وملتقى للتجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق»؛ كما قال الرحالة الأندلسي ابن جبير. ولولا صِغَر حجم ساحلها لاستأثرت عكا وحدها بتجارة الشام.

كما كانت مشاركة هذه المدن الإيطالية في الحروب الصليبية عاملًا مهمًّا، في اتساع صناعة السفن في موانئها، وفي تطوير وتنظيم أساطيلها؛ بحيث إن هذه الأساطيل، فاقت الأساطيل الإسلامية، بعد ذلك، من حيث القوة والتنظيم، لدرجة أن صلاح الدين الأيوبي، سلطان مصر والشام، بعد انتصاره على الصليبيين في معركة حطين وتحريره لبيت المقدس من شركهم (583هـ/1187)، اضطر للقبول بعقد هدنة الرملة معهم، بعد تكالبهم عليه في الحملة الصليبية الثالثة، وذلك عندما وجد أن أسطوله أضعف من الأساطيل التي يعتمدون عليها.

وأيضًا لدرجة أن مدينة البندقية، لم تكتفِ باحتكار تجارة القسطنطينية، وما وراءها إلى البحر الأسود في الشرق، وإنما حملت الصليبيين على ظهر أساطيلها إلى القسطنطينية عام 1204م، بدلاً من بيت المقدس، وشاركت إلى جانبهم في اكتساحها، وقتل أهلها، ونَهْب كنوزها، واغتنام بعض أقاليمها، قبل أن يتمكن البيزنطيون من طردها منها بمساعدة الأساطيل الجنوية، بعد ذلك بحوالي ستين عامًا، ومِن ثَم، تحويل تجارتها وتجارة البحر الأسود، إلى مدينة جنوة، المنافس الرئيس والعدو اللدود للبندقية.   

 

 


أعلى