بذور السلام.. منظمات صناعة التطبيع الأمريكية

تضمَّن البرنامج عدة أنشطة تُقدّم للمشاركين في المخيم؛ يتم اختيارها بعناية؛ تشمل الأنشطة الرياضية والفنية والثقافية، وجلسات الحوار التي يترأسها أحد دعاة التطبيع العرب


انطلقت قاطرة التطبيع العربي الصهيوني مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الدولة المصرية والدولة العبرية في 17 سبتمبر 1978م في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وبرعاية أمريكية قادها الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر.

كانت تلك الاتفاقية تتويجًا لمرحلة جديدة في العلاقات العربية الصهيونية، جاءت استجابةً لإرادة أمريكية تَبِعَت مرحلة استنزاف عسكرية أظهرت هشاشة المنظومة الصهيونية، وأسقطت نظرية الجيش الذي لا يُقْهَر، وأَوجدت ميزانًا جديدًا للردع بين الصهاينة وبلدان العالم الإسلامي التي وقفت لمساندة مصر خلال حرب أكتوبر 1973م؛ لاستعادة شبه جزيرة سيناء.

كانت الرغبة الأمريكية جامحة في الترويج لفكرة السلام العربي الصهيوني؛ بغيةَ إسقاط إنجازات حرب أكتوبر التي أيقظت أملًا كبيرًا في تحرير فلسطين، وقزَّمت الجيش الصهيوني أمام وحدة المسلمين والعرب، ولتثبيت دعائم نظرية التطبيع التي قامت على أساس تأمين الدولة الصهيونية في محيطها الملتهب وتحقيق اختراق في المنظومة السياسية العربية بإرادة أمريكية كاملة؛ تمهيدًا لمرحلةٍ تقتضي من المسلمين والعرب تقبُّل وجود الكيان الصهيوني ضمن الديمغرافية السياسية للمنطقة في سياق ما نعرفه حاليًا بـــــــ«الاتفاق الإبراهيمي».

بدأت واشنطن عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد بدعم سلسلة برامج تطبيعية كثيفة وسخية هدفها دعم مقولة ديفيد بن غريون الشهيرة «الكبار يموتون، والصغار ينسون»؛ تستهدف سَحْق الكراهية العربية والإسلامية للكيان الصهيوني، ومحاصرة أيّ فكرة تنادي بتحرير فلسطين، والاستسلام للهيمنة الأمريكية الصهيونية، بدأتها مع الصغار بما يُعرَف بمنظمة بذور السلام الأمريكية التي كانت تَستهدف بالدرجة الأولى طلبة المدارس في مصر وفلسطين والأردن ولبنان، أو ما يُعرَف بدول الطوق المحيطة بدولة الكيان الصهيوني؛ من خلال جَمْعهم بمخيمات تدريبية في الولايات المتحدة لعدة أشهر مع نظراء لهم من اليهود الأمريكان والصهاينة؛ بهدف تدجينهم لتقبُّل أفكار التطبيع وبناء جيل من سفراء «السلام».

أحد الطلبة المشاركين في المخيم أفاد في اقتباس نشره موقع «البديل» أن بعض الفعاليات التي ينظّمها الفرع المصري لـ«بذور السلام» قبل السفر، شملت استدعاء بعض الأشخاص للمحاضرة أمام الطلبة عن الصراع العربي الإسرائيلي، ومن المحاضرين د. مصطفى الفقي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب في ذلك الوقت، والسفير محمد بسيوني، سفير مصر السابق في إسرائيل، وأساتذة الدراسات الإسلامية من الجامعة الأمريكية.

حصل 46 طالبًا مصريًّا وفلسطينيًّا وصهيونيًّا على لقب «البذور» الذي مُنِحَ للمشاركين في المخيم الأول عام 1993م، ودعاهم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون لحضور مراسم توقيع اتفاقية أوسلو في البيت الأبيض، بين ياسر عرفات الرئيس الفلسطيني السابق وإسحق رابين رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك.

تضمَّن البرنامج عدة أنشطة تُقدّم للمشاركين في المخيم؛ يتم اختيارها بعناية؛ تشمل الأنشطة الرياضية والفنية والثقافية، وجلسات الحوار التي يترأسها أحد دعاة التطبيع العرب، ويشاركه في تقديمها شخصية صهيونية تستمر لمدة 90 دقيقة بصورة يومية طوال أيام المخيم، تركّز على مناقشة القضايا السياسية الساخنة والأفكار الموروثة مسبقًا، ومحاولة التأثير فيها ونقدها.

يقول رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير في رسالته للمنظمة: «إن التعليم المبكّر يلعب دورًا مُهِمًّا في ترسيخ قواعد التسامح والتفاهم»، أما الرئيس الصهيوني الراحل، شمعون بيريز فقد وصف خريجي هذه المخيمات بأنهم «البناة الحقيقيون للسلام».

أُطلقت فكرة بذور السلام على يد الصحفي الأمريكي جون والاك، أثناء اجتماع جمع السياسيين من مصر والسلطة الفلسطينية والدولة العبرية، وتكفّلت الأطراف الثلاثة بإرسال 15 شابًّا من بلدانهم إلى معسكر يُقام لهم في ولاية مين الأمريكية. ومنذ افتتاح المخيم عام 1993م خرَّج ما يزيد عن 6000 شخص من الأردن وتونس والمغرب وقطر والكويت واليمن وأفغانستان والهند وباكستان والعراق وكسوفو.

توسَّعت أعمال المنظمة لتنشط عبر مؤسسات رسمية في القدس وحيفا ورام الله والقاهرة وعمان وبيروت، واستُخدمت مؤسسات التعليم الحكومي في بعض البلدان لتأهيل الشباب المشاركين في المخيمات، وتُعقد سنويًّا ثلاث مخيمات تدريبية تُعدّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والسفارة الأمريكية في الكيان الصهيوني أكبر مُموّل لمشاريعها في الشرق الأوسط؛ فتَحْت مظلة برنامج «إدارة النزاعات والتخفيف من حدتها»؛ قدّمت الوكالة أكثر من 126 منحة منذ عام 2004م؛ لتعزيز التقارب بين العرب والصهاينة.

أحد البرامج التي تم إطلاقها عام 2017م هو «الصندوق الجديد للسينما والتلفزيون»؛ ويهدف إلى صناعة أفلام مشتركة لليهود والعرب، بهدف إحداث تأثير اجتماعي.

وكذلك دعمت الوكالة الأمريكية -بمبلغ مليون دولار- إطلاق أكاديمية أبليسيدز للتدريب التقني، استهدفت 240 شابًّا من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وبعض الطلبة اليهود، كان الهدف من البرنامج التدريبي إيجاد بيئة مهنية للتفاهم بين الطرفين. وكذلك أطلقت الوكالة برنامج «روّاد الأعمال في الشرق الأوسط من أجل الغد»، واستهدف تدريب 380 شابًّا عربيًّا وصهيونيًّا تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عامًا في مجال التكنولوجيا المتقدّمة وريادة الأعمال.

وأُطلقت «إيكوبيس الشرق الأوسط للتنمية البيئية» بهدف جمع أكثر من 1100 شابّ فلسطيني وصهيوني وأردني، بينهم فتيات؛ بهدف «إيجاد حلول مشتركة لأزمة المياه والصرف الصحي».

إن مجموعة الحلول التي تَطرحها المنظمات الأهلية الأمريكية التي تدعم التَّطبيع -ضمن استراتيجية خلق فرصة للكيان الصهيوني للتعايش في الشرق الأوسط-؛ تركّز على المدنيين والعوام؛ بهدف صُنع نُخَب سياسية واقتصادية وعلمية أكثر قابلية للتقارب بين المسلمين والاحتلال الصهيوني، وتحقيق اختراق يَحُدّ من ارتكاز الشعوب العربية والإسلامية على مَوروثها الصلب من العدالة الشرعية والتاريخية لاستعادة فلسطين، وطرد الصهاينة منها، ومنع أيّ مُطالَبات بخَوْض مواجهة مسلحة مع العدو الصهيوني، لذلك وجدنا محاولات حثيثة لتقزيم أيّ طموحات إسلامية أو عربية للمطالبة بدعم ثبات الفلسطينيين على أرضهم وتعميق الأزمات الاقتصادية والأمنية في محيط الكيان الصهيوني وفي عمق البلدان العربية؛ بهدف إخضاعها وإذلالها أمام مقصلة العدالة الأمريكية. 

لذلك يُنْظَر إلى «بذور السلام» على أنها إحدى المنظمات الأمريكية اليهودية المشبوهة التي تستغلّ مظلة السلام العالمي للتسلُّل إلى الدول العربية والإسلامية عبر منظمات أهلية مختلفة وبرامج «تنموية» متنوّعة؛ بهدف تذويب الهوية الإسلامية والعربية، وصُنع حاضنة واحدة تشبه، كثيرًا، ما يُعرَف بالدبلوماسية الروحية التي أفضت إلى «السلام الابراهيمي»؛ بهدف تعزيز تسلُّل اليهود للدول العربية والإسلامية عبر أدواتٍ مِن صُنعهم.

 

 


أعلى