أضواء على المجتمع الإيراني بعد الثورة

أضواء على المجتمع الإيراني بعد الثورة


من المعلوم أن شاه إيران السابق كان يقود بلده في اتجاه التغريب، وكان هناك فساد منتشر، وجاءت الثورة الإسلامية بقيادة الخميني من أجل تحقيق أهداف إسلامية سامية - على حدّ زعمها -، مثل: زيادة التطهر والعفاف في المجتمع، وزيادة الأمن والأمان، وإنهاء الظلم وإقامة المساواة، وإزالة الفقر وإقامة العدالة في توزيع الثروة، والقضاء على الإدمان والمخدرات، وإنهاء الموبقات والدعارة... إلخ.. فهل تحققت كل هذه الأهداف؟ ماذا نجد في واقع إيران بعد 30 سنة من الثورة؟

نجد أن المشاكل ازدادت بدلاً من أن تقل، فأول مشكلة تواجه إيران هي الإدمان على المخدرات، فيقدر الباحثون أن عدد المدمنين في إيران 2.5 مليون مدمن، ولو اعتبرنا أن عدد أفراد الأسرة بمعدل وسطي هو خمسة أشخاص، فمعنى ذلك أن هناك 12.5 مليون شخص، مشغولين ومعطلين، مرتبطون بهذا المدمن ومشاكله.

وطبقاً لتقرير المخدرات العالمي الذي أصدرته الأمم المتحدة لعام 2005 عن مدمني الأفيون في العالم، توجد في إيران أعلى نسبة من المدمنين في العالم، إذ إن 2.5% من السكان الذين تزيد أعمارهم على 15 سنة، مدمنون على نوع من المخدرات، وإلى جانب إيران توجد دولتان في العالم تتعدى نسبة المدمنين فيهما 2%، وهما: موريسيوش وقرغيزستان.

وقد أفادت برقيات دبلوماسية عبر موقع ويكيلكس بأن إيران تعدّ من أكبر مهربي المخدرات في العالم. وقد أكد وزير خارجية أذربيجان أن عمليات التهريب بين أيدي أجهزة الأمن الإيرانية، وأنه عندما تعتقل السلطات الأذرية مهربين إيرانيين وترحّلهم إلى بلادهم كي يقضوا فيها أحكاماً بالسجن، يطلق سراحهم بسرعة!

أما بالنسبة لقضية الدعارة، فقد ذكر راديو أوروبا الحرة استناداً إلى الرقم الرسمي، أن هناك 300 ألف امرأة يعملن مومسات في إيران، وطبقاً للصحف فإن العدد يرتفع بثبات. وقال رسول نفيسي، عالم الاجتماع وعميد كلية الدراسات في جامعة «سترايير» واشنطن لخدمة الفارسية؛ إن سبب زيادة الدعارة الآن: ضعف الاقتصاد، وارتفاع معدل الطلاق، واستغلال الفتيات اللاتي فررن من الأسر الفقيرة.

وتشير الدراسات إلى أن الدعارة بعد أن كانت منتشرة بين الفئة العزباء، أصبحت منتشرة بين المتزوجات، كما أن سن البدء بالدعارة انخفضت لتصل إلى 15 عاماً، في حين كانت السن في العشرين سنة الأولى من الثورة 30 سنة فما فوق. وكشفت الدراسات عن أن الدعارة كانت في السابق لسدّ احتياجات أساسية للمرأة، في حين أصبحت اليوم لسد احتياجات ثانوية. وتذهب دراسات إلى أبعد من ذلك وتقول إن السن انخفضت إلى (8-10) سنوات، وهو ما أثار ردود أفعال غاضبة في مجلس الشورى الإيراني.

وقد أقرَّ تقرير إيراني نُشر لأول مرة عام 2000، بوجود ظواهر الدعارة وتعاطي المخدرات، وأنها في ازدياد بين شباب إيران. وقد كتب التقرير محمد علي زام، رئيس الشؤون الثقافية والفنية في طهران، ويعدّ شخصية ذات نفوذ، وقد وجد التقرير زيادة حادة في المشكلات بين عامي 1998-1999. أما بالنسبة للصلاة فقد ذكر التقرير أن 75% من عدد السكان، ونحو 86% من الطلاب الشباب، لا يؤدون الصلوات.

هناك أرقام تتحدث عن عشرة ملايين إلى 15 مليون فقير في إيران. وقد تحدث عن اتساع رقعة الفقر في إيران عالم الاجتماع والاقتصاد الدكتور محمد جواد زاهدي، الذي نشر بحثاً موسعاً حذر فيه من «تسونامي فقر» يهدد الجمهورية الإسلامية، وعلل ذلك بغياب المساواة والفساد الإداري وارتفاع التضخم، إضافة إلى ضعف القطاع الخاص وشيوع الفساد الأخلاقي والاقتصادي، وأسهم غياب مظلة الرعاية الاجتماعية في جرّ الطبقتين الدنيا والمتوسطة إلى حافة الفقر، ولا شك في أن الفقر سببٌ في عدد من المشكلات الاجتماعية الأخرى؛ كالإدمان والإجرام والدعارة، وبناءً على مؤشرات معتمدة للكسب والعمل من قبل البنك الدولي لعام 2010، احتلت إيران المرتبة 137 من بين 187 دولة.

وتأتي مشكلة سكان العشوائيات في إيران كإحدى المشكلات الاجتماعية التي يعانيها المجتمع الإيراني، ويقدر سكان العشوائيات بخمسة ملايين نسمة، وتقدرها دراسات أخرى بـ 20 مليوناً. ولا شك أن وجود مثل هذه العشوائيات سيكون مرتعاً لتفريخ الجريمة. وتشير دراسة أجريت على هذه الفئة في المناطق القريبة من طهران، إلى أن 59% منهم من مرتكبي الجرائم.

شعرت إيران في منتصف عام 2010 أن التعليم في خطر، وجاء هذا الشعور بعد أن أحسَّت القيادات بفشل حكومات الثورة المتعاقبة في ترسيخ المبادئ الثقافية للثورة الإسلامية؛ لذلك أعلنت الحكومة الإيرانية عن «الوثيقة الوطنية للتربية والتعليم» من أجل أسلمة التعليم، واستغرق تدوين الوثيقة خمس سنوات، وقد أعلن عنها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد.

ليس من شك في أن الطهر والعفاف والاستقامة والفضيلة وزوال الفقر وقيام العدالة والمساواة... إلخ؛ هي صفات يتوقع أن يتصف بها أي مجتمع يطبّق الإسلام، ويجعل الشريعة الإسلامية مرجعية له، بعد أن كان يرسف في منهجية مخالفة للإسلام، أو على الأقل نتوقع أن تتقدم وتزداد مساحة الطهر والعفاف والاستقامة والفضيلة فيه، وأن يزداد عدد الأغنياء والمكتفين ويقلّ الفقراء، وأن تقوم المساواة في المجتمع، وأن يصل كل مظلوم إلى حقه.. هذا ما نتوقعه من المجتمع والدولة التي تطبّق شريعة الله، لكننا كما لاحظنا لم يحدث هذا في إيران بعد قيام الجمهورية الإسلامية! فما السبب؟ إذا أردنا أن نعرف فعلينا أن نبحث عن ذلك السبب في داخل المذهب الشيعي ذي التكوين الخاص، وأنا أرجّح أن السبب يعود في رأيي إلى عاملين:

الأول: طبقة الملالي.

والثاني: مفهوم الولاية عند الشيعة.

وسنلقي الضوء على هذين العاملين ونبيّن دورهما في إنتاج الفساد والرذيلة.

الأول: طبقة الملالي:

من الواضح أن إحدى مخالفات الإسلام للديانات التي سبقته، وبشكل أخص المسيحية، هي إلغاء طبقة رجال الدين وعدم وجودها في الإسلام.

فالمسيحية أقرّت بوجود كنيسة ترعى أمور الدين، وأوجدت طبقة رجال الدين التي ترعى الكنيسة وتقوم بدور الواسطة بين المسيحي والله، ولا شك في أن هذه الطبقة الكهنوتية التي كانت تعطي المغفرة للمسيحي وتحتكر فهم الدين، وتوزع النار على العاصين، وتعطي مساحات من الجنة لمن يدفع لها أموالاً أكثر... إلخ؛ ليس من شك في أن هذه الطبقة من رجال الدين كانت أحد عوامل الفساد في المجتمع الأوروبي، والتي قامت عليها ثورة مارتن لوثر في ألمانيا، والتي أنشأت المسيحية البروتستانتية في مطلع القرن السادس عشر، ثم ثارت عليها مرة ثانية في نهاية القرن الثامن عشر في الثورة الفرنسية عام 1789م، وأنهت تحالف الإقطاع مع رجال الكنيسة، وبدأت العصور الحديثة.

لقد ألغى الإسلام طبقة رجال الدين، واعتبر أن العلاقة بين العبد وربه يجب أن تتم بغير واسطة؛ لذلك أدان القرآن الكريم المشركين الذين اتخذوا بعض الأصنام واسطة إلى الله، فقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْـخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: ٣]، وطلب القرآن الكريم من المسلم أن يدعو الله وأن لا يدعو غيره، وأن لا يوسط أحداً، فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

من الجدير بالذكر أن المذهب الشيعي يشترط على كل شيعي أن يرتبط بمرجعية شيعية معاصرة له، وأن يلتزم باتباعه، وأن يدفع له «خُمس أمواله»، وأن يتبعه في عباداته، وأن يستفتيه في حال طلب الفتوى، وأن يمنحه ولاءه؛ وبهذا أصبحت طبقة الملالي في المذهب الشيعي إلى حد ما تقابل طبقة رجال الدين في الكنيسة المسيحية، وهي سبب رئيسي في انتشار الفساد والرذيلة في المجتمع الإيراني، وبخاصة أنها طبقة غنية بسبب «الخُمس» الذي تأخذه من أتباعها كما ذكرنا، وقد لجأت الحكومة إلى التستّر على فضائح رجال الدين، فهي تمنع نشر ما يتعلق بهم، وقد فعلت ذلك منذ بداية الثورة عندما بدأت تنتشر فضائح صادق خلخالي أحد قيادات الثورة عام 1979م.

إن وجود رجل دين على رأس السلسلة الدينية التي ارتبط بها الشيعي ولَّد أثرين سلبيين:

الأول: على الشيعي نفسه، إذ قلّلت فاعليته النفسية لأنه يركن إلى هذا الملا/ الشيخ في بعض الأمور.

الثاني: على المجتمع، إذ تنتج هذه الطبقة فساداً، وهذا ما ثبت في الوقت الحاضر وعلى مدار التاريخ في المجتمعات السابقة، فقد نقلت التقارير والدراسات والصحف والمجلات كثيراً من فساد طبقة رجال الدين في إيران لا يتسع المقام لذكرها وإحصائها.

الثاني: مفهوم الولاية:

لقد أقام الإسلام كيانه على جناحين، هما: العقل والنقل، وعندما يستوي الجناحان تطير الأمة وتحلِّق وتبدع، وعندما يحدث خلل في أحد الجناحين تهبط وتتعثر.

ونحن نعتقد أن الوحي قد انتهى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه بقي علينا إعمال العقل في تطبيق الشريعة، والاجتهاد في إنزال الأوامر والنواهي التي أمرنا بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على أرض الواقع بواسطة عقولنا.. لكن الشيعة يعتقدون أن الوحي لم ينقطع، بل هناك اثنا عشر إماماً بعد الرسول كانوا يتلقون وحياً عن طريق الإلهام، وأن أقوالهم بمنزلة الوحي الذي هو استكمال للشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ليس هذا فحسب، بل هناك مهدي منتظر، وهو الآن موجود حي يرزق، وهو يظهر لبعض الناس؛ يعلّمهم، ويصوّب لهم آراءهم، ويصحّح لهم فتاويهم.. ليس من شك في أن مثل هذا الاعتقاد يرفع أقوالاً بشرية إلى درجة التقديس، ويفتح مجالاً للأوهام والخزعبلات والتبديل والخرافات... إلخ.

إن مفهوم «الولاية» جزء من «العرفان الشيعي»، وقد ذكر الجابري في «العقل العربي» أن العرفان الشيعي متأثر «بالموروث الهرمسي»، وهو قد التقى في ذلك مع هنري كوربان في كتابه «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، الذي قال فيه عن الشيعة: «إنهم أول من تهرمس في الإسلام». ومن المعلوم أن «العرفان» بشكل عام يعتبر أن المعرفة تأتي عن طريق «الكشف» وليس عن طريق «العقل»، وهذا ما يفتح المجال لعالم الخرافات والخزعبلات والأوهام، ويزيد من حجم اللامعقول، ويضعف التعامل العقلي مع الأمور والمشكلات.

لقد جلب «مفهوم الولاية» للطائفة الشيعية انحرافين في مجال النقل والعقل: فهو في مجال النقل أضاف أقوالاً بشرية للأئمة الاثنا عشر تحتمل الخطأ والصواب، وهم اعتبروها وحياً غير قابل للخطأ، وهذا الانحراف الأول.. وفي مجال العقل، فإنه جرى تضخيم اللامعقول في المذهب الشيعي نتيجة ارتباط «مفهوم الولاية» بالعرفان الهرمسي، وهذا الانحراف الثاني.

من الواضح – الآن - أن صورة إيران الاجتماعية ليست صورة وردية، فالثورة «الإسلامية» لم تقضِ على الدعارة والمخدرات والإدمان والفساد والتحلل الأسري وجرائم القتل التي ورثتها عن حكومة الشاه السابقة، بل ازدادت الأرقام، وازدادت المشاكل الاجتماعية استفحالاً، وهذا دعانا للبحث عن الأسباب في داخل المذهب الشيعي، فوجدنا أنها تعود إلى عاملين: طبقة الملالي من جهة، ومفهوم الولاية من جهة أخرى.

:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)

:: مجلة البيان العدد 313 رمضان 1434هـ، يوليو – أغسطس 2013م.

أعلى