لماذا حارب الدّين الشذوذ؟

والمسرف في اتّباع غرائزه وشهواته لا يتوقف عند حدٍّ ولا يُشْبعه نوع شذوذ، ونحن نرى اليوم ونسمع عن أنواع من الشذوذ لم يُسْبَق إليها؛ بحثًا عن اللذة، حتى الألم، يظهر أنّ هناك من يجد لذته فيه، فأيُّ دَركٍ وصلت إليه البشرية نتيجة هذا الإسراف؟!


لم يعد بإمكان أيٍّ منّا اليوم أن يتجاهل ما يجري حوله في العالم من قضايا، خاصةً تلك التي تُلاحقه بدورها وتقرع عليه بابه، فإن لم يُفتَح لها اقتحمت النوافذ والستور.

 فِتَنُ كقِطع الليل المظلم أحاطت بالبلاد والعباد، وبجاحة للباطل وأهله تكاد تكون مُلجِمةً للحق وأهله، تُغلِّقُ دونهم الأبوابَ، ولا تستحيي من أحد، وهي في كينونتها وفلسفتها تضربُ عُرضَ الحائط بكل المفاهيم والمقاصد وتُنازِعُ الفطرةَ صوابيَّتَها ومعقوليتَها، ولا ترضى بالفردانية، بل تنزعُ نحو الانتشار والذيوع.

 هذه أبرز ملامح الخطورة في جريمة الشذوذ، كيف لا، والسعيُ المحموم نحو تسييجها بإطارٍ من التشريع القانوني لا يتوقف في كافة المحافل الدوليّة، ومحاولات الخروج بها من حيّز الجريمة والمرض المعيب إلى فضاءات الحق الإنساني ومقاربتها بحقوق الأقليّات والجماعات المضطهدة عبر التاريخ لا تنتهي، إلى أن أصبحت، أو كادت أن تصبح، بذاتها نظامًا يُحاكَم الناس إليه وعَبْره يُجرَّمون، فلا يعود لأحدٍ أن يعارضها أو يتكلم عنها بسوء، وإن لم يشارك في كرنفالها فلا مكان له على الساحة، حتى الموقف المحايد لم يَعُد يحظى من شياطينها بالقبول!

والحقيقة أنّ العرض القرآني لمسألة الشذوذ جاء واضحًا غاية الوضوح في بيان بشاعته وجُرمه، فقد أُحيط الفعل وأصحابه في كافة المواطن التي عرضت لهم بأسوأ الأوصاف من النكارة والفُحش والخباثة والسوء والفسق والظلم والإسراف والإجرام، وأُبرزَ تاريخُهُ في باب القصص القرآني في قصّة لوط -عليه الصلاة والسلام- ضمن سلسلة قَصَص الأقوام المهلكين، التي تكرر ذكرها والإشارة إليها مرارًا في كتاب الله[1].

 وكانت الحوارات التي دارت بين القوم ورسولهم -عليه الصلاة والسلام-، وسجّلها القرآن الكريم في هذا الشأن، حامية الوطيس، وبينما تمحورت حوارات وسجالات الرسل الآخرين مع أقوامهم حول الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، جاء عرض جرائم وطغيان هذه الأقوام في خلفية مشهد الحديث عن كُفْرهم وشركهم، بعكس قوم لوط -عليه الصلاة والسلام- الذين تصدَّر الحديث عن جريمتهم الأخلاقية كافة المواضع التي ذكرت قصتهم، وكانت المرة الوحيدة التي تماشى فيها الحوار مع حوارات مَن سبق من الأنبياء لأقوامهم في سورة الشعراء، في الأمر بالتقوى والتأكيد على أمانة الرسول، في معرض ردّه على مراودتهم إياه عن ضيفه؛ {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْـمُرْسَلِينَ 160 إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ 161 إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 162 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 163 وَمَا أَسَأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 160 - 164].

لماذا الحديث عن نبي الله لوط -عليه الصلاة والسلام- وقومه تحديدًا، حينما نتحدَّث عن الشذوذ وموقف الإسلام منه؟

الجواب ببساطة يعرفه كل مسلم، ولكن لا بأس من إيضاحه من عدة جوانب:

أولًا: لأنّ جريمة الشذوذ ارتُكِبَت أول الأمر من قوم لوط -عليه الصلاة والسلام-، الذين أخرجوا العلاقة إلى العلن، وتحوّلوا بها عن مسارها الطبيعي من الممارسة بين الأنثى والذكر، إلى الممارسة بين الذكر والذكر، وهو ما سطَّره القرآن الكريم ونعاه النبيّ الأمين عليهم.

وهذا التحوّل مُخالف لخلق الله ولفطرته التي فطر الناس عليها، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، كما يخالف ما يؤكّده العلم والتاريخ الطبيعي والاجتماعي، وما نشهده اليوم من زعزعة للمفاهيم وتغيير للمصطلحات والانتقال من توصيف أصل الخلقة الجنسيّ، بالذكر والأنثى، إلى الحديث عن الهويّة النوعية والجندريّة، بل وما يُراد لنا أن نصل إليه في عنصرية ما بعد الحداثة، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله-، من التسوية بين البشر والكائنات الأخرى، وظهور الإنسان الجسماني الذي اختُزِلَ إلى عضو التذكير والتأنيث[2]، على خطورة هذا الأمر وتبعاته، إلا نتاج ومحصّلة لكرة الثلج السوداء التي كان مبتدؤها في التاريخ الإنساني ما ابتدعه قوم لوط.

فهذه البدعة الأخلاقية التي انزاحت وانحرفت عن طريق الفطرة أول الأمر ما زالت تتوالد وتتكاثف إلى يومنا هذا[3]، حتى تحوّل الأمرُ إلى ثقافة وفلسفة حياة عند الشاذ هي أعمق في حقيقتها من مجرد كونها ممارسة خاطئة يُجرِّمها الدين؛ فقد فقدت القيم والمعاني الأخلاقية الفاضلة والطبيعية معناها عنده[4].

ولم يعد المشهد محصورًا في إطار الممارسات الفرديّة أو نطاق المجتمعات الغربية، بل بات يهاجم، وبشراسة، المجتمعات العربية والإسلامية تحت مظلة وعباءة مجموعة ضاغطة من الآلة الإعلاميّة والقانونية والتشريع الدوليّ، في الكثير من المساقات وتحت العديد من المسميات، مثل حقوق الإنسان، وحقوق الأقليّات.

ورغم فقدان المؤسسة الدينيّة في الغرب، مُمثَّلة بالكنيسة، سلطتها الحقيقية، وعزوف المجتمع الغربي عنها، خاصةً مع فسادها والفضائح الجنسية التي تُلاحق منتسبيها من أصغر القسيسين والرهبان إلى أرفع الرتب؛ إلا أنّ الضغوط تُمارَس، وبقوة، على الفاتيكان بصفته أعلى المؤسسات الدينية عند النصارى، حتى يسمح بزواج الشواذ ويباركه؛ لإضفاء الشرعيّة على علاقات الشاذين وإخراجها من دائرة الخطيئة، وهو ما أقدمت عليه بعض الكنائس في تَحَدٍّ منها للفاتيكان[5]، مع موجة مقابلة من التقنين التشريعي لزواج الشواذ في سائر أنحاء العالم.

أمّا في دولنا الإسلاميّة فما يزال الأمر -بفضل الله- مرفوضًا دينيًّا وتشريعيًّا، رغم الضغط الدولي لأجل تقنينه فيها وفرضه عليها، ولعلّ ما حدث من بلبلة عالمية حول الموقف القطري في أحداث كأس العالم الأخيرة، في مَنْعه للشواذ من إظهار شعاراتهم وشذوذهم في أثناء المونديال الذي أُقيم لأول مرَّة على أرض عربية مسلمة، وما قابَله من حملة إعلامية شعواء من الدول الغربية وممارسات بعض فرقهم الرياضية ومشجعيهم يُظْهِر لنا كمّ الحقد والإصرار على محاربة الدين والقِيَم المنبثقة عنه عندنا، وهو ما لن ينتهي من قبلهم وأعوانهم الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الأرض، لذا ينبغي أن يقابل الجهد بالجهد، والتدبير بما يفوقه من التدبير، ويُمكَّن للدين ودعاته في المجتمعات العربية والإسلامية ودعوتها للعودة للتمسك بالدين وقِيَمه وتعزيز القوانين التشريعية المنبثقة عنه من عندنا.

ثانيًا: إنّ جريمة قوم لوط لم تقف عند حدود تحوّل الذكر عن الأنثى للذكر في الممارسة الجنسية، بل إنّ المنطق أنّ الأنثى تحوَّلت إلى الأنثى في المقابل، وبذلك عالجت بعض التفاسير الإشكال بالمراد في قول الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْـمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا 15 وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 15، 16]، بأنّه لم يأتِ في باب حكم الزنا الذي نُسِخَ إلى الحكم المعروف اليوم، بل إنه جاء في باب حكم المساحقة التي تكون بين الأنثى ومثيلتها!

ثالثًا: إنّ الإسلام احترز من الشذوذ ابتداءً بأن منع مخالفة السبيل الطبيعي للعلاقة مع المرأة، الحِلّ، بإتيانها من الدبر، بل ومنع إتيانها في الحيض، قال الله -سبحانه-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْـمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ 222 نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْـمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 222، 223]؛ إذ لا تخرج العلاقة بين الذكر والأنثى عن مسار الفطرة، إلا حينما تتحول هذه العلاقة وتشذّ عن المسار الطبيعي الذي جعل الله -عزّ وجل- نتيجته الطبيعية الإتيان بالولد، وأوجد عَبْره اللذة وركَّب لأجله الشهوات الجنسيّة، كما يقول العلماء، حتى يُقبل عليه الإنسان ويتحمَّل كافةَ الواجبات المترتبة على قضائه الوطر بهذه الطريقة، لا لنفس قضاء الشهوة أو الحصول على اللذة، فليست هي الغاية رغم حصولها، ولكنَّ الغاية والمقصد أعظم وأجلّ وأسمى وهي عمارة الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالتناسل والتوالد، ولا يُقبل أن يكون هذا إلا بالتزاوج المشروع، أمّا أن تكون الغاية والمؤدّى قضاء اللذة فحسب؛ فهي مرفوضة في التصور الإسلامي جملةً وتفصيلًا، فلا ولد يُطلَب ولا أُسرة تُنْشَأ، ولا مسؤولية تترتَّب، ولا تشريع يُتَّبع، ولا إعمار يكون، ولا خلافة تُقَام.

أمّا ما أنكره القرآن الكريم على القوم، فيمكن حصره بالنقاط التالية:

أولاً: ابتداعهم فاحشة الشذوذ؛ فلم تكن في أسلافهم ولم يسبقهم إليها أحد من العالمين؛ {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80]، والظاهر أنّ هذه الفاحشة إنما ظهرت في حال تَرَف القوم، وهي كما ذكر الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- من سيئات ترف الحضارة؛ فالمجتمعات المُتْرَفة بُؤَرُ فساد وعطن يقابلها على الجانب الآخر مجتمعات الفقر وما يصيبها من جهل وبؤس وأمراض بدنيّة واجتماعية.

 وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ انحراف القوم عن فطرة الخَلق ومنهج الله للحياة، يتّصل بالانحراف عن فطرة العقيدة المتمثلة في الألوهيّة والتوحيد، ويشترك معه في «أنه لم يَحِلّ في ملّة من الملل في وقت من الأوقات ولا مع وصف من الأوصاف، وبقية المحرّمات ليست كذلك»![6]

ثانيًا: دخولهم في زمرة المكذِّبين مع مَن سبقهم من الأقوام المكذّبة في غير موضع مثل قوله -سبحانه-: {وَإن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ 42 وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ 43 وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 42 - 44].

 أمّا السجالات التي كانت بين لوط -عليه الصلاة والسلام- وقومه؛ فقد انصبَّت في جُلّها، من جانبه، على إنكاره وتحريمه لما كانوا عليه من شذوذ ومخالفة للفطرة، ومن جانبهم، على رفضهم المطلق لهذا التحريم، بل وتهديد لوط -عليه الصلاة والسلام- وآله، والسخرية منهم، والمطالبة بإخراجهم؛ لمخالفتهم إياهم في ما يأتونه من المنكر. والقاعدة في أصول الفقه عندنا تفيد بأنَّ إنكارَ حُكمٍ معلومٍ من الدين بالضرورة، وتحليلَ مُحرَّم أو تحريمَ مباح؛ يُدْخِل صاحبه في باب الكفر. وتكذيبُ نبيٍّ واحد، فيما جاء به، تكذيبٌ لجميع الرسل. والظاهر أنّ باب خروج هؤلاء من حياض الإيمان والتوحيد كان من خلال ما ذهبوا إليه من رفضهم تحريم الفاحشة والشذوذ وبممارستهم له عمليًّا.

ثالثًا: آلَ إتيانُ القومِ الفاحشةَ مع الذكور بهم إلى تركهم نسائهم والزهد بهنّ وبالعلاقات الطبيعية، فلم يقوموا بإحصانهنّ، ما آل بهنّ بالتالي إلى ابتداع المساحقة، وهذا من المسكوت عنه مما يتوصل إليه بالمنطق، كما سبق وأشرنا، فأصبحت الجريمة جريمتين، بل وأكثر، ولذا وصفهم بالإسراف {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]، والمسرف في اتّباع غرائزه وشهواته لا يتوقف عند حدٍّ ولا يُشْبعه نوع شذوذ، ونحن نرى اليوم ونسمع عن أنواع من الشذوذ لم يُسْبَق إليها؛ بحثًا عن اللذة، حتى الألم، يظهر أنّ هناك من يجد لذته فيه، فأيُّ دَركٍ وصلت إليه البشرية نتيجة هذا الإسراف؟!

رابعًا: ما يقع بسبب الشذوذ من اعتداء على حقوق العباد، لا يتوقف عند تجاوز حدود العلاقات الطبيعية إلى غيرها {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166]، من اعتداء الذكور على الذكور، والإناث على الإناث، والكبار على الصغار، والإنسان على الحيوان، بل على كل الحُرُمات؛ انقلابٌ تامّ للمعادلة الاجتماعية السويّة، وانفلات للشهوات بصورة بهيمية. ومما يثير السخرية أن تصبح محاربة الشذوذ اعتداءً على الحريّة، وأنّ ما كان يُقدَّم على أنه جريمة تنبغي معاقبة فاعلها، تحوّل في فترة ما إلى مرض ينبغي معالجة صاحبه، وأصبح اليوم حقًّا له أصحاب، تقوم المظاهرات وتُسَنّ القوانين لأجل المحافظة على حقوقهم وحريّاتهم في ممارسة شذوذهم بكافة أشكاله، سواء أكان مع بشر، صغير أو كبير، أم حيوان!

خامسًا: مما أنكره لوط -عليه الصلاة والسلام- على القوم، في باب معصيتهم: مسألة قطع السبيل، وبالنظر للسياق فالأقرب أنّ المراد به مسألة قطع النسل؛ {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ...} [العنكبوت: 29]، فهي جناية تقع على النسل البشري واستمرار النوع، ويُهْدَرُ فيها ماء الرجل، إضافةً لكثير من الأمراض التناسلية الناتجة عنها، والتي قد تكون قاتلة في نهاية المطاف[7]. كما أنّها تقضي على الأسرة الطبيعية، أمّا تأطير وقوننة العلاقات الشاذة في أشكال ثنائية تحت مسمّى الأسرة؛ فمما يُعجَب له، والأعجب منه التَّوجُّه نحو التّبني أو تأجير الأرحام أو غيره من الأشكال التي يتم بها صناعةُ أُسَرٍ شاذَّة، بل وتسويقها إعلاميًّا، وفرضها، بالقوة، قانونيًّا؛ فجريمة لا تُغتفر ستتضح نتائجها وأبعادها الكارثية في القادم، وبشكل أسوأ من نتائج انتشار جرائم الزنا والمساكنة، وعلى كافة الصُّعد.

سادسًا: المُجاهَرة بالمعصية والاجتماع عليها؛ حيث لم تتوقف الجريمة عند حدود الأفراد، بل اجترحها مجموع القوم، واجتمعوا على قلب المفاهيم حتى صدق عليهم وَسْم المؤتفكة[8] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ 165 وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166]، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ فكانت ممارساتهم علنيّة يجتمعون عليها في وضح النهار {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 28]، وقد بلغوا منتهى الوقاحة والبهيمية والإجرام حينما تداعوا على بيت لوط -عليه السلام- يَدْعُونه ليُسلّمهم ضيوفه؛ ليصنعوا بهم ما صنعوا ببعضهم بعضًا، وصمُّوا آذانهم عن منطق العقل ومعنى الفضيلة الذي حاول إحياءه في نفوسهم، دون جدوى، وحين وصل معهم إلى طريق مسدود ضاقت نفسه وملأه الشعور بالخزي منهم ومن تصرفاتهم؛ فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80].

وهذا يدلّنا على أنّ الشاذ لا ولن يكتفي بمن هم في دائرته من الأشخاص، كما أنّه لا يكتفي بنوع وطريقة وآلية الشذوذ الذي يمارسه، بل تهفو نفسه إلى كل جديد، وتطلب كل ممنوع، وتسعى إليه؛ فلا يخضع لمنطقٍ أو عُرْفٍ، بل يصنع لنفسه عُرفًا ومقاييس جديدة تُوافق أهواءه، حتى إنه ليأنف من فكرة العودة للمسار الطبيعي ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ [هود:79].

ومما يثير الأسى في النفس أن يغترّ بأولئك ودعاويهم، جماعاتٌ من الناس تُشكّل لأجلهم لوبيّات داعمة وحامية في المجتمع، تنطق باسمهم، حتى وإن لم تشاركهم الفعل؛ إلا أنها تقرّهم فكريًا وتعينهم على باطلهم بالتعاطف والانفتاح والدعم، وهؤلاء لا يَقِلُّون خطرًا ولا إثمًا عن ممارسي الشذوذ، وما امرأة لوط إلا نموذج لهؤلاء، ولذا كانت ممَّن أُهْلِكَ مع القوم؛ نتيجة لخيانتها الفكرية والعقدية، فكانت من الغابرين.

العقوبة الربانية

جاء العقاب الربانيّ للقوم من جنس عملهم، على هيئةِ ألوانٍ عدّة من العذابات أصابتهم، فالائتفاك الذي كانوا عليه أهوى بهم، وقُلبت مدينتهم رأسًا على عقب؛ فلم يُترك لهم أثر من الخسف، حتى غارت بهم الأرض بعيدًا إلى أبعد ما غارت يومًا، وأُمْطِرُوا بالحجارة المُسوَّمة من السماء، فلم يَبْقِ منهم حيٌّ ولا لهم أثر {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ 82 مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِـمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83]، ووقوع مثل هذه العقوبة الإلهية ليس ببعيد على مَن يقارف مثل هذه الجريمة، وقريب منه ما أصاب المدينة الرومانية، بمبي، التي كان يقطنها قرابة مائتي ألف نسمة، وانتهت حاضرتها المترفة بأن أُهلكت بالرماد البركاني؛ حيث ظلت مطمورة به إلى أن اكتشفت في القرن الثامن عشر، فوجدت أجساد أهلها وقد تَحجَّرت على هيئة جثث إسمنتية على أوضاع مخزية من الشذوذ والفحش حين أتاهم أمر الله، ولم توجد ولا جثّة واحدة يظهر عليها علامات التأهب لحماية نفسها أو حتى الفرار من الكارثة التي أودت بهم وبمدينتهم، ناهيك عن مستوى الانحدار في إباحية الرسوم التي زيّنت جدران المباني والحمَّامات في المدينة المكتشفة، ولذا فقد تم حظر دخول الأطفال إليها في الجولات السياحيّة.

أضف إلى ذلك انتشار الأمراض الجنسية مما لا يتصوّر له علاج، ولا يفهم المؤمن هذا إلا على أنّه من باب العقوبات الربانية للبشر على فسادهم وإفسادهم.

خاتمة

ظهر لنا أنّ الشذوذ يُحوِّل أصحابه إلى كائنات رغائبيّة تشتهي المُستقذَر وتحارب الفطرة والطهارة، وإنّ دعوى الحريّة التي يتستّرون بها ما هي إلا جرائم متعدية تُفقدُ العالم معيارية الصواب والخطأ. وإنّ على أهل الحق والفطرة واجب نصرة ما يؤمنون به والدفاع عنه، وإلا انتهوا إلى الهلاك، ولا بدّ من أن يُسند هذا الحق قوة سواء من دولهم أو أنظمتهم وتُسنّ القوانين التشريعية الصارمة، وتُحمَى الأسرة بصورتها الطبيعية، وإلا فالقادم أسوأ، وسنن الله لا تحابي أحدًا، فلا ينازعه أحدٌ في مُلْكه وفِطْرته التي فطَر الناس عليها إلا قصَمه، وما إمهاله للناس بالإهمال، حاشاه سبحانه وتعالى.

 


 


[1] ذُكرت القصة على ترتيب المصحف في سور: الأعراف وهود والحجر والأنبياء والفرقان والشعراء والنمل والعنكبوت والصافات والذاريات والقمر، وأشير إليها في ق والنجم والحاقة.

[2] يُنظر: عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار دوّن، ط1، 2018م، ص165.

[3] نتحدث هنا عن الممارسات فحسب، أما الاهتمامات الجنسيّة الشاذَّة فقد جمع أنيل أغروال  (Anil Aggrawal) في كتابه عام 2009م، قائمة من 547 مصطلحًا تصف الاهتمامات الجنسية الشاذة، ينظر:

https://cutt.us/awNhl

[4] ينظر: طلعت، هيثم، المثليّة الجنسيّة.

[5] ينظر على سبيل المثال، تقرير: للمرة الأولى.. الكنيسة البروتستانتية الفرنسية (تبارك) زواج قسّيستين مثليتين، نُشِرَ بتاريخ: 27/7/2021م، على موقع الجزيرة الإخباري:

www.mubasher.aljazeera.net

[6] البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآي والسور، تفسير سورة الأعراف، الآية 80.

[7] ينظر: عبدالوهاب الجندي، أهمية المقاصد في الشريعة الإسلامية، ص244.

[8] والإفك لغةً من القلب، «ومنه سُمِّي أسوأ الكذب {إفكًا}؛ لأنه قلبٌ للحقيقة عن ظاهرها الصحيح إلى شيءٍ آخر باطل». الشنقيطي، أضواء البيان، تفسير سورة الأعراف، الآية 80.

 

أعلى