• - الموافق2025/01/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
لن يُنكَب الفلسطينيون  في أرضهم مرتين

لقد نُكِبَ الصهاينة هذه المرة، وخلال الـ15 شهرًا -هي مدة الحرب بين الطرفين- خسرت إسرائيل قوة بشرية لم تخسرها منذ تأسيسها؛ حيث انهارت أرقام الهجرة إلى إسرائيل، كما تصاعدت الهجرة العكسية بنِسَب لم يسبق لها مثيل منذ تأسيسها.


كان الهدف الأساس للعصابات الصهيونية من حرب 1948م هو تهجير الفلسطينيين، وإنهاء وجودهم في أرضهم، فاتَّخذت تلك العصابات شعار (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)؛ للترويج لفكرتهم؛ فخرج زعماء الحركة الصهيونية مثل «إسرائيل زانجويل»، و«ثيودور هيرتزل» لنشر تلك الفلسفة الديمغرافية؛ لإقناع الرأي العام العالمي بعدالة قضية الهجرة إلى «أرض الميعاد»، كما يحب الصهاينة أن يصفوها؛ لأنها أرض خالية وهم شعب مُشتّت، مضطهَد يحتاج إلى حماية!

والحقيقة أن أول مَن روَّج لتك العبارة هو القس الإنجليزي «ألكسندر كيث»؛ الذي قام في 1839م بزيارة لفلسطين «العثمانية»، وكتب في 1843م بأن اليهود تائهون في العالم، ولا مكان لهم، فهم شعب بلا دولة، وتوجد لهم دولة بلا شعب.

ومما يدلّ على تهاوي وضحالة هذه الادعاءات أنّ أرض فلسطين أنبتت على طول تاريخها شعبًا سامقًا في السماء، راسخًا في أرضه، متجذرًا في تربتها، كما الأشجار لا يستطيع فراقها، إلا أن يُقتلَع منها، فيعود لتنبت بذروه فيها. فلم تكن فلسطين أبدًا أرضًا بلا شعب، لكنّ اليهود سعوا في جَعْل تلك الفرية الخيالية حقيقة واقعية على الأرض، فكانت حرب 1948م، أو «النكبة» كما أُطلق عليها.

بين حرب نكبتنا وحرب نكبتهم

كانت نكبتنا عشية حرب 1948م، التي استمرت قرابة الـ15 شهرًا. بدأت الحرب بشكلٍ فِعْليّ في 15 مايو 1948م بعد إعلان الصهاينة قيام دولتهم المزعومة إسرائيل في 14 مايو 1948م، وانتهت رسميًّا بتوقيع اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية المجاورة في عام 1949م.

شاركت العديد من الجيوش العربية في حرب 1948م، ومنها مصر التي شاركت بعشرة آلاف جندي، تحت قيادة اللواء أحمد علي المواوي، وزادت عدد الجنود إلى نحو عشرين ألفًا. والجيش الأردني أيضًا الذي تكوَّن من أربعة أفواج ضمَّت نحو ثمانية آلاف جندي، ارتفع عددهم إلى 12 ألفًا خلال الحرب.

كما شاركت المملكة العربية السعودية في هذه الحرب بنحو 3200 مقاتل، قادهم العقيد سعيد بيك الكردي ووكيله القائد عبد الله بن نامي، وقاتلت بجانب القوات المصرية. ناهيك عن القوات السورية والعراقية واللبنانية... هذا غير المتطوعين.

بدأت الحرب بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين للتصدي لإعلان قيام إسرائيل، وحينها فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرار وقف إطلاق النار يوم 10 يونيو/حزيران 1948م، وحظر تزويد أيٍّ من أطراف الصراع بالأسلحة، توقَّف القتال بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية النظامية عدة أسابيع.

لكنَّ إسرائيل خرقت وقف إطلاق بعد أن جمعت عُدّتها، والتأم شمل قوتها؛ فلما نالت بُغْيتها تدخَّل مجلس الأمن مرة أخرى ليُثبِّت المكاسب التي حصلت عليها إسرائيل، وفرَض وقف إطلاق النار مرة أخرى على الطرفين، وقَبِلَ العرب بذلك، وكان هذا القبول بمثابة اعتراف بالهزيمة، ثم انتهت الحرب فعليًّا بتوقيع اتفاقيات الهدنة مع كلّ دولة عربية على حدة.

فوقَّعت مصر اتفاق الهدنة في فبراير 1949م، وتبعتها لبنان في مارس 1949م، ثم الأردن في أبريل 1949م، فسوريا في يوليو 1949م. وهكذا سقطت إسرائيل فوق أرض فلسطين كثمرة ذات أشواك من شجرة خبيثة.

كان من نتائج تلك الحرب أن صدَّق الفلسطينيون بعد هزيمة الجيوش العربية مجتمعةً أنها مجرد جولة، وأن خروجهم من ديارهم مُؤقَّت بأيام أو شهور، ثم تجتمع الجيوش مرة أخرى لتقتل عدوهم فيعودون إلى أرضهم.

وتشير التقديرات إلى أن عدد الفلسطينيين الذين قُتِلُوا خلال حرب 1948م يتراوح بين 13.000 إلى 15.000 شخص. ويشمل هذا العدد المدنيين والمقاتلين الذين قُتلوا في المعارك أو المجازر التي وقعت في عدة قرى ومدن فلسطينية، مثل مجزرة دير ياسين والطنطورة.

لكنّ الذي أعطى للهزيمة لباس النكبة الحقيقي هو عدد المُهَجَّرين الذين خرجوا من ديارهم؛ فقد أشارت بعض التقديرات إلى أنهم ما بين 750.000 إلى 900.000 فلسطيني، خرجوا يومها ولم يعودوا إلى الآن. 

أما نكبة الصهاينة فبدأت بعدما يقرب من 75 عامًا؛ حيث فجاءَهم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام 2023م، من فوقهم ومن تحت أرجلهم؛ فتسلل جنود المقاومة الفلسطينية إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة، فقتلوا وأسروا ما لم تقدر عليه جيوش عربية بأكملها، وعُدَّ هذا أكبر هجوم على إسرائيل منذ عقود.

لقد أفادت هيئة البث الإسرائيلية -والحق ما شهد به الأعداء- أن عدد القتلى الإسرائيليين وصل إلى 1538 خلال الشهرين الأوليين من بداية طوفان الأقصى، في حين تجاوز عدد الجرحى 5 آلاف. فضلاً عن عدد الجرحى والأسرى الذي بلغ عددهم أكثر من مائتي شخص في بداية المعركة.

لقد نُكِبَ الصهاينة هذه المرة، وخلال الـ15 شهرًا -هي مدة الحرب بين الطرفين- خسرت إسرائيل قوة بشرية لم تخسرها منذ تأسيسها؛ حيث انهارت أرقام الهجرة إلى إسرائيل، كما تصاعدت الهجرة العكسية بنِسَب لم يسبق لها مثيل منذ تأسيسها.

وبحسب بيانات المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء؛ فقد هاجر 82.7 ألف شخص إلى خارج إسرائيل في 2024م، فيما هاجر في عام 2023م نحو 55 ألفًا و300 يهودي، بمعدل 5.7 لكل 1000 نسمة، وهو ما يعكس ارتفاعًا مقارنةً بعام 2022م؛ حيث هاجَر للخارج 38 ألف إسرائيلي، بزيادة 217% عن العام 2022م.

مع الأخذ بالاعتبار أن الأرقام الحقيقية ربما تزيد عن ذلك بكثير، وقد عُلِمَ عن القوم الكذب، ولا حاجة لديهم لإضعاف معنوياتهم أكثر مما هي فيه.

وفي المقابل، لم يُنْكَب الفلسطينيون في أرضهم مرتين؛ بل تجذّروا بأرضهم، وعادوا كالطوفان إلى ديارهم في مسيرة اقتلعت كلّ أحقاد وغطرسة شانئيهم، وأصابت أعداءَهم بلوثة في عقولهم. فقد خرج مئات الآلاف من غزة عائدين إلى بيوتهم مُكبِّرين مُهلِّلين فَرِحين بنصرهم، بعد الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار الذي عُدَّ بالنسبة لإسرائيل إقرارًا بالهزيمة، كما كان قبول العرب بوقف إطلاق النار عام 1948م إقرارًا بهزيمتهم.

 واليوم يتوعدهم الرئيس الأمريكي العائد إلى البيت الأبيض بالتهجير، ويُمَنّيهم بالعيش الرغيد بدول الجوار، وما يَعِدُهم إلا غرورًا.

«الآن نغزوهم ولا يغزوننا»[1]؛ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أربعة عشر قرنًا بعد أن انسحب الأحزاب من حول المدنية النبوية. واليوم نحن نُردّدها خلف رسول الله: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا»، ولن يُنْكَب المؤمن من جُحْر واحد مرتين.


[1] صحيح البخاري (٤١١٠).

 

  

أعلى