مراكز الأبحاث... حيث يصنع العلمُ كلَّ شيء

مراكز الأبحاث... حيث يصنع العلمُ كلَّ شيء


مراكز الأبحاث أو مراكز الفكر Think Tank مصطلح يحمل العديد من المعاني والتعـريفات العائدة إلى طبيعة هذه المراكز، واختلاف غاياتها وأهدافها؛ إذ تعرِّفها مؤسسة راند للأبحاث بأنها: «تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة بهدف إجراء بحوث مركَّزة ومكثفة، وتقدم الحلول والمقترحات للمشاكل بصورة عامة وخاصة في المجالات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية والإستراتيجية أو ما يتعلق بالتسلح»[1]. ومن التعريفات الجميلة والمعبرة لهذا المصطلح: «مجموعة من الأشخاص الذين يتقاضون رواتبَ مقابل عدم القيام بأي شيء سوى القراءة والمناقشة والتفكير والكتابة عادةً؛ لمعالجة مسألة ذات أهمية حيوية للإنسانية»[2]. وهذا التعريف يقدم مقاربة حقيقية يمكن من خلالها لصانعي السياسات أصحاب رؤوس الأموال والباحثين والمؤثرين في الشأن العـام وضع تصـور حول مراكز البحث الضرورية ذات القيمة الموضوعية في أبحاثها التي يمكن من خلالها تقويم وضعنا السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي.

ولعل المصطلح Think Tank في ترجمته الحرفية (خزانات الفكر)، يعبِّر بشكل واضح عن أثر هذه المراكز في صياغة السياسات والتحولات العالمية؛ فلن نبالغ لو قلنا: إن أغلب المبادرات التنموية في السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع كان منشؤها من مراكز الفكر والبحث، فهذه المراكز كانت خزانات أفكار محرِّكة للتنمية في البلدان الغربية؛ لذا أولتها هذه الدول اهتماماً كبيراً في صياغة سياساتها وتوجُّهاتها، ووفرت لها الدعم المادي غير المحـدود وأشركتها في صناعة القرارات وبلورة السياسات العامة للدول، وفي هذا يقول صاحب كتاب مراكز البحث العلمي في إسرائيل: «بما أن القضية التربوية والتعليمية في أي مجتمـذذع تعتبر أساسية في مدى قدرته على الاستمرارية بنقل الموروث الثقافي والحضاري المتمثل بالقيم الخاصة، بغرض المحافظة على ذاته وخصوصيته؛ فإن معدل مصروفات 30 دولة من الدول المتطورة في العالم على قطاع التعليم وصل 6.2 % من إنتاجها القومي عام 2001م، في حين بلغ ما أنفقته إسرائيل 8.2% من إنتاجها القومي، مما يشير لمدى اهتمامها بجهازها التربوي والتعليمي أسوة بالدول المتطورة»[3]. فهذا يعطينا تصوراً عن حجم الإنفاق والاهتمام من قبل الكيان الصهيوني والدول الغربية بمراكز البحث مقابل العجز العربي في الإنفاق والبذل كما سنبينه في مقال آخر.

ومراكز الأبحاث في الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة يمكن القول باختصار: إنها «صانعة السياسات وموجِّهة الرأي العام»، وقد تبارت المؤسسات والحكومات العالمية في السيطرة على مراكز الأبحاث، وقد تعددت الأغراض بتعدد هذه المراكز واختلاف السياسات؛ فثمة دول ترى أنه من الممكن من خلال مراكز التفكير Think Tank النهوض بالعملية التنموية في أي بلد، وصناعة التنمية السـياسـية والثقافية بمواهب محلية في أي بلد، ورسم الموجِّهات الأساسية للفعل السياسي والثقافي بل الاجتماعي في ذلك البلد، وقد نحا هذا النحو الهيئة الحكومية الكندية المسماة (مركز بحوث التنمية الدولية IDRC)[4]، حيث قدمت مبادرة اسمتها (ThinK Tank Initiative TTI) وخلاصة هذه المبادرة تمويل أكثـر من 40 مركز أبحاث في 20 دولة لمدة 10 سنوات بين عامي (2009 - 2019م)، من خلال دعم غير مخصص يسمح لها باجتذاب المواهب والكفاءات المحلية وتنميتها ورعايتها، لكي تتمكن عبر التواصل مع الجمهور من تقديم برامج بحوث مستنيرة تؤثِّر على مناقشات السياسات الوطنية والإقليمية، وتدعم هذه المبادرةُ التعلمَ والتبادل بين المراكز المتشابهة، وسعت إلى تعزيز الاستدامة طويلة الأجل لمراكز الفكر الممولة، من خلال الجمع بين التمـويل الأساسي ودعم تنمية القدرات، وذلك في المجالات الثلاثة التالية، وهي:

أساليب ومهارات البحث: فلبناء سمعة جيدة وتأثير كبير لا بد من إنتاج أبحاث قوية تمتلك رؤية تطلعية تدفع إلى التحول التنموي.

التواصل الاجتماعي والمشاركة في صنع السياسات: إذ تسعى هذه المراكز إلى التأثير في حياة الناس في بلدانها، والمشاركة الفعلية في عملية صنع السياسات بغرض تحقيق التأثير المنشود.

الفعالية التنظيمية العامة: من خلال صياغة إستراتيجيات فعالة وبناء أنظمة صحيحة، ودمجها في الهيكل التنظيمي والثقافة لكي تعمل بشكل متناغم يصنع التأثير[5].

وتنطلق الدول الغربية من رؤية مفادها أن مراكز الفكر والرأي هي المسؤولة دوماً عن تقديم الحلول المدروسة لمجموعة متنوعة من مشاكل العالم، وتقديم الحجج المناسبة من أجل تغيير السياسة المحلية والدولية، وقد جاء في موقع https://thebestschools.org/ أن للولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من 1984 مركز أبحاث أي ما يقرب من ثلث إجمالي مراكز البحث والفكر في العالم.

وهذه المراكز البحثية تعد أهم سمة من سمات المجتمع المدني في المجتمعات الغربية، وهي - غالباً - غير حكومية لذا تهتم المؤسسات الغربية دوماً بتقويم أداء هذه المراكز البحثية التي تعدُّ منظمات غير ربحية، وهذا المقال لن يتسع لذكر كل أدلة التصنيف العالمية التي تهتم ببيان أداء هذه المراكز، من خلال معايير محددة أو مقارنة بعضها ببعض، غير أننا سنستعرض أبرز معيار عالمي لتصنيف مراكز الفكر والبحث، وهو Global Go To Think Tank Index الصادر عن جامعة بنسلفانيا، ولكن قبل أن ندخل في تفاصيل هذا المؤشر يجدر بنا أن نذكر موقع https://thebestschools.org/ الذي وضع تصنيفاً لأفضل خمسين مركزاً بحثياً في الولايات المتحدة، وما يهمنا في ذلك التصنيف هي المعايير التي وضعها، وهي كالآتي:

شعبية موقع الويب الرسمي لمركز الأبحاث من خلال المعيار الشهير SEMrush.

متوسط الإيرادات السنوية خلال خمس سنوات، وهذا المعيار ينطلق من مُسَلَّمة أن زيادة الإيرادات تدل على زيادة التأثير، ولكي ندرك مساحة التأثير هذه فمؤسسة راند Rand Corporation التي حصلت على المركز الحادي عشر في هذا التصنيف، بلغ متوسط إيراداتها السنوية 313.2 مليون دولار.

متوسط مراجع الوسائط السنوية من قبل الآخرين.

قيمة مؤشر Global Go To Think Tank الذي تصدره جامعة بنسلفانيا Lauder Institute عن طريق برنامج (TTCSP)[6] الذي يعتمد على تصورات مئات الصحفيين وواضعي السياسات وموظفي مراكز البحوث[7].

وكما أسلفنا أن مِن أشهَر مؤشرات التصنيف والتقويم العالمية لمراكز الفكر والبحث غير الربحية، المؤشر الصادر عن جامعة بنسلفانيا الأمريكية Global Go To Think Tank Index عن طريق برنامج (TTCSP)، بواسطة معهد (Lauder) ويمكننا هنا استعراض أبرز المعايير الصارمة التي يعتمدها هذا المؤشر، في تقويم مراكز الفكر العالمية وهي 28 معياراً وبيانها كالآتي:

 نوعية القيادة: فمن المهم في مراكز التفكير مدى التزام الهيئة الإدارية، وقدرتها على تحقيق إدارة فعالة لبرامج المركز، وتعبئة الموارد المالية والبشرية لتحقيق الجودة والاستقلالية، وبناء التأثير المطلوب.

 جودة وسمعة فريق المركز: من خلال باحثين ذوي مهارات وشهادات عالية وقدرات بحثية معروفة في الإنتاج والتحليل والرصد.

 جودة البحوث المنتجة: من خلال إنتاج بحوث عالية الجودة، لديها القدرة على الوصول إلى صناع القرار.

 القدرة على توظيف الباحثين والمحافظة عليهم.

 عدد المنشورات العلمية وجودتها.

 السمعة الأكاديمية: وذلك من خلال المنهجية الأكاديمية المتبعة في البحوث المنجزة، والاعتماد الرسمي للباحثين في المركز، وعدد المنشورات العلمية سواء كانت كتباً أو مجلاتٍ أو أوراقاً بحثية مقدمة في مؤتمرات، وعدد العروض والمداخلات التي قدمها باحثو المركز في الاجتماعات العلمية ونحوها، وكذلك عدد الاستشهادات بأبحاث المركز من قبل باحثين آخرين.

 أثر بحوث المركز على صناع القرار والجهات الفاعلة في السياسة والثقافة والاقتصاد.

 السمعة الحسنة مع صناع القرار من خلال التعرف على الاسم المرتبط بقضايا أو برامج محددة في دوائر صنع القرار، وعدد البيانات والتعيينات الرسمية، وعدد الملخصات السياسية والتقارير الحكومية والشهادات التشريعية.

 الالتزام الواضح بإنتاج بحوث وتحليلات مستقلة، من خلال السياسات الصارمة في المركز، وكشف المصالح المتضاربة (مادياً ومؤسسياً وشخصياً)، والالتزام بعدم الانحياز، والالتزام بالمعايير المهنية والمنهجية المعمول بها في البحوث الاجتماعية.

 أن يتمكن المركز من الوصول إلى مؤسسات أساسية من خلال القدرة على الوصول إلى الجمهور والتواصل معهم، والمسؤولين الحكوميين، والمجتمع المدني، وكل مؤسسات الإعلام، والمؤسسات الأكاديمية.

 القدرة على إقناع الجهات الفاعلة في رسم السياسات، والمقدرة على تطـوير شبكة فعالة من العلاقات مع مراكز الأبحاث النظيرة.

 الناتج الإجمالي للمركز، وذلك من خلال: المقترحات السياسية، والزيارات على شبكة الإنترنت، والتوصيات والتعليمات، والمنشورات، والمقـابلات، والمؤتمرات، والموظفين المرشحين لمناصب رسمية.

 استخدام وفعالية الناتج الإجمالي للمركز من خلال: الاستخدام الفعال للملخصات السياسية والتقارير والمقتـرحات والتوصيات السياسية من قِبَل صناع القرار، وعدد الموظفين الحاليين أو السابقين أو اللجان الاستشارية التي تؤدي أدواراً استشارية لدى صناعة القرار، وكذلك الجـوائز الممنـوحة للباحثين لإنجازاتهم العلمية وخدماتهم العامة.

 إفادة معلومات مركز الأبحاث في المشاركات الجماهيرية من خلال العمـل الاستشاري أو العمـل الدعوي نحو المطالبة بحقوق معيَّنة، أو إعداد تشريعيات قانونية، أو تقديم شهادات، أو تقديم عروض أو إجراء بحوث أو القيام بمهمة التدريس.

 القدرة على استخدام الوسائل الإلكترونية والطباعة ووسائل الإعلام الجديد في إعداد البحوث والتوصل إلى الجمهور الأساسي.

 السمعة الإعلامية من خلال حجم الظهور الإعلامي والمقابلات الصحفية أو التلفزيونية، أو الاستشهادات بإنتاج المركز.

 القدرة على استخدام الإنترنت ووسائل الإعلام الجديد للمشاركة مع الصحفيين والجمهور وصناع القرار.

 وجود الموقع الإلكتروني والحضور الرقمي للمركز من خلال: جودة الموقع وسهولة الوصول والصيانة الفعالة لشبكة الإنترنت، وجـودة ومستوى الارتباط الرقمي، وعدد زوار الموقع، وعدد المشاهدات، والوقت الذي يُقضى على الصفحة، والإعجابات بالمنشورات، وعدد ونوعية المتابعين.

 مستوى تنوع واستقرار التمويل من خلال قدرة المنظمة على حشد الموارد التمويلية الضرورية لدعم استمرارية المركز عبر الزمن سواء عبر الهبات الوقفية، أم رسوم العضوية، أم التبرعات السنوية، أم العقود الحكومية والخاصة، أم الدخل الخاص المكتسب.

 الإدارة الفعالة للموارد المالية والبشرية من حيث قدرةُ المركز على إدارة أمواله وفريقه بشكل فعال بحيث يُنتِج مخرجات ذات جودة عالية تحقق أقصى أثر ممكن.

 قدرة المركز على الوفاء بشروط الـمِنَح والهبات والعقود مع الجهات الحكومية أو الأفراد أو الشركات والمؤسسات الموفرة للدعم المالي للمركز.

 قدرة المركز على إنتاج معرفة جديدة، من خلال ابتكار مقترحات سياسية أو تقديم أفكار بديلة لسياسات معينة.

 القدرة على تجاوز الفجوة الحاصلة بين صناع القرار والجمهور.

  القدرة على تضمين أصوات جديدة في عملية صنع القرار.

  القدرة على التنظيم والتقيد بالعمل داخل قضايا وشبكات السياسات.

  النجاح في تحدي المعرفة التقليدية لصناع القرار وتوليد الأفكار والبرامج السياسية المبتكرة.

  القدرة على سد الفجوة بين الأوساط الأكاديمية ومجتمعات صنع السياسات.

  التأثير على المجتمع من خلال بناء علاقات مباشرة مع الجمهور، وإحداث تغيير كبير في قيم المجتمع نحو التأثير على قيم الاستهلاك ونوعية الحياة، وحالة الصحة والبدنية والنفسية والذهنية، والجودة النوعية للبيئة، وجودة الحقوق السياسية، والقدرة على الوصول إلى المؤسسات[8].

ومن خلال هذه المعايير قام برنامج (TTCSP) بتصنيف ما يقرب من 6500 مركز أبحاث حول العالم، عن طريق وضع استطلاع لأكثر من 1950 من الباحثين والمانحين من القطاعين العام والخاص وصانعي السياسات والصحفيين المهتمين بأداء مراكز البحوث، وقد تضمن هذا التقرير أيضاً تصنيف مراكز البحث العالمية بناءً على مجالات التخصص والاهتمام نحو: مجال الأمن القومي، والاقتصاد الدولي، والشفافية والحوكمة، وحقوق الإنسان، والسياسة الاجتماعية، والارتباط بصناع القرار والحكومات، والميزانية... وغيرها من المجالات[9].

واستعراض هذه المعايير في هذا المقال الهدف منه بناء تصور واضح عن طبيعة هذه المراكز والعمل المؤسسي الصارم الذي تنتهجه في أدائها البحثي والتحليلي، ولعل هذا يشكل حافزاً عند المهتمين وأصحاب رؤوس الأموال والباحثين لتبني مثل هذه المشاريع وتمويلها؛ فالوضع العربي الحالي الذي يعاني من الاحتراب الداخلي وتضارب المصالح الأجنبية، والفقر متعدد الأبعاد، وأُمِّية القراءة والكتابة، والأمية الإلكترونية، وانعدام الرؤية الإستراتيجية، والأهداف الإنمائية ونحوها من مظاهر التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي يستلزم وجود مراكز بحثية في مناخ بحثي يتسم بالحرية ووجود البيئة البحثية المناسبة بحيث يمكن من خلالها تقويم الواقع العربي وبناء تصورات مستقبلية يمكن من خلالها بناء مستقبل جيد يتجاوز كل العقبات والصعوبات الداخليـة والمرحليـة، وفي المقال القـادم بإذن الله سنستعرض أهم المراكز البحثية العالمية وَفْقَ مؤشرات التقويم المعتمدة وبيان سر تميزها وفرادتها وبيان أهم محفزات البحث العلمي لهذه المراكز الغربية؛ من حيث هامشُ الحرية البحثية الكبيرة للأكاديميين، والدعمُ المادي غير المحدود، والتدريبُ والتطـوير المستمران للباحثين، والحوكمة الجيدة في هذه المراكز المانعة للفساد المالي والإداري ونحوها من المحفزات... على أن نستعرض بعدها التجربة العربية في إنشاء المراكز البحثية وتقديم قراءة نقدية تقويمية لها... والله الموفق والهادي إلى الصواب.


 


[1] انظر: https://www.rand.org/about/history.html

[2] انظر موقع:

https://thebestschools.org/features/most-influential-think-tanks/

[3] مراكز البحث العلمي في إسرائيل (السياسات، الأهداف، التمويل)، عدنان عبد الرحمن أبو عامر، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، لبنان (ص17).

[4] هيئة حكومية كندية تعنى بالبحوث العلمية في مجال التنمية الدولية، ولهذه المؤسسة تعاون كبير مع مؤسسات البحث العلمي والتعليم العالي والهيئات الحكومية في الوطن العربي منذ عام 1971م. وبعد ذلك بثلاثة أعوام أنشأ المركز مقراً دائماً له في المنطقة العربية؛ وذلك بافتتاح مكتب إقليمي في العاصمة اللبنانية بيروت، ثم انتقل مقر المكتب إلى القاهرة عام 1976م، ويعد هذا المكتب مركزاً لأنشطة المركز في 10 دول تمتد من تركيا إلى المغرب.

[5] انظر:  http://www.thinktankinitiative.org/program/about-tti

[6] اختصار : The Think Tanks and Civil Societies Program

[7] https://thebestschools.org/features/most-influential-think-tanks/

[8] انظر:

2018، 1-2019 Global Go To Think Tank Index Report، James G. McGann، University of Pennsylvania Scholarly Commons، USA، pp 30-33.

[9] https://repository.upenn.edu/think_tanks/

 


أعلى