تخطيط المدينة الإسلامية: شروط اختيارها وعوامل تطورها

لقد اتفقت المدن الإسلامية في تخطيطها على مبدأ الوحدة المستمدة من التوحيد، لذلك اتفقت أفكار العلماء والمفكرين والجغرافيين المسلمين في الشروط الأساسية، ومن ذلك رؤية ابن أبي زرع الذي اشترط النهر الجاري، والمحرث الطيب، والمحطب القريب، والسور الحصين، والسلطان


لقد بدأ الإسلام عبر دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم  إلى اعتناق قِيَمه التوحيدية التي تشهد للإله الواحد ببراعة تخطيط الكون وتشكيل الخَلْق، وغير ذلك من المعاني السامية والأخلاقية، فتوسَّع على إثر ذلك الدين الإسلامي، وتقوَّى وكثر تابعوه، ليحتاج الرسول الكريم، إلى بناء المدينة الإسلامية التي ستحتوي المُواطِن العربي الجديد المسلم الذي سيؤمن وسيعيش وفق القيم الدينية والتشريعية الإسلامية؛ فكانت البداية عن طريق الهجرة إلى يثرب؛ حيث سيعمل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم  على تحويلها إلى مدينة الإسلام؛ وذلك عبر ترسيخ مفهوم الأمة، كمفهوم قِيَمي مشترك تجمعه القيم الإنسانية الإسلامية، عِوَض العصبية القبلية، التي تنظر إلى الأصول، والجوانب الشكلية، والصراعات الواهية. لتنطلق مسيرة الأمة الإسلامية في التعمير وتشكيل المدن وتخطيطها انطلاقًا من سُنّة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ووصولًا إلى عصور تلت وتوالت فيها المدن تباعًا من الأموية إلى الأندلسية والعثمانية، وغيرها.

ويبقى السؤال المطروح: كيف تمَّ تخطيط المدينة الإسلامية؟ وعلى أيّ أساس كان ذلك؟

لقد مزَج المسلمون في تخطيطهم للمدن بين الشكل الواعي، والتخطيط التلقائي.

أما بالنسبة للتخطيط الواعي فقد انقسم إلى قسمين اثنين؛ تخطيط عام، كان فيه للمسجد الكبير ودار الإمارة البؤرة الرئيسية للمدينة الإسلامية، والتي تنطلق إليهما جميع شوارعها الرئيسية من خلال أبواب رئيسية تمتد من أسوارها المحيطة بها.

بينما كانت المساكن والأزقة، والأسواق المتنوعة، والمارستانات، وغيرها، جزءًا من التخطيط الفرعي الذي ركّز على الجوانب؛ حيث ارتبطت بالشوارع الرئيسية في نوع من أنواع الوحدة العامة بين الرئيسي والخاص الجزئي.

أما التخطيط التلقائي فتحكّم فيه مبدأ العُرْف الحتمي، الذي يُحتّمه الزحف السكاني وعنصر الهجرة والعامل التجاري والبيئي، وبالتالي التوسع بازدياد بناء المنازل والمساكن، وذلك بازدياد السكان المقبلين والكثافة السكانية. مما جعل تخطيط المدينة يقوم حين ذلك، على الحل المتضام بالتقارب بين المباني وزيادة سُمْك الجدران والحائط كحل بيئي، بالإضافة إلى الأقواس كوسيلة للتهوية. ثم الانتباه إلى عزل الأسواق، وجعل المذابح وشبكات التفريغ الصحي بنواحي المدينة وخارجها.

لقد تم التخطيط للمدينة الإسلامية وفق منظورات متعددة، ارتكزت على شروط اختيار مواقعها، ومن هذه المنظورات التي تحكمت في تخطيط المدينة، ما أدلى به المفكرون العرب، أمثال ابن ربيع، والقزويني، وابن خلدون.

هذه الشروط التي اتفقت في أغلبها، واستندت على التراث الفقهي والسنة النبوية في تشكيل مدينة تليق بالفرد الإسلامي وطريقة تفكيره وجوانب دينه. لذلك لجأ ابن ربيع في كتابه «سلوك المالك في تدبير الممالك على التمام والكمال»، إلى وضع شروط في اختيار موضع المدن؛ أهمها: سعة المياه المُستعذَبة، وإمكان الميرة المستمدة، واعتدال المكان، وجودة الهواء المستعذب، والقرب من المراعي والاحتطاب، بالإضافة إلى تحصين المنازل من الأعداء، وأن يحيط بها سواد يعين أهلها[1].

 لقد اتفقت المدن الإسلامية في تخطيطها على مبدأ الوحدة المستمدة من التوحيد، لذلك اتفقت أفكار العلماء والمفكرين والجغرافيين المسلمين في الشروط الأساسية، ومن ذلك رؤية ابن أبي زرع الذي اشترط النهر الجاري، والمحرث الطيب، والمحطب القريب، والسور الحصين، والسلطان؛ إذ به صلاح حالها، وأمن سُبلها، وكفّ جبابرتها.

اهتم المسلمون أيضًا في تخطيط مدنهم بمبدأ دفع المضارّ، ومبدأ جلب المنافع؛ حيث تحدَّث ابن خلدون عن ذلك مشترطًا «مراعاة دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها، ويُراعى في ذلك طيب الهواء للسلامة من الأمراض والأوبئة، كما يُراعَى المرافق للبلد كالمياه والمراعي والمزارع، وحُسْن الاختيار الطبيعي، ومما يُراعَى أيضًا في البلاد الساحلية أن تكون في جبل كما في سبتة وبجاية»[2].

فجلب المنفعة للمدينة خيرٌ من مضارّها، لذلك ركّز بعض المفكرين والفقهاء في التخطيط -كابن الأزرق- على دفع المضار، وبالخصوص المضار السماوية، ويُقصَد بها البيئية، وذلك باختيار المواضع طيبة الهواء، التي تبتعد عن المياه الراكدة والمتعفنة، بما قد يُعطي روائح كريهة ومياه شرب فاسدة، والتي قد تُسبِّب مرض الإنسان والحيوان والنبات، إلى جانب ذلك تم التفكير في شروط اختيار المناخ المناسب الذي يريح الذهن والنفس، ويبعد التذمر من الحر، ويلقي النسيم، وتطيب فيه التربة، ولا يفسد فيه الطعام واللحم.

ساهمت مجموعة من المكونات والعوامل الأساسية في تكوين تخطيط المدينة الإسلامية، ووضع شروط بعثها وتشييدها؛ حيث العامل البيئي، بجلب المنفعة الذي تم النظر فيه إلى البيئة الصحراوية الجافة، ومِن ثمَّ البحث عن الماء النقي العذب، والمناخ الملائم الصحي للإنسان والدواب والأطعمة تجنبًا لفسادها، والقرب من المرعى، وتوفر الطعام والزراعة، وأيضًا بدفع المضارّ البيئية كقوة أشعة الشمس والحر وقسوة المناخ عبر اتّباع الحل المتضامّ؛ من خلال تلاصق المباني والمساكن وقُربها، لما في ذلك من توفير الراحة الحرارية في المبنى صيفًا وشتاءً، وأيضًا عبر الأزقة الضيقة وتقارب مبانيها.

وفي مقابل ذلك تم تفريغ كتلة هذا التقارب عبر توفير عوامل التهوية والإضاءة الطبيعية عبر الأقواس، ثم نجد العامل الديني؛ حيث التركيز على وسطية المسجد الأكبر ودار الإمارة باعتبارهما بؤرة المدينة وزمام أمرها، ولا يستقيم العيش بدون حُكْم ودين وسلطان يمسك العصا من مركزها، لذلك نجد طابع الوحدة المتراصَّة في شوارعها المترابطة المؤدية إلى المسجد، ووحدة بناء سكنها ومنازلها المستوحاة من مبدأ التوحيد في الإسلام.

لقد ركّز التمدن الإسلامي على الأحكام الفقهية في دفع المضار من خلال العامل العسكري أو عامل الحماية؛ حيث تأمين المدينة بالأسوار والخنادق، وجعل المدن الساحلية تعتلي التلال والهضاب بالاستدارة بحرًا أو نهرًا، وخير مثال على ذلك موقع إقامة مدينتي ألميريا والمهدية؛ للتمكن من رؤية العدو.

أضف إلى ذلك العامل التجاري بتوفير الأسواق حتى يتمكن سكانها من استعراض حِرَفهم وشراء حاجياتهم وضرورياتهم الأساسية من طعام وشراب ولباس، وبالتالي تنمية رواج المدينة اقتصاديًّا واجتماعيًّا. وكذلك العامل القَبَلي والاجتماعي، بما يضمن الأمن في تذويب العصبية القَبَلية وخلق تجمُّعات يُميّز فيها قبائل ساكنيها، بأن لا تجمع أضدادًا مختلفة متباينة، وفي نفس الوقت التركيز على الأُمَّة كبُعْد شامل للتعايش.

انتشرت فكرة المدينة في العالم الإسلامي منذ القدم، وبالخصوص في الشرق الأوسط، وفي بعض المراكز الإسلامية، كبغداد ودمشق والقاهرة، أمَّا في العصور الوسطى فقد امتدَّت الحضارة الإسلامية المدنية من فاس إلى دمشق، كما كانت القاهرة تمثل أعظم مدن العالم في القرن الرابع عشر الميلادي.

ثم عرفت الحضارة الإسلامية قبل الحرب العالمية الثانية نموًّا كبيرًا، خصوصًا في عدد سكان المدن، وكان هذا النمو متفاوتًا؛ حيث عرفت المدن الأكثر كثافة إمكانيات اقتصادية مهمة. لذلك كان الاختلاف في ظهور المدن الإسلامية بين آسيا وافريقيا؛ حيث انتشرت المدن التجارية والدينية في آسيا قبل الاستعمار وتزايد نموّ السكان بسبب الهجرة القروية مُخلِّفًا نموًّا عشوائيًّا.

بينما في إفريقيا لم تظهر المدن إلا في العصر الحديث مع المدن الحديثة في غرب إفريقيا والساحل الشرقي والمغرب؛ حيث الانفتاح على القارات الأخرى وتطور المواصلات والتجارة والصناعة والهجرة والتنمية، ممَّا خلَّف مدنًا فطرية سريعة النمو تحتاج اتصالًا واستيرادًا خارجيًّا.

العوامل المؤثرة في تطوُّر المدن الإسلامية

العامل الأول: تتابع الحضارات من خلال تحكم التغيرات السياسية في مصائر المدن الإسلامية؛ بسبب تغيُّر الحُكّام المسلمين؛ كما هو الأمر في دمشق أواخر العصر الأموي، وانتقال القوة إلى بغداد العباسية، وانتقال العاصمة في فارس من أصفهان إلى طهران، وانتقال الحكم من حلب العثمانية إلى دمشق السورية، ومن إستنبول إلى أنقرة. 

العامل الثاني: تحكمت فيه الظروف الجغرافية؛ حيث كان التجمع السكاني في المدن يرتكز على الماء، وبالتالي فرَض نوعًا من السيادة في الحكم السياسي، بينما كان العكس في المناطق الأخرى.

أما العامل الثالث: فتمثل في البعد الديني؛ بسبب الإقبال على الدين في المدن أكثر من القرى؛ لطابعها المنفتح على الأفكار الخارجية؛ حيث كانت المدن أساسًا قويًّا للدعوات الدينية الجديدة كمكة والقدس.

بالإضافة إلى العامل الرابع البعد الجغرافي والموقع الممتاز للعالم الإسلامي خاصةً الشرق الأوسط، الذي فتح قنوات مرور بحرية وبرية وعلاقات تجارية واسعة بين أقطار أخرى كالهند والصين مثلاً.

أما العامل الخامس فكان من خلال تطوُّر وسائل النقل والمواصلات بتطور التكنولوجيا الحديثة؛ حيث لبَّت السكك والطائرات والسفن الحاجيات التجارية للسكان المتزايدين في المدن الإسلامية الكبرى، مع تمركزها في طرق تجارية وقوافل برية ومائية ساحلية مركزية، بين نهري دجلة والفرات والشام، وبين الطرق الصحراوية وبين الطرق البحرية كبيروت والإسكندرية.

إضافة إلى عامل الاستقلال في الدول الإسلامية، وخصوصًا في إفريقيا المسلمة؛ حيث التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نشأت في المدينة بسبب حركات التحرّر.

وأخيرًا عامل الهجرة الداخلية، والتي خلَّفت تحركًا سكانيًّا من القرى إلى المدن؛ بسبب الجفاف والبحث عن فرص أفضل في المدن، ممَّا خلَّف كثافة سكانية واكتظاظًا وبطالة وفقرًا وسكنًا عشوائيًّا وتلوثًا، وهذا ناتج أيضًا عن فشل التنمية السياسية وسياسات التوطين في العالم الإسلامي.


 


[1] ابن أبي الربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك على التمام والكمال، دراسة وتحقيق ناجي التكريتي، بيروت، باريس، ط1، تراث عويدات، 1978م، ص152 . (بتصرف).

[2] عبد الرحمن بن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيت الأفكار الدولية، [د ب ن]، سنة 2009م، ص ص 217- 621. (بتصرف).

أعلى