• - الموافق2025/01/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
غزَّة  تاريخٌ مُعمَّدٌ بالدم وشوكةٌ في لهاة الغزاة

وبعد الفتح الإسلامي، استمرت غزة تُشكّل تحديًا للغزاة، وحائط صدّ لهم. وخلال الحروب الصليبية، كانت غزة نقطة إستراتيجية لكلٍّ من الصليبيين والمسلمين؛ حيث كانت المدينة تُستخدَم محطةً رئيسيةً لتجمُّع الجيوش ولإعادة الإمداد؛ نظرًا لموقعها الإستراتيجي الحسَّاس ب


بعد مرور أكثر من 14 شهرًا من العدوان الصهيوني البربري على «قطاع غزة»، الذي لا تتجاوز مساحته 365 كم، والمُحاصَر حصارًا شاملًا منذ زهاء 17 عامًا؛ يقف العالم على أطراف أصابعه دهشةً من صلابة أهل هذه البقعة من الأرض؛ الذين أظهروا لكل العالم بأسًا وجَلدًا وثباتًا قلَّ نظيره في تاريخ الحروب المعاصرة.  

والحق، أنَّ صفحات التاريخ مسطورة بمآثر غزة التي كانت، وما زالت، أرضها ميدانًا لقهر الغزاة منذ فجر التاريخ؛ إذ لا تنفك هذه المدينة الصغيرة -على الضفة الشرقية للبحر المتوسط على مر العصور والأحقاب-، عن تقديم نموذجها المُلهِم في تحدّي الغزاة والطامعين، مُحقِّقةً عن جدارة وصفها بـ«قاهرة الغزاة».

تقع غزة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وتُمثِّل بوابةً لفلسطين، ممّا أكسبَها أهميةً جيوسياسية وعسكريةً فائقةً وحساسةً في صراع القوى، وعمقًا إستراتيجيًّا مُهمًّا في الملاحم الكبرى عبر العصور.

ولبرهنة ذلك، سنستعرض كيف أصبحت غزة، عبر التاريخ، ميدانًا للثبات والتحدّي ومقاومة الغزاة في ضوء الصراع الحالي الذي يعكس استمرار هذه السردية التاريخية.

فمنذ العصور القديمة التي سبقت ميلاد المسيح -عليه السلام-، وتحديدًا في العصر البرونزي، كانت مدينة غزة إحدى أكثر المدن التي قاومت تقدُّم جيوش الملك تحتمس الثالث -أعظم ملوك مصر القديمة-، والذي سعَى إلى بَسْط سلطانه على مدينة غزة؛ نظرًا لموقعها الإستراتيجي الذي يُعدّ جسرًا بريًّا بين مصر وآسيا. وعلى الرغم من تمكُّنه من السيطرة عليها في نهاية المطاف؛ إلا أن غزة احتفظت بقَدْر كبير من الاستقلال الذاتي، واستمرت في لعب دور مُهِمّ باعتبارها مركزًا تجاريًّا؛ حيث كانت تربط التجارة بين مصر وبلاد الشام وبلاد الرافدين.

وفي القرن الثامن قبل الميلاد؛ أصبحت غزة هدفًا للغزاة الآشوريين الذين سعوا إلى توسيع إمبراطوريتهم في الشرق الأوسط؛ حيث قاد الملك الآشوري «تغلث فلاسر الثالث» حملات عسكرية ضد مدن بلاد الشام، بما في ذلك غزة، ورغم سقوطها تحت سيطرتهم، إلا أن سكانها لم يرضخوا بسهولة؛ فقد أظهرت المدينة مقاومةً شرسةً، واستمرت في القيام بدورها المتميز، والذي تمثَّل في كونها مركزًا تجاريًّا حيويًّا، مما جعل الآشوريين يتعاملون معها بحذر.

ومع سقوط الإمبراطورية الآشورية، دخلت غزة تحت سيطرة الإمبراطورية الفارسية في القرن السادس قبل الميلاد؛ إلا أنها استمرت في التمتع بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي، والازدهار الاقتصادي الذي فرضته لنفسها؛ حيث لم تكن مجرد مدينة محتلة، بل كانت أشبه بشريكٍ اقتصاديٍّ مُهمّ في الإمبراطورية.

وفي فترة دخول الإسكندر الأكبر إلى فلسطين؛ أصبحت غزة واحدة من آخر المدن التي وقفت في وَجْه جيشه الذي «لا يُقهَر»؛ حيث استغرقت محاولات الإسكندر للسيطرة على غزة عدة أشهر من الحصار العنيف، ورغم نجاحه في النهاية؛ إلا أن المدينة كانت قد أنهكته، وأبطأت تقدُّمه نحو مصر، على نحوٍ يُظْهر كيف أن هذه المدينة -رغم صِغَر حجمها- كانت عقبةً أمام أعظم القادة العسكريين.

وبعد وفاة الإسكندر، أصبحت غزة جزءًا من المملكة «البطلمية»، وهي فترة كانت مليئة بالتحديات؛ حيث تعرَّضت المدينة لعدة محاولات غَزْو مِن قِبَل «السلوقيين»؛ إلا أن صمود أهل غزة كان دائمًا هو الحاسم، فقد استمرت المدينة في لَعِب دور محوري في التجارة بين الشرق والغرب، مما أسهَم في تعزيز مكانتها الاقتصادية والثقافية.

وبعد الفتح الإسلامي، استمرت غزة تُشكّل تحديًا للغزاة، وحائط صدّ لهم. وخلال الحروب الصليبية، كانت غزة نقطة إستراتيجية لكلٍّ من الصليبيين والمسلمين؛ حيث كانت المدينة تُستخدَم محطةً رئيسيةً لتجمُّع الجيوش ولإعادة الإمداد؛ نظرًا لموقعها الإستراتيجي الحسَّاس بين مصر والشام، الأمر الذي جعلها ميدانًا للصراع المتكرر بين المسلمين والصليبيين.

ورغم سيطرة الصليبيين على بعض المدن الفلسطينية في تلك الفترة؛ إلا أن غزة ظلت تقاوم محاولاتهم للاستحواذ عليها. ونظرًا لأهميتها البالغة فقد أدرك القائد البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي، تلك الأهمية لمدينة غزة، وكان أحد أهم القادة المسلمين في تلك الفترة الذين اهتموا بتحصينها والاستفادة من الدعم والمَدد من سكانها المحليين الذين أبدوا شجاعةً فائقةً في الدفاع عن مدينتهم.

وخلال فترات عديدة من تلك الحقبة، كانت المعارك حول غزة جزءًا من الصراع الأكبر للسيطرة على القدس، وكان لصمود المدينة دور كبير في إحباط خطط الصليبيين للهيمنة على فلسطين بأكملها.

وفي مطلع عهد المماليك، وتزامنًا مع الإرهاصات التي رافقت تقدُّم جحافل المغول باتجاه مصر بعد سيطرتهم على العراق والشام؛ كانت مدينة غزة إحدى المحطات المهمة في سلسلة العمليات العسكرية التي سبقت معركة عين جالوت الخالدة بقيادة المظفر قطز (حدثت في 25 رمضان 658هـ، الموافق 3 سبتمبر1260م)؛ حيث هزمت طلائع الجيش المملوكي بقيادة الظاهر بيبرس الحامية التتارية على غزة؛ الأمر الذي كان له دور كبير في رفع معنويات الجيش المملوكي، وإضعاف قوة المغول في المنطقة، كما أن هذا الانتصار كان مُقدِّمة للانتصار في معركة عين جالوت التاريخية التي دارت بعدها بأيام قليلة في موضعٍ قرب مدينة غزة، وأسفرت عن الهزيمة الكبرى للتتار في مواجهة المماليك، ما أوقف تقدُّمهم في الشرق الأوسط، وأمَّن مصر والشام من خَطرهم.

ومع وصول المدّ العثماني إلى فلسطين في القرن السادس عشر الميلادي؛ أصبحت غزة جزءًا من الإمبراطورية الصاعدة، ورغم أن مدينة غزة شهدت في تلك الفترة استقرارًا نسبيًّا، مقارنةً بالفترات السابقة؛ إلا أن ذلك لم يمنع أن تظل هدفًا للمحاولات الأوروبية للسيطرة عليها، بغرض السيطرة على الطرق التجارية المؤدية إلى آسيا؛ حيث تعرَّضت المدينة لهجمات مِن قِبَل القوى الأوروبية المتنافسة، ولكنها نَجَت من التبعية المباشرة لأيّ قوة استعمارية، واستمرت في مقاومة كلّ محاولات للسيطرة الأجنبية بصورة تستحق الإعجاب والدهشة.

ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية؛ دخلت غزة مرحلة جديدة من الصراع خلال الحرب العالمية الأولى؛ حيث كانت مسرحًا لمعارك بين القوات العثمانية والبريطانية. وعلى الرغم من التفوق البريطاني، إلا أن المقاومة المحلية والعثمانية في غزة أبطأت تقدُّم البريطانيين نحو السيطرة على فلسطين لفترةٍ من الزمن.

وبعد الحرب العالمية الأولى؛ خضعت غزة للانتداب البريطاني، وهي فترة شهدت تصاعدًا في التوترات بين الفلسطينيين والقوات البريطانية، وكانت غزة في قلب المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني؛ وشهدت انتفاضات ومظاهرات عدة ضد المحتل البريطاني.

ومع قيام دولة الكيان العبري المحتل باسم «دولة إسرائيل» عام 1948م؛ أصبحت غزة مركزًا للصراع العربي الإسرائيلي؛ فبعد حرب 1948م، أصبحت غزة تحت الإدارة المصرية، ولكنها ظلت هدفًا مستمرًّا للهجمات الإسرائيلية، حتى تمكَّن الجيش العبري من احتلالها فيما يُعْرَف في الاصطلاح السياسي والإعلامي بـ«حرب النكسة» سنة 1967م.

ومنذ مطلع الألفية الجديدة، تحوَّلت غزة إلى رمز للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقد أجبرت عمليات المقاومة الفلسطينية المحتل على قرار الانسحاب الأُحادي منها عام 2005م، وهو الأمر الذي تبيَّن لقادة الاحتلال بعد ذلك أنه كان خطأ إستراتيجيًّا فادحًا، فما حدث لاحقًا لم يكن في الحسبان؛ حيث أصبح العمل العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة أكثر أريحية، وهو ما أفضى بعد ذلك إلى نشوب عدة حروب مُدمّرة شنَّتها إسرائيل على القطاع، كان أبرزها في الأعوام: 2008، 2009، 2012، 2014، 2021م، وأخيرًا الحرب الحالية التي لم تضع أوزارها بعدُ منذ السابع من أكتوبر 2023م وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، وهي الحرب الأطول في تاريخ الكيان المحتل منذ إعلان قيام دولته قبل 76 سنة.

الآن، وبعد مرور أكثر من 14 شهرًا على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، مارَس فيها جيش الاحتلال أشنع المذابح والإبادات الجماعية بحقّ المدنيين والأطفال والنساء، والنازحين والعجزة، والفِرَق الطبية، وفرق الإغاثة، وكل ما يَدُبّ على الأرض، وحوَّل القطاع إلى كومة ركام، بما في ذلك المشافي والمدارس ومخيمات النزوح، والمساجد، وكل مظاهر الحياة، بوحشيةٍ متعمَّدة لم يشهد العالم لها نظيرًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن الحصار الخانق واستخدام التجويع سلاحًا قاسيًا ضد المدنيين.

لكن المُدهش لكل التوقُّعات؛ أن هذه المدينة الصغيرة المُحاصَرة والمُدمَّرة على ضفة المتوسط، ما تزال حتى الآن قادرة على الصمود والمقاومة والإصرار على التشبث بالأرض تحت حمم الموت، وبين دَوِيّ القذائف وزخات الرصاص، وعشوائية القتل والتنكيل اليومي تحت سَمْع العالم وبصره!

ذلك الثبات، وتلك الروح المتشامخة على الموت، رغم كل تلك القسوة والفظاعة في البطش الذي يساوي بين المحارب والمسالم، والمقاوم والأعزل، والكبير والصغير، والبالغ والرضيع، لا يمكن بحالٍ تفسيره بالحيثيات المادية؛ لأن ما يحدث شيءٌ يكاد -من فرط استثنائه- لا يُصدَّق؛ يدلل على ما يفعل الإيمانُ في قلوب المستضعفين بأن لهم الغلبة، وأن قوة الحق فوق سطوة القوة.

النموذج الذي تُقدِّمه غزة اليوم في الرسوخ والثبات والتضحية والاستعصاء على الانكسار، رغم الجبروت الغاشم، هو نموذجٌ مُلْهِم لكلّ الشعوب المقهورة تحت نير الاحتلال.

لقد أثبتت غزة أنها لا تُقاوم فقط، بل تنقش على حائط الدهر تاريخًا معمَّدًا بالدم، كما تُثبت من جديد أنها ما تزال أرض البطولات والملاحم الكبرى، وشوكة في لهاة الغزاة قديمًا وحديثًا. 

 

أعلى