• - الموافق2025/01/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من عقيدة جباليا إلى خطة الجنرالات...   هل هُزِمَت غزة؟!

واللافت في تعقيبات السياسيين الصهاينة على نهاية الحرب ما جاء على لسان رئيس مجلس الأمن القومي السابق الجنرال «غيورا آيلاند» صاحب خطة الجنرالات لترحيل سكان شمال القطاع، الذي قال: «حماس لم تستطع فقط منع إسرائيل من تحقيق أهدافها، بل أيضًا حقَّقت أهدافها، وأهم


لا يمكن توصيف التفاصيل الدقيقة للحرب التي اندلعت بين المقاومة الفلسطينية والدولة العبرية منذ السابع من أكتوبر عام 2023م بناءً على الأرقام التي خرجت من كلا الطرفين لبناء نظرة إستراتيجية حول مستقبل الصراع الذي يمتدّ تاريخه إلى قرون مضت؛ منذ أن رفَع الصحابي الجليل بلال بن رباح -رضي الله عنه-، أول أذان في المسجد الأقصى بعد الفتح العُمري للقدس المحتلة عام 15 هجرية/ 636 ميلادية.

فعقيدة «الضاحية الجنوبية» التي ابتكرها غادي آيزنكوت عام 2006م؛ لتدمير بيروت، ومعاقبة المدنيين على احتضان حزب الله عام 2006م؛ كانت تعتمد على الاستخدام غير المتكافئ للقوة؛ بهدف إلحاق أكبر ضرر بالغ بالبنية التحتية والسكان، وليس فقط في القواعد والأهداف العسكرية.

هذه المنهجية استخدمتها الدولة العبرية في حروبها باستمرار؛ بهدف التهجير وإخلاء الأرض من سكانها؛ استمرارًا لطبيعة أهدافها المستقبلية التي شكَّلت الحلم اليهودي بـ«إسرائيل الكبرى»؛ الذي لطالما نادت به تصريحات «بتسائيل سموتريتش» و«إيتمار بن غفير» حلفاء رئيس الوزراء الصهيوني «بنيامين نتنياهو» في الائتلاف الحكومي الذي قاد الحرب على قطاع غزة.

وضمن مقابلةٍ أجرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» مع «غادي أيزنكوت» بتاريخ 3 أكتوبر 2008م، وردًّا عن سؤاله حول ما إذا كان يدعو هيئة الأركان العامة للجيش الصهيوني والمؤسسة السياسية إلى فرض عقوبات صارمة على أيّ قرية لبنانية تُطلَق منها النيران؟ قال أيزنكوت: «هذا ليس مجرد اقتراح، بل هو خطة تمَّت المصادَقة عليها بالفعل».

العقيدة العسكرية الصهيونية التي تعتمد على التدمير والتهجير، استُخدمت في قطاع غزة طوال أشهر الحرب، ليس لاستهداف المقاومة، بل لاعتبار السكان المدنيين طرفًا في المعادلة العسكرية، ومعاقبتهم بصفتهم الحاضنة التي تُوفّر الإسناد للمقاومة؛ لذلك تم استهدافهم ومحاصرتهم وتصفية وإصابة عشرات الآلاف منهم؛ من خلال استهداف الأحياء المدنية وتدمير المجتمعات الحضرية، ولا تمثل عقيدة الضاحية فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، بل تعكس تحولًا خطيرًا نحو عسكرة كاملة للصراع ضد المدنيين.

وترتكز أُسس العقيدة القتالية العبرية على مجموعة مبادئ؛ من أهمها: التدمير التامّ للمناطق المستهدفة، وهذا الأمر شهدناه في شمال قطاع غزة، والهدف من ذلك العقاب الجماعي للمدنيين وتدمير سُبل العيش في المنطقة المستهدَفة؛ لمنع السكان من العودة إليها.

أما المبدأ الثاني في هذه العقيدة؛ فهو استهداف التهجير القسري للسكان، وإخلاء المناطق المستهدفة، وتغطية ذلك بمُبرّرات مختلفة؛ بهدف تضليل الإعلام الدولي، فقد اعتبر الجيش الصهيوني طوال حرب غزة السكانَ أهدافًا مشروعة لعملياته العسكرية.

وتهدف عقيدة التدمير التي تتبعها آلة الحرب الصهيونية إلى تدمير المنشآت الحيوية والبنية التحتية مثل المدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء؛ بهدف تعطيل الحياة اليومية، وإجبار السكان على المغادرة، ومنع محاولات التأقلم وإعادة الإعمار. 

كما فرضت خلال الحرب ممرات محددة لخروج السكان من مناطق العمليات العسكرية؛ بهدف التحكم والسيطرة، وممارسة الإذلال؛ لإجبارهم على عدم العودة للمناطق التي تم تهجيرهم منها.

واستخدم الجيش الصهيوني الحرب النفسية عبر الإعلام لبثّ الخوف والرعب ونشر الإحباط في صفوف المدنيين، والترويج لروايات هدفها تشكيك المدنيين في قدرتهم على الصمود، وتفكك المقاومة وضعفها، وكان الهدف من كل ذلك ترسيخ واقع جديد في قطاع غزة يعتمد على الإزالة الكاملة للبنية المجتمعية الفلسطينية. 

لكن رغم الاستنزاف الكبير في هذه الحرب للسكان والمقاومة؛ إلا أن الدولة العبرية واستجابةً للعديد من الضغوط والمتغيرات الداخلية والخارجية؛ اضطرت للموافقة على وقف إطلاق النار، والموافقة على شروط المقاومة الفلسطينية التي حددتها بثلاثة شروط رئيسية؛ وهي: الانسحاب الصهيوني الكامل من قطاع غزة، وإطلاق سراح الآلاف من الأسرى؛ فمقابل كل أسير صهيوني مدني يتم إطلاق 30 أسيرًا فلسطينيًّا، ومقابل كل أسير صهيوني عسكري 50 أسيرًا فلسطينيًّا من ذوي الأحكام العالية.

 كما وافقت الدولة العبرية على خطة إعادة الإعمار وفق رؤية محلية فلسطينية خالصة، ولذلك فإن حسابات الربح والخسارة في هذه المعركة لا تَفرضها الأرقام، بل يمكن قياسها فقط بإفشال المخطط الصهيوني لتهجير سكان قطاع غزة، وبذلك تُعدّ هذه الحرب أُمّ الحروب في الصراع الفلسطيني اليهودي على أرض فلسطين؛ لأنها المرة الأولى التي تخترق هجمات المقاومة الفلسطينية القواعد العسكرية الصهيونية منذ عام 1948م، وتخسر آلة الحرب الصهيونية ميزان الردع أمام المقاومة، وبذلك فقدت الدولة العبرية القدرة على حسم نتائج هذه الحرب لصالحها.

وهذا الأمر وصفه الكاتب السياسي الصهيوني في مقال نشرته صحيفة «هأرتس» العبرية بـما يسمى «الإذلال الكبير». أما رئيس الموساد السابق «تامير باردو» وفي تصريح للقناة 12 العبرية، فقد علّق على نتائج الحرب بالقول: «الحرب لا تُكسَب فقط في ميدان المعركة، فالميدان هو الجزء الأول منها، لكنّ الجزء الأساسي هو نهايتها»، مشيرًا إلى أن حركة حماس «احتفظت بقوتها، وأن ما يجري الآن يؤكد وجودها في كل مكان، وسيطرتها على القطاع رغم الحرب الطويلة».

واللافت في تعقيبات السياسيين الصهاينة على نهاية الحرب ما جاء على لسان رئيس مجلس الأمن القومي السابق الجنرال «غيورا آيلاند» صاحب خطة الجنرالات لترحيل سكان شمال القطاع، الذي قال: «حماس لم تستطع فقط منع إسرائيل من تحقيق أهدافها، بل أيضًا حقَّقت أهدافها، وأهمها البقاء في الحكم».

لم تكن معركة الردع بين المقاومة الفلسطينية والدولة العبرية هي العنوان الوحيد في الحرب، بل أيضًا فقدان الدولة العبرية لدورها الوظيفي في المنطقة؛ بصفتها قاعدة استخبارات متقدمة للمنظومة الغربية بكاملها، وقوة ضاربة متقدّمة لحماية المصالح الغربية. وهذا الأمر أكَّدت فشله بصورة بالغة الجدارة المقاومة الفلسطينية، سواء من خلال الخسائر التي تكبَّدها الجيش الصهيوني، أو الفشل السياسي الذي مُنِيَتْ به المنظومة السياسية العبرية على المستوى العالمي، أو من خلال إغراق الاقتصاد الصهيوني في أزمة استنزاف ربما تستمر لسنواتٍ مقبلة، فبحسب المحاسب العام في وزارة المالية الصهيونية؛ فقد ارتفع الدَّيْن العام للدولة من 60% عام 2022م إلى 69% العام الحالي، وبلغت تكاليف الحرب خلال العام 2024م حوالي 114 مليار شيكل، منها 100 مليار نفقات عسكرية، و14 مليار نفقات مدنية، و30 مليار شيكل أُنفقت في عام 2023م لتغطية نفقات الحرب ليبلغ مجموعات نفقات الحرب 144 مليار شيكل.

ويقول المحلل الاقتصادي «شلومو تايتلبويم»، في مقال له في صحيفة «كالكاليست»: «إنه على الرغم من فرحة الحكومة والأوساط الاقتصادية بنسبة العجز المعلنة، فإن هذه النسبة ليست مدعاة للفرح؛ لأن 6.9% هي نسبة عالية، ولا يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي حتى في ظروف طبيعية تحمُّلها».

أما على الصعيد السياسي الداخلي؛ فإن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار أطلق العنان لصناع السياسة في الدولة العبرية للبدء برسم سيناريوهات مرتبطة بمتغيرات مختلفة في المنطقة، فعلى الصعيد الداخلي يعاني الائتلاف الحاكم برئاسة نتنياهو من هشاشة كبيرة؛ بسبب استقالة «إيتمار بن غفير» من الحكومة، وذلك بسبب رفضه للصفقة، بينما يُهدّد وزير المالية «سموتريتش» باتخاذ نفس الخطوة في حال اتجاه نتنياهو لإكمال المرحلة الثانية من الصفقة، وبذلك يُوضَع نتنياهو بين مطرقة الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» الذي يريد إغلاق فاتورة الحرب والانشغال بالمواجهة مع الصين والحرب الأوكرانية وأزمات واشنطن الداخلية، وبين سندان «سموتريتش» الذي يريد أن تتواصل الحرب لتحقيق أهدافه باحتلال لبنان وسوريا وسيناء وبناء «إسرائيل الكبرى»، متجاوزًا الحدود التي وضعتها واشنطن للدور الوظيفي للدولة العبرية.

لقد أظهر ترامب في عدة تصريحات انزعاجه من حروب نتنياهو المتواصلة لإنقاذ نفسه من العديد من الملفات القضائية التي تنتظره، لا سيما حينما أعاد نشر مقطع فيديو للأكاديمي الأمريكي «جيفري ساكس» الذي اتهم «نتنياهو» بجرّ واشنطن لحروبه الخاصة لإنقاذ نفسه.

أما آخر تصريحاته فكان حينما سأله أحد الصحفيين عن إمكانية فشل المرحلة الثانية من الصفقة، وتلميحه بالقول: «هذه حربهم، وليست حربنا»، وتفسير ذلك هو أن ترامب يرى أن هذه الحرب لن تتحمل فاتورتها واشنطن بعد الآن، فقد أوضح بذلك أن الحروب ليست على جدول أعماله، ويريد تسوية في الشرق الأوسط هدفها بالدرجة الأولى «السلام الاقتصادي» على حد وصف ستيف ويتكوف مبعوث ترامب للشرق الأوسط الذي لم يستبعد أن يزور غزة.

يقول البروفسور «إيتان غلبواع»، الخبير في الشؤون الأمريكية في تصريح لصحيفة «معاريف»: «إن ترامب يعرف نتنياهو، ولا يثق فيه، ولا يستطيع الاعتماد عليه»، لذلك أرسل إلى هنا ستيف ويتكوف، الموفد الخاص إلى الشرق الأوسط، كي يشرح له أن ترامب لن يقبل أيّ حيلة لإفشال وقف إطلاق النار وإغلاق هذه الحرب».

وبعد هذه الزيارة فقط، أرسل نتنياهو رئيس الموساد، ورئيس الشاباك، ومندوب الجيش، إلى الدوحة لإنهاء الاتفاق، وشرح لـ «بن غفير» و«سموتريتش» أنه لا يوجد مفرّ، ويجب الموافقة على ما يريده ترامب من أجل الحصول منه على مواقف مؤيدة إزاء موضوعات أُخرى، كإيران والضفة الغربية.

لكن حتى هذا الأمل بتلك المواقف المغايرة يجب التعامل معه بحذر. ويعتقد «غلبواع»، وغيره من المحللين وخبراء الشؤون الأمريكية في الدولة العبرية، أن ترامب يريد إنهاء الحروب، ولا يريد حروبًا جديدة، كما يريد التركيز على المسائل الداخلية، والقيام بإصلاحات مهمة في الإدارة في عدة مجالات مهمة، مثل الهجرة، والأمن، والحدود، والرقابة، والصناعة، والضرائب، والصحة، والتعليم، أو البيئة.

وفي المسائل الخارجية، فهو مثل سابقيه، باراك أوباما وجو بايدن، يريد التركيز على الصراع مع الصين. وهذه هي الأسباب الأساسية التي من أجلها يتطلع إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا والحرب في الشرق الأوسط.

ويقول «نمرود نوفيك»، المستشار الكبير السابق لرئيس الوزراء الصهيوني الراحل «شمعون بيريز»، لموقع فوكس: «كل شيء بعد ذلك كان محاولة لاستعادة ثقتنا في قوتنا، وفي أمننا، وفي حقيقةِ أنَّ إسرائيل محمية بشكل جيد مِن قِبَل قواتنا الأمنية. أعتقد أن هذا الهدف قد تحقق».

أما المؤشرات الأكثر حدة في التعبير عن الفشل الصهيوني فهي استقالة هرتسي هاليفي، وهي ليست الوحيدة، بل تأتي ضمن سلسلة من الاستقالات المتتالية داخل القيادة العسكرية الصهيونية، ليس أولها وزير الجيش السابق «يوآف غالانت»، ثم قائد القيادة الجنوبية في الجيش «يارون فينكلمان»، كما تم الإعلان بعدها عن توقُّع تقديم كلّ مِن قائد سلاح الجو الجنرال «تومر بار»، وقائد سلاح البحرية الجنرال «ديفيد ساعر» استقالتيهما، وقبل ذلك كانت استقالة «أمير برعام» نائب رئيس هيئة الأركان، وكذلك تصريح رئيس دائرة الموظفين في جيش الاحتلال «دادو بار خليفة»، خلال اجتماعٍ للجنة الخارجية والأمن بالكنيست (البرلمان)، بشأن الحاجة إلى تجنيد يهود متدينين (حريديم) وفق هيئة البث العبرية الرسمية.

الاستشراف اليهودي والصمود الفلسطيني

في بداية الحرب على قطاع غزة خرجت الكثير من التوقعات التي تشير إلى اعتبار المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة آخر حلقات الصراع، وقرب تصفية الملف الفلسطيني، وهذا الأمر يقودنا إلى وصف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «كوندوليزا رايس» في عام 2006م للحرب السابقة بين الدولة العبرية وحزب الله بأنها «آلام ولادة الشرق الأوسط الجديد»، أو تقييم مستشار الأمن القومي في عهد «بايدن»؛ «جيك سوليفان»، قبل أيام قليلة من السابع من أكتوبر، بأن المنطقة كانت «أكثر هدوءًا» مما كانت عليه منذ عقدين من الزمن.

بالإضافة إلى تصريحات قادة الجيش الصهيوني بشأن القضاء على المقاومة، والسيطرة على قطاع غزة؛ بوصف هذا الأمر أمرًا محسومًا، لكنّ كلّ تلك المؤشرات كانت خاطئة لسببٍ واحد؛ هو أن التفسيرات اليهودية والأمريكية كانت تعتبر المقاومة جزءًا منفصلًا عن الديمغرافية السكانية في فلسطين، ولا تنتمي إلى حاضنتها الاجتماعية في قطاع غزة؛ إلا أن معركة غزة أنضجت الوعي الأمريكي قليلًا، وقد ظهر ذلك من خلال تصريح وزير الخارجية الأمريكي السابق، «أنتونيو بلينكن» الذي صرَّح قائلًا بعد وقف إطلاق النار بقوله: «إن الحلول العسكرية لا يمكن التعويل عليها وحدها في غزة»، وكذلك المعلومات التي نُقلت عن مصادر استخبارية في الكونغرس الأمريكي بشأن تجنيد المقاومة في غزة لأكثر من 15 ألف عنصر جديد لتعويض خسائرها البشرية في الحرب.

ويقلّل اللواء المتقاعد «إيتسحاق ريفلين» من الادّعاءات بشأن تقويض القدرات القتالية لحماس، ووصف مثل هذه التأكيدات بأنها مجرد «أحلام بعيدة المنال»، ويضيف: «اليوم أصبح الجيش صغيرًا بعد تقليصه لمدة 20 عامًا، وبالتالي فهو غير قادر على هزيمة حماس أو حزب الله. كل الاحتفالات وكأننا انتصرنا عليهم ودمَّرناهم هي مجرد هراء»، واعترف الجنرال السابق بأن الحكومة الصهيونية اضطرت إلى الموافقة على وقف إطلاق النار بسبب اليأس.

إن حقبة ما بعد السابع من أكتوبر هي أولى مؤشرات زوال «إسرائيل البرجوازية»، فقد دفعت هذه المعركة المجتمع الصهيوني إلى عصر آخر؛ هو عصر الضعف وعدم اليقين، وخاصة بين الحكومات والجماهير الغربية التي أصابتها صدمة جماعية بسبب التعرُّف على حقيقة المجتمع والدولة العبرية، فقد اعتقد اليهود أنهم تغلبوا على عزلتهم عقب الحرب العالمية الأولى، والمشاعر الأوروبية السلبية التي سادت ضدهم؛ إلا أن قرار الأمم المتحدة رقم 3379 الذي اعتبر الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية، وقرارات الاعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية ضد نتنياهو وغالانت؛ أعادت مسألة قبولها وشرعيتها على المستوى العالمي.

وهذا الأمر من أهم الانتصارات السياسية التي حققتها المقاومة، بالإضافة إلى ظهور جيل جديد من الشباب الغربي الذي أصبح أكثر تعاطفًا مع النضال الفلسطيني.

العمق الإسلامي والهوية الوطنية للمقاومة

لقد أنضجت الحرب في غزة حالة من الاستقطاب السياسي بشأن معنى المقاومة وعُمقها الفكري والاجتماعي، واعتبارها أحد امتداد الإسلامي السياسي، وهو أمر جعل الحرب شرسة ضدها؛ رغم رفعها الراية الفلسطينية بصورة رسمية في محافل تمثيلها وتركيزها في خطابها السياسي على البُعد الوطني؛ إلا أن الدولة العبرية استهدفت الترويج لهذه النظرية؛ مستثمرةً بذلك بيئة حاضنة هي بيئة التطبيع التي تعتبر العداء للإسلام السياسي مُحفّزًا مشتركًا ضمن هذه البيئة.

أما العنصر المؤثر الذي أعطى معركة غزة حضورًا فاعلًا على الصعيد الشعبي الإسلامي والعربي؛ فهو الشعور السائد بالتقصير من الموقف الرسمي وسلبية المواقف تجاه العدوان الصهيوني المتواصل على عدة دول العربية دون تشكيل أيّ ميزان ردع رسمي لوقف ذلك، ولذلك اعتبر الصمود الفلسطيني حالة من الانتصار في أوساط شعبوية وثقافية عربية وإسلامية، وشكَّل حالة من تقويم الهوية العربية والإسلامية، وكذلك أفرز الضخّ الإعلامي الغربي وحالة التضامن مع الفلسطينيين احتشادًا كبيرًا على منصات التواصل الاجتماعي؛ بسبب توحيد السردية التي تؤيد المقاومة، وتتصدى لتيار التطبيع، وتضع محدّدات من شأنها توحيد الرأي العام العربي والإسلامي تجاه الملف الفلسطيني.

في كتابه «مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم»؛ حدَّد بنيامين نتنياهو ثلاثة عناصر أساسية للصراع في الشرق الأوسط؛ أولها رَفْض العرب لأيّ سيادة لغير العرب في المنطقة، ورغبة الإسلام السياسي في تطهير المنطقة من أيّ تأثير غير إسلامي، والعداء العميق والتاريخي العربي للمنظومة الغربية.

وهو من خلال الحرب على غزة يُضْفِي نوعًا من المنطقية على الرأي العام العربي السائد تجاه الصهيونية، ويجعل القضية الفلسطينية بوصلة أساسية لا يمكن كسرها أو التلاعب بها؛ بصفتها الرهان الأكبر على إفشال المؤامرة الإمبريالية الصهيونية للهيمنة على المنطقة ومواردها.

إنّ غزة هي العنوان الرئيسي في المعركة التي تَخُوضها الدولة العبرية حول شرعيتها في المنطقة لكنَّ هناك العديد من التفصيلات التي تُعدّ جزءًا حيويًّا في الصراع؛ مثل: سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، الذي كان يُعدّ من أصلب أنظمة الطوق التي حافظت على حماية الحدود الصهيونية منذ توقيع اتفاق الهدنة عام 1974م، بالإضافة إلى بروز تركيا بصفتها لاعبًا جديدًا في المنطقة، يستهدف بدرجة كبيرة تقليص النفوذ الروسي والأمريكي، وهما من أبرز الداعمين للنظام الصهيوني.

ولا يمكن تفسير ذلك في سياق التعاطف الإسلامي الشعبوي مع الملف الفلسطيني، بل في سياق الصراع على النفوذ في المنطقة؛ فالأقطاب التي تتصارع اليوم هي الدولة العبرية وإيران التي مُنِيَت بهزيمة ساحقة حجَّمت دورها، وتركيا التي تريد قيادة المنطقة، وهذا الأمر سيصادم بصورة كبيرة إستراتيجية التطبيع التي تَعتبرها الدولة العبرية طَوْق نجاتها في المنطقة؛ للقضاء على المقاومة في محيطٍ قد يكون عما قريب خارج نطاق تأثير النفوذ الأمريكي، وهذا الأمر أكَّده «بريت ماكغورك» مستشار الرئيس الأمريكي السابق «جو بايدن»، حينما قال: «إن تركيا تُدير اللعبة في المنطقة، وتحاول الحدّ من تدخُّلنا»، لا سيما محاصرة مشروع الدولة الكردية أحد أبرز مشاريع الدولة اليهودية لتمزيق العالم العربي والإسلامي.

 

أعلى