معركة مؤتة  وفن الحرب

ما إن وصل جيش المسلمين إلى بلدة معان حتى بلغ ذلك استطلاع الروم وأعوانهم، وباتوا يعدون العدة، ويحشدون القوات البيزنطية والغساسنة في منطقة البلقاء، وربما انتقيت منطقة (البلقاء) لحشد القوات المعادية؛ لأنها تساعد بوديانها وأحراشها على التحشد، ومنع تقدُّم المس


جرت وقائع «مؤتة» الشهيرة بغزوة جيش الأمراء في شهر جمادى الأولى من العام الثامن للهجرة (وهو ما يوافق شهر آب من العام 629م)، بين الجيش الإمبراطوري الروماني المُعزَّز بالعرب الغساسنة، وبين الجيش العربي الإسلامي في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، في العمق الإستراتيجي للدولة البيزنطية الشرقية، وفوق السهول المتاخمة لقرية «مؤتة» من هضبة البلقاء الأردنية.

حيث استمر القتال عنيفًا ودمويًّا بين الطرفين طيلة يومين وليلة، وأسفر عن الانسحاب المُنظَّم لجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم  نحو قاعدتهم الأمنية «المدينة المنورة»؛ فما قصة هذه المعركة؟

سنُلقي أولًا نظرة على الأفق الإستراتيجي العام الذي سبق وقوع المعركة، وما نسميه اليوم «الوضع الدولي» بين العرب والروم في ذلك الوقت.

أولًا: الأفق الإستراتيجي العام

الوضع الإستراتيجي: (الدولة البيزنطية الشرقية)

كانت الدولة البيزنطية الشرقية قد أُقيمت منذ عام (395م) إثر انفصالها عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، واتخذت «القسطنطينية» عاصمةً لها، وقد حكمت في العصر الذي ظهرت فيه البعثة النبوية المحمدية عام (611م) كلاً من دول اليونان والبلقان وآسيا الصغرى وسورية وفلسطين ومصر وإفريقيا الشمالية؛ أي حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله.

وفي عام (616م) تنبأ القرآن العظيم بغلبة الروم في بضع سنين بعد أن دحَرهم الفرس (الساسانيون)، وبعد تسع سنوات فقط استطاع الإمبراطور البيزنطي «هرقل» أن يقهر الفرس، ويتوغل في أعماق بلادهم، «إيران» ويستردّ منهم الصليب المقدس عام (625م)، وقد رافق هذا الحدث المُهِمّ انتصار النبي صلى الله عليه وسلم  مع جيشه على جيش قريش عام (626م) في غزوة بدر الكبرى.

توجَّه الإمبراطور الروماني «هرقل» نحو مدينة القدس عام (639م)؛ ليُعيد إليها الصليب المقدس، ويفي بنَذْره بإنجاز هذا العمل الروحي، ويؤكد سيطرة الدولة الرومانية على الأماكن المقدسة. وأثناء وجوده في بيت المقدس، أتاه كتاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم  يدعوه فيه إلى الإسلام، فاستدعى أبا سفيان الذي كان موجودًا حينذاك في غزة، واستفسر منه عن النبي العربي والإسلام.

الدولة الإسلامية الفتية

ما إن استقر النبي صلى الله عليه وسلم  في المدينة المنورة، وأقام فيها -بعد هجرته إليها- أول حكومة عربية إسلامية؛ حتى بدأت الحرب بينه وبين قريش والقبائل الموالية لها، واستمرت الأعمال الحربية سجالًا -بدون توقف- على شكل غزوات وسرايا؛ دفاعًا عن العقيدة والمستضعفين من وجهة نظر النبي الكريم وأصحابه، وما نسميه في الفقه الإسلامي «الجهاد في سبيل الله».

وقد سلك فيها النبي العربي مسلك الهجوم باستثناء غزوة «الخندق»؛ حيث كانت معركة دفاعية، إلى أن وضعت الحرب بينه وبين قريش أوزارها، ووقَّع الطرفان معاهدة «صالح الحديبية» في شهر آذار سنة (638م)، وهو ما يوافق شهر ذي القعدة سنة (6ه).

نصَّت هذا الصُّلح على توقُّف الأعمال القتالية بين الطرفين لمدة عشر سنوات، واعترفت قريش بموجبها بحكومة النبي صلى الله عليه وسلم ، عندئذ تفرَّغ النبي صلى الله عليه وسلم  لمحاربة اليهود الغادرين، وخاض معهم غزوة «خيبر» الشهيرة في شهر المحرم سنة (7ه)؛ حيث تم له الاستيلاء على هذه المدينة المحصَّنة وإجلاء اليهود منها ومن الجزيرة العربية، واستسلم له على أثرها كل يهود فدك، ووادي القرى، وتيماء، وبات الطريق مفتوحًا للتقدم نحو بلاد الشام، خاصةً بعدما تمَّت لقوات المسلمين -قبل هذا- السيطرة أيضًا على منطقة دومة الجندل، وعلى محور الاتجاه الساحلي المتاخم للبحر الأحمر وحتى مدينة العقبة «إيلياء» شمالًا.

الوضعية العسكرية للطرفين قبل المعركة

القوات المعادية (الجيش البيزنطي) قدَّرت المَراجع العربية قوام الجيش البيزنطي الذي اشترك في معركة مؤتة بحوالي مائة ألف مقاتل، وللأمانة العلمية سعيت أن أتوصَّل للعدد الحقيقي من المراجع الأجنبية، أو من جهة نظر البيزنطيين؛ فلم أُفلح في ذلك، والمهم في الموضوع أنه كان يملك التفوق العددي والنوعي؛ حيث كان يتألف من نوعين رئيسيين؛ هما: المشاة والخيالة (الفرسان).

كان سلاح الفرسان يتألف من نوعين من الكتائب؛ الأول: «كتائب الفرسان الثقيلة»، والآخر: «كتائب الفرسان الخفيفة»، وكان تسليح الخيالة الثقيلة الرماح، بينما تسلحت الخيالة الخفيفة بالسهام، وكان في وسعها أن تطلق السهام -وهي في حالة الركض- وفي جميع الاتجاهات، أما المشاة الرومانيون فقد تسلحوا بالسيف والمزراق كأسلحة دفاعية أو ألبسة وأدوات واقية، ناهيك عن التدريب العسكري الذي كان يخضع له الجيش البيزنطي لدرجة أنه كان يتوفر للضباط الرومان «مراجع» للفنون الحربية.

أما قوات الغساسنة الموالية للروم؛ فقد قدَّرها المؤرخون العرب بحوالي مائة ألف أيضًا من قبائل «لخم، وجذام، وبلقين، وبهراء، وبلي»، وقد تكون أقل من ذلك، وكانت تملك الخيول الوفيرة والأسلحة الجيدة كالسيوف والرماح، ووسائل الوقاية كالدروع، وغيرها؛ عدا أنها كانت تقاتل على أرض معروفة لها من حيث التضاريس والمسالك والمميزات التعبوية.

القوات الصديقة

إن قوات المسلمين التي اشتركت في معركة «مؤتة» تُقدَّر بحوالي ثلاثة آلاف مقاتل، معظمهم من المشاة الراجلين، تبلغ نسبة الفرسان الراكبين فيها أقل من (10%) على وجه التقدير، وكانت هذه القوات تملك بعض الجمال لحمل المؤن والأمتعة والخيام والماء ولركوب المحاربين في بعض الأحيان.

كان تسليح هذه القوات متواضعًا؛ حيث تسلَّح معظم أفرادها بالقوس والنبال والسيوف والحراب، وبعضهم كان يحمل الرمح ذا العصا الخيزرانية واللسان المعدني الحاد. ويُعتقد أن أدوات الوقاية (كالدروع والخوذ والتروس) كانت تنقص معظم أفراد قوات المسلمين، والسبب في ذلك أن التسليح كان على عاتق المحارب في ذلك الوقت ومن ملكيته الخاصة.

لكنَّ قوات المسلمين كانت تتمتع بروح معنوية عالية وقوة نفسية هائلة دفعتها إلى قطع هذه المسافات الطويلة، وفي أرض معادية محفوفة بالأخطار والأعداء، ورغم قلة العدد وفقدان التوازن تمكَّنت من خوض المعركة بكل جرأة وبسالة.

ويُعتبر جيش «مؤتة» (إن جاز لنا تسميته بجيش من حيث الاصطلاح الفني) أكبر جيش مقاتل جمعه النبي بعد معركة الخندق، ولم تنكس له راية منذ هذه المعركة المشرفة. ويجدر بنا أن نذكر أن معظم أفراد قوات المسلمين كانوا قد اكتسبوا خبرة قتالية في «بدر» و«أُحُد» و«دومة الجندل» و«خيبر»، والغزوات والسرايا النبوية التي سبقت معركة مؤتة.

ثانيًا: الموقف التكتيكي الخاص

وأقصد بالموقف التكتيكي، عوامل الموقف القتالي التي أدَّت لحدوث معركة مؤتة، وكيفية تحضير وتخطيط المعركة من وجهة نظر «قوات المسلمين»، ومن أجل تبسيط شرح هذه العوامل القتالية؛ لجأت إلى أسلوب أكاديمي، في معالجة هذه النقاط، لعل ذلك يصوّر جريان الأمور القتالية بشكل حسي ومادي، ويجعلنا نتصور «سيناريو» المعركة بصورة أقرب إلى الحقيقة والواقع، وأول هذه العوامل القتالية هو ما جنته أيادي العدو البيزنطي وأزلامه من الغساسنة.

أقدمت بعض القبائل الموالية للروم والغساسنة على قتل مفرزة استطلاعية مؤلفة من (15) رجلًا بإمرة «كعب بن عمير الفزاري»؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  قد أرسلها إلى منطقة «ذات أطلاح»، ولم يَنْجُ من القتل سوى جريح واحد من المفرزة المذكورة، تحامَل على نفسه، وعاد إلى المدينة المنورة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم  بذلك، وكانت هذه المفرزة قد أُرسلت في شهر ربيع الأول سنة (8هـ).

وبعد هذه الحادثة أقدم «شرحبيل بن عمرو الغساني» -عامل الروم على البلقاء- على قتل «الحارث بن عمير الأزدي» مُوفَد النبي صلى الله عليه وسلم  إلى أمير بصرى، وكان قد اعترضه في الطريق، وأوثقه وضرب عنقه، وما أن بلغ ذلك مسمع النبي صلى الله عليه وسلم  حتى تأثر -عليه السلام- لمقتل سفيره وانتهاك الغساسنة، وتغاضي الروم عن هذه الأعمال العدوانية على حياة الرسل والمُوفَدين، فأعلن في المدينة المنورة وما حولها الاستنفار القتالي بين صفوف المسلمين.

نُودي في المدينة المنورة مِن قِبَل «بلال بن رباح» مؤذن الرسول «يا اخيل الله اركبي»؛ فعرف الناس بوقوع أمر جلل، وتوافد المقاتلون نحو مقر القيادة العامة «مسجد الرسول»؛ فأمر أن يتم التجمع والاستعداد للسير نحو القتال في منطقة (الجرف) شمال المدينة المنورة، وجرى تبليغ القبائل والجماعات القاطنة في ضواحي المدينة بواسطة الرسل والمندوبين.

وبات المجاهدون يتجمعون في المنطقة المحددة، وينتظرون تعليمات الرسول القتالية، جرى حشد الجيش الميداني شمال المدينة كما أسلفنا، وقد عيَّن رسول الله «زيد بن حارثة» قائدًا للجيش، وخلفًا له الصحابي «جعفر بن أبي طالب»، وخلفًا للثاني «عبد الله بن رواحة الأنصاري»، الشاعر المعروف، وبعد أن أتم الجميع استعدادهم للمسير، وتنفيذ المهمة القتالية (المقبلة) قام الرسول صلى الله عليه وسلم  بزيارة منطقة الحشد، وعقد للجيش المقاتل لواء أبيض اللون، وسلَّمه بيديه الكريمتين لقائد الجيش «زيد بن حارثة»، وأسند إليه المهمة القتالية.

إسناد المهمة القتالية

صادف ذلك ظهر يوم جمعة، وبعد أن صلى النبي بالناس، وقف -عليه السلام- أمام زيد بن حارثة، وأعطاه أمر القتال الشفهي التالي: «أن يأتوا مقتل (مكان قتل) الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم»؛ إذن فالمهمة دعوة إلى دين الله، وليس فيها حقد أو ثأر أو انتقام.

مشى رسول الله مع المقاتلين حتى (ثنية الوداع)، وهي النقطة الابتدائية التي سار منها الجيش شمالًا، وودَّعهم بقوله صلى الله عليه وسلم : (اغزوا باسم الله، قاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالًا بالصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيرًا ولا كبيرًا فانيًا، ولا تقطعوا نخلًا ولا شجرة ولا تهدموا بناء».

يحتمل أن قوة المسلمين سلكت في تقدُّمها نحو العدو شمالًا، المحور: المدينة المنورة، خيبر، وادي القرى، تبوك، سرغ، المغثية، معان، وهو طريق القوافل المعروف من الحجاز إلى الشام. ويبلغ طول هذا المحور حتى مؤتة حوالي (1100 كم)، ويستغرق اجتيازه للمشاة والرواحل بين (20- 30 يومًا)، ولا بد لجيش المسلمين أن يتحرك من المدينة المنورة في شهر ربيع الثاني على الأقل، حتى يتمكن من الوصول إلى «مؤتة» في شهر جمادى الأولى؛ (وهو الشهر الذي حدثت فيه غزوة مؤتة).

والذي يعنينا من موضوع السير، أن المسير كان ليليًّا، واستخدم المسلمون النهار للاستراحة والاختفاء؛ حرصًا على تحقيق المباغتة التكتيكية، ولم يكن بالمستطاع كتمان هذه المناورة الجريئة والطويلة، كما لم يصادف المسلمون في تقدُّمهم أي مقاومة أو أعمال قتالية تُذْكَر.

ما إن وصل جيش المسلمين إلى بلدة معان حتى بلغ ذلك استطلاع الروم وأعوانهم، وباتوا يعدون العدة، ويحشدون القوات البيزنطية والغساسنة في منطقة البلقاء، وربما انتقيت منطقة (البلقاء) لحشد القوات المعادية؛ لأنها تساعد بوديانها وأحراشها على التحشد، ومنع تقدُّم المسلمين نحو الشام.

واتخذ الروم بلدة (مآب)، ويُظَن أنها الكرك الحالية؛ لأنها نقطة حاكمة كمقر قيادة للقوات البيزنطية، توقف جيش المسلمين في (معان) للاستراحة مدة يومين تقريبًا، وجاءتهم مصادر استطلاعهم بمعلومات عن العدو البيزنطي المرتقب، وتفوُّقه العددي والكيفي، فعقدت قيادة الجيش مؤتمرًا أو اجتماعًا لتقدير الموقف القتالي، وتدل المداولات التي جرت في هذا الاجتماع على أنه كان بمثابة (مجلس عربي استشاري) لقائد الجيش العربي الإسلامي.

وكان من رأي البعض أن يكتبوا إلى رسول الله، ويخبروه بعدد العدو وتفوقه وضخامة إمكانياته، فإما أن يمدّهم بالرجال، أو يأمرهم بأمره (مجددًا) فيمضون له.

لكنَّ الصحابي عبد الله بن رواحة عارَض هذا الرأي، وشجَّع الناس قائلًا: «يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون (أي: الشهادة)، ونحن لا نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور وإما شهادة».

واتخذ قائد الجيش «زيد بن حارثة» قراره الهجومي باللقاء مع العدو وقتاله (وفق رأي واقتراح عبد الله بن رواحة) وموافقة الصحابة الكرام. وتحرك الجيش من معان، بعد استراحة يومين وليلتين، باتجاه مؤتة عن طريق الحفير على غالب الظن.

ثالثًا: سير المعركة ونتائجها

ولعله من المفيد أن نتَّبع في شرح سير المعركة التصادمية الترتيب الزمني كما يلي:

نشوب المعركة التصادمية وإجراءات المعركة

جرى التَّماس الأول بين طليعة المسلمين، والمفارز المتقدمة للجيش البيزنطي على خط قرية «مشارف» التي يُعتقَد أنها قرية «المشيرفة» الواقعة جنوب غرب مدينة الكرك، قبل يوم من معركة مؤتة.

وما إن وجدت قيادة المسلمين أن قوة العدو كبيرة، وتجميعه ضخم؛ حتى اتخذت قرارًا بأن يتم بدء اللقاء معه في منطقة مؤتة؛ لحرصهم على أن يتم اختيار مكان المعركة بمبادأة منهم، ولأن سهل مؤتة يقدم لهم إمكانيات أفضل للتفوق على عدوّهم، ولحرمان العدو البيزنطي من الاستفادة من منطقة الكرك المحصَّنة ونقاطها الحاكمة.

الترتيب القتالي للمسلمين

انحاز المسلمون إلى سهل مؤتة، وعسكروا هناك ليلًا، واستغلوا الليل لإجراء التحضيرات النهائية للمعركة واستعدوا للقتال، واتخذوا ترتيب القتال الهجومي (تشكيلة القتال) في لغة عصرنا الحاضر، فوزَّعوا الجيش، مراعين رابطة القبائل؛ إذ إن المرء يحب أن يقاتل مع قومه، إلى قلب (كبد)، وميمنة وميسرة، وساقة (مؤخرة)، واتخذ «زيد بن حارثة» مكانه على فرس له في مقدمة الكبد (القوى الرئيسية للجيش)، وجعلوا على الميمنة «قطبة بن قتادة العذري»، وعلى الميسرة «عباد بن مالك الأنصاري»، واصطف المقاتلون ضمن كل تجميع على شكل صفوف الصلاة متراصين متحابين بشعور واحد وعقيدة قتالية واحدة.

الترتيب القتالي للروم

رأى الروم مع شروق يوم مؤتة (8 جمادى الأولى) المسلمين مصطفين للقتال، ويُحسِّنون مواقعهم على ساحة المعركة، صامدين كالأبطال، شامخي الرؤوس، تسري فيما بينهم همهمة «الله أكبر» كأنها دَوِيّ النحل، وذهلوا لهذه القوة الحربية العجيبة التي يرونها لأول مرة في صراعهم مع القبائل البدوية التي تتقن الكَرّ والفرّ، ولكن رأوا في هؤلاء صمودًا وبأسًا وتحديًا بطوليًّا واضحًا، حيال ذلك لا بد للروم من اتخاذ ترتيب القتال المناسب؛ فلجأوا إلى تشكيلة «الليجون» الفرقي.

اليوم الأول للأعمال القتالية

بدء أعمال القوى الرئيسية للطرفين

بدأت المعركة التصادمية (الهجومية) في منتصف النهار، ريثما انتهى الطرفان من أخذ تشكيلة القتال والاصطفاف للمعركة، ويبدو أن المسلمين قد وجَّهوا ضربتهم الرئيسية باتجاه الوسط؛ حيث المشاة الخفيفة الرومانية، بدلالة اندفاع الأمير الأول «زيد بن حارثة» حاملًا بنفسه لواء رسول الله ذا اللون الأبيض، وتزعزعت أمامه الصفوف الرومانية؛ فحارب -كما تقول المصادر التاريخية- مستقتلًا ومستميتًا في مقدمة جنوده، حتى مزَّقته رماح الأعداء، وخرَّ شهيدًا، فاستلم منه اللواء والقيادة الأمير الثاني «جعفر بن أبي طالب»، وبقي لواء الرسول عاليًا خفَّاقًا تحميه صناديد الرجال.

جريان وعنف المعركة التصادمية وضراوة الالتحام

ما إن اكتشف الروم ضآلة سلاح الفرسان العربي حتى ركزوا هجومهم -أيضًا- باتجاه الوسط خاصة، بعد أن ميَّزوا مكان قائد المسلمين واستماتتهم للحفاظ على راية النبي صلى الله عليه وسلم  مرتفعةً مكرَّمةً، وسقوط الأمير الأول صريعًا على أرض المعركة، فتصدى لهم الأمير جعفر بن أبي طالب، وقلب جيش المسلمين بثبات وصمود فائقين، حتى إن (جعفرًا) ترجَّل عن فرسه الشقراء ليتفرغ للقتال التلاحمي القريب والعنيف، وليستطيع حمل اللواء الأبيض وسط غبار المعركة، وزمجرتها وقسوتها، ويجمع عليه شمل المسلمين ويُوحِّد قواهم في ساحة الوغى والشَّرف، ويُوجِّه طاقاتهم نحو عدوّهم، لدرجة أنه نحَر فرسه لكيلا تُعيقه عن القتال، ولئلا يستولي عليها الروم.

قاتل «جعفر بن أبي طالب» مع جنوده مترجلًا، وهو يحمل راية رسول الله، فأُصيبت يده اليمنى، فتناول الراية بشماله فقُطعت أيضًا، فاحتضن الراية بعَضُدَيْه والدماء تنهمر غزيرة من جراحه البليغة، وخارت قواه لأنه أُصيب ببضع وستين طعنة أو رمية -كما يقول ابن عمر رضي الله عنهما-، وليس منها شيء في ظهره، ويقال: إن رُوميًّا ضربه ضربة قطعته نصفين، ومع ذلك انغرس اللواء في لحمه، وبقي مرفرفًا خفاقًا يستظل تحته الشهداء الأبطال الذين دافعوا عن العقيدة، وجادوا بأنفسهم رخيصةً للوصول إلى جنة الخلد.

عندما لاحظ قائد الميمنة العربية (قطب بن قتادة) اندفاع الروم في الوسط، أراد أن يُخفّف الضغط عن كبد المسلمين، فاندفع نحو الميسرة البيزنطية، وحمل على «مالك بن زاملة»، فقتله وشتَّت قومه وعشيرته، وغنم فرسه وسلاحه.

وهرع «عبد الله بن رواحة»؛ الأمير الثالث نحو سلفه جعفر بن أبي طالب، وأخذ الراية منه (من جسده)، وتقدم بها، وهو على فرس له يرتجز الشعر، ويُذْكِي الحماس في نفوس جنوده، وبات يقاتل بجرأة وشجاعة في مقدمة الجيش حتى قُتِلَ شهيدًا -رضي الله عنه-.

تولى خالد بن الوليد القيادة بعد سقوط الأمراء الثلاثة في ميدان الشرف، تناول الراية من عبد الله بن رواحة -قبل سقوطه- ثابت بن أقرم البلوي من بني عجلان، فهتف بالمسلمين «يا قوم، اصْطَلِحُوا على رجل منكم»، وكان الوقت مساء، فقالوا له: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على «خالد بن الوليد المخزومي»؛ فقاتل براية النبي صلى الله عليه وسلم  حتى حلول الظلام، فتوقفت الأعمال القتالية وفق التقاليد السائدة في ذلك العصر.

إعادة التنظيم والتجمع ليلًا

استغل الطرفان حلول الظلام ووقت الليل لجمع شمل الأفراد وتنظيم الصفوف، وتضميد الجرحى ودفن القتلى بالنسبة للمسلمين.

ولعل العمل القتالي المهم الذي يجب أن يقوم به الطرف العربي هو إعادة التنظيم والتجميع، واسترداد القدرة القتالية، وتعويض الخسائر، وهو ما فعله القائد الجديد «خالد بن الوليد»، ولكن أنَّى له تعويض الخسائر وتجديد القدرة القتالية مع انقطاع قوات المسلمين عن قاعدتهم الإدارية البعيدة وطول خطوط المواصلات.

لذا كان لا بد من استئناف القتال، بما تبقَّى لهم من المؤن والعتاد الذي يحملونه على ظهور الجمال رغم جراحاتهم وتعبهم المضني، وحرارة الجو في تلك المنطقة القريبة من البحر الميت، وتدارس خالد بن الوليد الموقف القتالي مع أصحابه، ورأى إنقاذًا لجيش النبي صلى الله عليه وسلم  من التطويق والإبادة الكاملة أن يتملَّص من المعركة بانسحاب مُنظَّم ووفق خطة مرسومة.

لذا قرَّر الانسحاب، واتخذ عددًا من الإجراءات والأساليب التكتيكية لضمان أمن قواته أثناء الانسحاب والعودة نحو «المدينة المنورة»، وقد أمكن حَصْر ثلاثة من هذه الأساليب المبتكَرة هي:

1- إعادة تنظيم قوات المسلمين، وتشكيل مؤخرة قتالية قوية.

2- إجراء تبديل في أمكنة عناصر ترتيب القتال؛ بحيث تصبح الميمنة ميسرة، وبالعكس، وجعل العناصر الشجاعة والقوية بدنيًّا على تماسّ مباشر مع العدو حين الانسحاب.

3- إرسال مفرزة من الفرسان المسلمين وهجانة الإبل إلى الخلف منذ الليل، ليقوموا أثناء النهار بحركة خداعية، ليعتقد الروم أن إمدادات جديدة باتت تتوارد على جيش خالد بن الوليد، ووضع خالد نفسه مع مفرزة المؤخرة؛ ليَحْمي انسحاب القوى الرئيسية لقوات المسلمين.

اليوم الثاني للأعمال القتالية

مع حلول فجر اليوم التالي قامت مؤخرة المسلمين القوية التي كانت بقيادة «خالد بن الوليد» شخصيًّا بقتال التعويق (الإعاقة)؛ بقصد حماية الجزء الرئيسي من الجيش أثناء الانسحاب الذي بدأ مع آخر الليل.

ولتحقيق ذلك قامت المؤخرة بقتال الروم وحلفائهم على جبهة واسعة إخفاءً لخطة الانسحاب، وكانت المفارز المكلفة بالخطط الخداعية تُحْدِث ضجات عالية لإيهام العدو البيزنطي بقدوم إمدادات جديدة للمسلمين، وحرمانه من معرفة وكشف عملية الانسحاب.

خاضت قوات حماية المؤخرة قتالًا ضاريًا لإيقاف تقدُّم الروم نحو الجنوب، ويدل على عنف المعركة ما قاله خالد بن الوليد -رضي الله عنه-: «لقد كُسِرَ في يدي يوم مؤتة تسعة سيوف»؛ وكَسْر السيوف يدل على عنف المعركة وضراوتها وشراسة الالتحام القريب، وقاتَل خالد بن الوليد من خطٍّ إلى خطٍّ، إلى أن استطاع التملص من المعركة، وقطع التماس مع العدو، وتوقَّف الروم وحلفاؤهم عن مطاردة المسلمين.

وهناك في الجنوب في «منطقة المزار» جرى إحصاء الخسائر، ودفن الشهداء الذين سقطوا في اليوم الثاني أثناء الانسحاب، وبعد استراحة قصيرة حتى المساء بدأ الجيش عودته نحو المدينة المنورة سالكًا المحور المؤدي من الشام نحو الحجاز جنوبًا.

دفَع خالدًا أمامه رسولًا اسمه «يعلى بن منبه»، وطلب إليه أن يُسرع إلى المدينة المنورة، ويُطْلِع رسول الله صلى الله عليه وسلم  على نتائج معركة مؤتة وموقف جيش المسلمين القتالي.

عودة الجيش إلى المدينة المنورة

وصل رسول خالد بن الوليد إلى المدينة، وقابَل رسول الله في المسجد، وقدَّم له تقريرًا قتاليًّا عن معركة مؤتة ونتائجها، ويعتقد بعض الباحثين أن خالدًا أدْرَك بخبرته العسكرية صعوبة الموقف القتالي، وتوقَّع أن يُطارده الروم، فهدف إلى جانب إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم  على نتائج حربه مع الروم، أن يُنْجِده النبي صلى الله عليه وسلم  بإمدادات سريعة إذا تطوَّر القتال لغير صالح جيش المسلمين.

وكلنا يعرف ما جرى بين الرسول الكريم ويعلى بن منبه -رسول جيش خالد-، حين أجابه النبي صلى الله عليه وسلم : «أتخبرني أم أخبرك»، فصمت يعلى تأدبًا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم  المسلمين بمجريات الأمور في المعركة، وكأنه يراها. فقال له يعلى بن منبه: «وكأنك حاضر يا رسول الله»، ومنذ هذه المعركة أطلق الرسول الكريم على البطل خالد بن الوليد «سيف الله».

تقويم معركة مؤتة من وجهة فن الحرب

من دراسة وتحليل وقائع معركة «مؤتة»، أمكن التوصل إلى تحديد الدروس المستفادة من هذه المعركة المشرفة كالآتي:

  انتهاج الأسلوب الهجومي لردّ كيد الأعداء: فقد قصد رسول الله تجهيز هذه الحملة العسكرية، وتأديب الأعراب الذين غدروا بمفرزة كعب بن عمير، وتلقين الغساسنة (عملاء الروم) درسًا لا ينسونه؛ لاعتدائهم على حياة الرسل والمُوفَدين، فحارَبهم في العمق البعيد للدولة البيزنطية وفي عُقْر دارهم، ونشر الإسلام في تلك الربوع؛ ليعمّ الأمن والطمأنينة بين الناس، وينزع من أنفسهم كوامن الشر والغدر والعنجهية الجاهلية.

  تحمّل المشاق والصعاب في المسير الطويل: فقد نفَّذ جيش المسلمين مسيرًا طويلًا لمسافة (1100كم) والعودة ثانية وفي أراضٍ لم يألفوا القتال فيها سابقًا، وتوقَّع الاصطدام بالعدو المتفوق عليهم عددًا وعدةً، ومع ذلك نفَّذ المسير بكل دقة وانضباط وتنظيم جيد، فوصل الجيش بعده مرتاحًا ليدخل معركة حاسمة، وقد لعب الاستطلاع دوره في هذه المناورة الطويلة والواسعة.

  الإصرار على تنفيذ المهمة القتالية الموضوعة «الهدف»: وتجلى ذلك بمداولات مؤتمر (معان) الذي سبق المعركة، والقرار الجريء الذي اتخذه قادة المسلمين بلقاء العدو ومحاربته، وفق المهمة القتالية (الواجب العملياتي) المسنَد إليهم من القائد الأعلى؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم .

  فن القيادة واستمرار السيطرة وصمود القادة: إن القادة الثلاثة (زيدًا وجعفرًا وعبد الله) ضربوا المثل الرائع بالإقدام والتضحية فثبتوا أمام جندهم، وكانت السيطرة مستمرة على الجيش رغم الظروف القتالية الصعبة، وشراسة الأعمال القتالية واستشهادهم الواحد تلو الآخر، وأظهرت هذه المعركة ذكاء (ثابت بن الأقرم)، وشجاعة وعبقرية سيف الله (خالد بن الوليد)، وتخليص الجيش من الإبادة والتطويق.

  تحقيق الردع للقبائل المتحالفة مع الروم وغيرها، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نُصرت بالرعب مسيرة شهر»، فأسلم على إثر هذه المعركة كلّ مِن بني «سليم» و«أشجع» و«غطفان» حليفة قريش و«ذبيان» و«فزارة»، وغيرها من القبائل العربية المعادية للدعوة الإسلامية.

وفي العام التالي لمعركة مؤتة أسلمت قبيلة «بلي» بكاملها، وقدم وفدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم  في المدينة المنورة طائعًا ومبايعًا، وباتت القبائل العربية حتى الشام تهاب الرسول وجيشه بعد أن تمَّت له السيطرة على كل الجزيرة العربية.

  اكتساب الخبرة القتالية لجيش المسلمين: أفادت معركة مؤتة المسلمين كثيرًا في معرفة خواص قوات الروم، وأساليب قتالها، وسمات حلفائها من القبائل وقوتهم الحربية. وتعرفوا أيضًا على خواص مسرح العمليات الحربية المقبل، خلال فتوح الشام وبلاد الرافدين، وكانت مؤتة بالذات قاعدة عربية متقدّمة لقوات المسلمين على الجبهتين السورية والعراقية أثناء خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وإبَّان فتوح الشام والعراق في المستقبل القريب.

  وأخيرًا، كانت معركة مؤتة أول صراع مسلَّح على نطاق واسع يخوضه جيش النبي صلى الله عليه وسلم  خارج الجزيرة العربية ومع جيش نظامي مُدرَّب، وأول تهديد عسكري للدولة البيزنطية الرومانية الشرقية، وهي معركة جديرة بحقّ أن تسمى غزوة (جيش الأمراء)؛ لأن المعركة كانت معركة الأمراء الأبطال والقادة الأكفاء والمجاهدين الميامين.

أعلى