تقسيم أراضي الأندلس أهميته وتاريخه وآثاره
استقر رأي الخليفة عمر بن الخطاب سنة 17هـ على عدم تقسيم الأراضي المفتوحة عنوة بين الجنود الفاتحين، وتركها بأيدي أصحابها على الخراج، مراعياً في ذلك مصلحتين: مصلحة أهل البلاد المفتوحة لتبقى لهم وسيلة ارتزاقهم وعملهم، ومصلحة الأجيال القادمة من المسلمين، فلا يستأثر بالأرض دونهم الفاتحون في جيل واحد، بل يؤخذ منها الخراج، فينفق في مقبل الأجيال على المصالح العامة، وينال منه المستحقون بقدر ما يستحقونه في الزمن الطويل[1]. وهكذا تم التعامل مع أكثر الأراضي المفتوحة عنوة في عهد عمر، فكانت السياسة هي ترك الفلاحين على الأرض، فاعتبرت الأراضي ملك الأمة، وتركت بيد أصحابها لقاء دفع الخراج[2].
أولا: طريقة تقسيم أراضي الأندلس:
تلك إذن صارت هي القاعدة في تقسيم أراضي العنوة. غير أن الأندلس، شذّت عن هذه القاعدة، فقد تم تقسيم أرضها المفتوحة عنوة، وتوزيع أربعة أخماسها بين الجيش الفاتح، والخمس الباقي للدولة، أي إنه تم اعتبارها غنيمة، ولذلك خُمسّت وقسّمت، كما تُخمّس وتقسّم الغنائم المنقولة، وكان هذا التقسيم من حق الإمام أيضاً، لأن هذه المسألة اجتهادية، ولم يرد فيها نص. وكانت أكثر أراضي الأندلس الجنوبية قد افتتحت عنوة[3]، كالجزيرة الخضراء، وشَذُونة، وقرطبة، وإلبيرة، ومالقة، وهذا إضافة إلى طليطلة[4] في الوسط، فكل هذه المقاطعات فتحت عنوة، وجرى تخميس وتقسيم أرضها أربعة أخماس للفاتحين وخمس للدولة، بل وحتى أكثر هذا الخمس أعيد تقسيمه كإقطاعات على الداخلين الجدد. أما أستجة في جنوب قرطبة، وماردة في الغرب، ووشقة في الشمال الشرقي، فقد فتحت صلحاً، وكذلك أغلب أراضي الشمال، ولذلك فإن أهلها صولحوا على الجزية مع أجزاء من الأرض منها مثالثة ومرابعة، كيفما كان طيب الأرض وغلتها، بحسب ما فعله الرسول # في خيبر[5]، فصارت أرضها أرض صلح، وبقيت بأيدي أصحابها النصارى بملكية تامة، وذلك مقابل دفع حصة من إنتاجها، إضافة إلى دفع جزية سنوية عن رءوسهم. وانفردت «تدمير» في الجنوب الشرقي بوضع خاص، إذ إن المسلمين بقيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير حاصروا صاحبها تدمير، الذي سميت باسمه هذه المقاطعة، حتى اضطروه إلى طلب الصلح، وأعطوه بذلك عهدهم، وذلك في رجب سنة 94هـ، وكان هذا العهد على سبع مدائن، قاعدتها أُورْيولة، وبموجبه كان عليها أن تدفع «غرم الجزية من ذلك على كل حر دينار، وأربعة أمداء من قمح، وأربعة أمداء من شعير، أربعة أقساط خل، وقسطا عسل، وقسط زيت. وعلى كل عبد نصف هذا»[6]. وقد تم هذا التقسيم لأراضي الأندلس على مرحلتين، الأولى في عهد موسى بن نصير، في خلافة الوليد (86-96هـ)، والذي وقع الفتح في أيامه، والثانية في ولاية السمح بن مالك الخولاني (رمضان 100هـ - ذي الحجة 102هـ)، في خلافة عمر بن عبد العزيز (99-101هـ) الذي وقع التنظيم النهائي للأرض والخراج في عهده وعن أمره.
ثانياً: التصرف في أراضي الخمس:
لقد تم التصرف في أراضي الخمس في الأندلس، أي الأراضي التي آلت للدولة نتيجة لقسمة أراضي العنوة بين جماعات الجيش الفاتح، كالآتي:
تخصيص جزء منها لمصالح المسلمين:
مثال ذلك أن السمح قام بإخراج خمس قرطبة، فخرج منه البطحاء المعروفة بالربض، والواقعة على الضفة الجنوبية للوادي الكبير، فأنشأ السمح في هذه البطحاء مقبرة للمسلمين، كما أمره الخليفة عمر بن عبد العزيز، وخصص قسماً آخر منها، وهو ميدان فسيح، ليكون مصلى، وهو المصلى الذي كان أهالي قرطبة يؤدون فيه صلوات العيدين والاستسقاء، كما كانت تقام فيه العروض العسكرية المسماة «البروز»، وذلك قبل تحرك الجيش للغزو، كما ترك قسماً من هذه البطحاء لاستيعاب التطور العمراني لقرطبة، وفعلاً نشأ فيه حي جديد ضخم، بعد أن أُعيد تشييد القنطرة على النهر، واتصال هذا الحي، من خلالها بقلب المدينة، وبقصر الأمير والجامع والسوق، واستوعب هذا الحي الآلاف المؤلفة من السكان الجدد، من الحرفيين والطلاب والعلماء، قبل أن يقوم الأمير الحكم (180-206هـ)، بهدمه على إثر ثورة قاموا بها ضده سنة 198هـ[7]، عرفت باسم «هيج الربض».
تحويل قسم منها إلى إقطاعات للعرب الوافدين:
أي العرب الذين دخلوا الأندلس بعد الفتح مباشرة، ولم يكونوا في عداد الفاتحين. وقد منح السمح بن مالك، أمير الأندلس، هذه الإقطاعات، وفقاً لأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، كون العرب القدماء، الذين اضطلعوا بالفتح واستقروا، في ما استقروا فيه من أرض الأندلس، أبوا أن يشركوا هؤلاء الداخلين الجدد، في ما تحت أيديهم من الأراضي، على اعتبار أنها إقطاعات أقطعت لهم بصورة مشروعة، من خليفة سابق، وهو الوليد بن عبد الملك، فاضطر الخليفة عمر بن عبد العزيز، أن يمنحهم إقطاعات جديدة من أرض الخمس[8]، وذلك لتأمين مورد ثابت لهم، لوجودهم خارج بلادهم، ودفع هؤلاء المقطعين العشر للدولة في مقابل الغزو بلا عطاء[9]. وقد تمتع هؤلاء بتوريثها لأبنائهم جيلاً بعد جيل.
ترك باقي أرض الخمس لتزرع لصالح بيت المال:
أي إن هذه الأراضي المتبقية من أرض الأخماس بقيت مورداً ثابتاً للدولة[10]، ومن المؤكد، كما قال مؤرخ إسباني معاصر، أن الطبقة الاجتماعية التي ارتبطت بزراعة الخمس - الثروة المادية والثروة الأخلاقية خلال القرن الثامن - هي التي قامت بعد ذلك بمهمة تصريف شئون بيت المال[11]، وظلت هذه الأراضي كذلك إلى أن ثارت الفتنة سنة 400هـ، وظهور دول الطوائف سيئة الصيت. ولم يجتمع بعدها شمل المسلمين في الأندلس أبداً. ولذلك قالوا: لم تزل أموال الأخماس بالأندلس معلومة معمورة لبيت مال المسلمين مدة الأمراء فيها ثم في دولة الأئمة من بني أمية، تُعمر بأسمائهم أيضاً، إلى أن ثار الرؤساء في كل وجهة وكثرت الفتن، فعمرت.. تلك بطول المدة، واختلاف الدول والولاة[12].
ثالثاً: أهمية هذا التقسيم:
وكان تقسيم أراضي الأندلس المفتوحة عنوة بين الفاتحين، بعد استخراج الخمس منها للدولة هو التقسيم المناسب، الذي يتفق مع خصوصية هذه البلاد، وللاعتبارات التالية:
اعتبار الأندلس دار جهاد ورباط:
فقد اعتبر الخليفة عمر بن عبد العزيز الأندلس دار جهاد ورباط، لأن البحر يفصلها عن بقية البلاد الإسلامية، وأيضاً لأنه كان يحيط بها أصناف أهل الكفر، فاعتبرها ثغراً يجوز للإمام أن يقطع أرضها لمن فتحوها، ومن يقومون على حمايتها[13]. فقد اقتضت الحاجة أن يكون الخلفاء أكثر اهتماماً بالمسلمين المقيمين في الثغور، وأكثر رعاية لمصالحهم، وذلك لترغيبهم في سكناها، وتولي أمر حمايتها، حتى لا يعود إليها أهل الشرك، وكذلك اتخاذها قاعدة للجهاد في ما يليها، وذلك لتدبير مورد دخل ثابت لهم يرتزقون منه، لوجودهم خارج بلادهم، ولكي يتقوون به على العدو المتاخم لهم، وذلك أكثر من اهتمامهم بالجنود المقيمين في الولايات غير الثغرية.
أن جل الجنود كانوا مقتنعين بما تحت أيديهم:
بمعنى أن جل الجنود الذين شاركوا في عملية فتح الأندلس كانوا مقتنعين بما تحت أيديهم من الأراضي والعقارات التي سيطروا عليها بعد الفتح، بل إنهم كانوا قد استقروا فيها وزرعوا أرضها وشيدوا فيها الدور والمساكن، باعتبارها غنائم غنموها، أو باعتبارها أراضي جلا عنها أصحابها، أو قتلوا في المعارك، أو كانت أرضاً مواتاً لا يملكها أحد، فتم إحياؤها على أيديهم، فلم يكن ثمة طريقة عملية للتقسيم أفضل من إبقاء هذه الأراضي بأيدي هؤلاء الفاتحين، بعد أخذ الخمس منها للدولة، طالما وأن ذلك يتماشى مع العرف الإسلامي.
أن معظم الجيش الفاتح لم يكن مسجلاً في الديوان:
وذلك أن معظم الجيش الفاتح للأندلس كان من اليمانية ومن البربر، وكان الأنصار أو المدنيون من أشهر العشائر التي رافقت حملة موسى بن نصير[14] إلى الأندلس سنة 93هـ. وأغلب هؤلاء لم يكونوا مسجلين في الديوان، أي لم يكونوا ممن تُجرى عليهم الأعطية والأرزاق من بيت المال، كما هو شأن الجنود الشاميين، الذين كانوا بمثابة جيش رسمي للخلافة الأموية. فكان ترك هذه الأراضي بأيدي هؤلاء الجنود هو البديل للعطاء من الديوان، لكي يكون إنتاج هذه الأراضي مصدر دخل ثابت ومتجدد لهم ولأبنائهم من بعدهم، وذلك لإغرائهم بالبقاء والاستقرار بهذه البلاد النائية عن دار الخلافة. ولما كانت هذه الأرض لا تدفع إلا العُشر لبيت المال فكان المجال واسعاً أمام هؤلاء لإعطاء الأرض للفلاحين المحليين بالمزارعة، أو بنسبة من الحاصل، ويبقى نصيبهم بعد ذلك مجزياً، فكانت هذه الأراضي خير معين لهم ولأبنائهم على البقاء بالأندلس.
رابعاً: النتائج التي ترتبت على هذا التقسيم:
لقد كان لهذه الطريقة في قسمة أراضي الأندلس مردود إيجابي كبير بعد الفتح، فقد شجع امتلاك الأراضي على انبساط الآمال في العمران والأخذ بأسبابه، فكان سبباً في حسن استغلال هذه الأراضي، وفي زيادة الإنتاج، وانتعاش الحياة الزراعية وازدهارها، كما كان لذلك التقسيم دور مهم في تحسين أحوال المزارعين، وتقسيم الملكية، وتمزيق الملكيات الكبيرة، نظراً لتوزيع الأراضي المفتوحة على أكبر عدد من الناس، بعد أن كانت في قبضة عدد قليل من الأغنياء الإقطاعيين، يعمل في خدمتها وزراعتها عددٌ كبيرٌ من العبيد البائسين، الذين يعيشون بلا أمل في الخلاص من بؤسهم هذا، خاصة وأن رجال الدين أنفسهم كانوا ممن يملكون الضياع الواسعة ويعاملون الناس كعبيد عندهم[15]. وهذا برغم أن عدداً من الأشراف استطاعوا المحافظة على أراضيهم الواسعة عن طريق مبادرتهم لإبرام معاهدات صلح مع الفاتحين. وفي ذلك يقول المستشرق الهولندي دوزي: أما سلطان أصحاب الامتيازات والأشراف فقد تضاءل إلى حد التلاشي، وظهرت الملكيات الصغيرة، نظراً لتوزيع الأراضي المصادرة على عدد كبير جداً من الناس مما انطوى على الخير العميم، وكان من أحد الأسباب التي أدت إلى ازدهار الزراعة في إسبانيا العربية[16]. ويقول محمد عبد الله عنان: وقد ازدهرت الزراعة بالأخص عقب الفتح لما حدث من توزيع أفضل للأرض، وتحسين أحوال العاملين فيها[17]. وفي ما يتعلق بتحسن أحوال المزارعين والعبيد يقول العلامة ألتاميرا: وكان يفرض على العمال الملازمين من القوط، الذين يشتغلون بزرع الأرض أن يدفعوا للسيد أو القبيلة المالكة ثلثي أخماس المحصول، وكان من أثر ذلك أن تحسنت أحوال المزارعين.. كذلك تحسنت حال العبيد، لأن المسلمين كانوا يعاملونهم بأفضل مما كان الإسبان والرومان والقوط، ولأنه كان يكفي أن يدخل العبد في الإسلام ليغدو حراً[18]. ويقول حسين مؤنس: لقد أزال العرب النظام الذي كان سائداً أيام القوط، والذي كان يجعل الزراع جميعاً إما رقيق أرض، أو عمال أرض أحراراً أقرب إلى الرقيق، أو عبيداً، فأزال العرب ذلك كله، فلم يبق إلا الأحرار والعبيد أو الأرقاء، فإذا أسلم الرقيق صار حراً له ما للأحرار من حقوق، أما رقيق المسلمين الأندلسيين فحكمهم حكم الرقيق كله في العالم الإسلامي، وهو معروف، وقد احتفظ العرب بالتنظيم العام للزراع في قرى أو ضياع[19]. وهكذا كان الفتح الإسلامي للأندلس بداية أعمق وأكبر تطور عرفته الزراعة في هذه البقعة، التي كانت قد آلت إلى حالة من التخلف والكساد في السنين الأخيرة من حكم القوط الغربيين، جراء اندلاع أزمة عامة أصابت جوانب الحياة كافة[20].
خامساً: الأثر البعيد لهذه السياسة:
وكان هذا التقسيم، وإقطاع الأرض للجند الفاتح لاستغلالها، خير معين للمسلمين الفاتحين ولأبنائهم على البقاء بالأندلس، وأدى ذلك بدوره إلى استغنائهم عن الاحتياج لميزانية الدولة، وقد بدا واضحاً في نحو العام 750هـ أن نظام توزيع الأرزاق لم يعد يشكل، على ما نظن، والكلام للمستشرق مونتغمري وات، سوى جزء ضئيل نسبياً من دخل الفرد، فأهمل بعيد ذلك التاريخ على الأرجح، لكن كثيراً من عرب الأندلس قد أصبحوا قبل ذلك من ملاك الأراضي، وأقاموا في مدن قريبة من إقطاعاتهم[21]. وقال أحد المستشرقين: لقد استمرت قبائل العرب الشاميين في غمار من الروم يعالجون فلاحة الأرض وعمران القرى يرأسهم أشياخ من أهل دينهم، أولو حنكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية لرؤوسهم»، فاحتفظ العرب بسكان البلاد الأصليين، وهيأوا السبل لدخول المهاجرين إليها من المسلمين على اختلاف عناصرهم، ومن غيرهم، فأسلم كثير من أهل البلاد، واختلطت أنسابهم بأنساب العرب[22]. بل كانت هذه السياسة، أي سياسة إقطاع الأرض للجند الفاتح بدلاً من العطاء، من مصادر قوة المسلمين، ومن عوامل ظهورهم على أعدائهم، لقرون، كما اتضح ذلك في ما بعد، أي بعد تغيير هذه السياسة في آخر عهد الحاجب المنصور. هذا الأخير الذي ألغى الإقطاع وجعل الجيش كله نظامياً دائماً، بحيث صار كل جندي يتقاضى راتباً شهرياً من الدولة، بحسب رتبته بدلاً من استغلاله للإقطاع. ولقد أفاد هذا النظام في بادئ الأمر، إذ زالت العصبية القبلية بين فرق الجيش.. ولكن بعد موت المنصور وابنه المظفر، دبّ الفساد في جسم الدولة، فلم تستطيع الحكومة دفع رواتب الجند، فكثر شغبهم، وانتقل الفساد إليهم، فضعفوا وهزموا أمام العدو، وظل الحال على هذا النحو إلى أن جاء المرابطون في القرن الخامس الهجري، فرأوا أن خير وسيلة لإصلاح حالة الجيش، هي إعادة النظام الإقطاعي العسكري من جديد[23]. وفي هذا يقول المؤرخ والفقيه أبو بكر الطرطوشي: سمعت بعض شيوخ بلاد الأندلس يقولون: ما زال أهل الإسلام ظاهرين على عدوهم وأمر العدو في ضعف وانتقاص لما كانت الأرض مقطعة في أيدي الأجناد، فكانوا يستغلونها ويرفقون بالفلاحين، ويربونهم كما يربي التاجر تجارته، فكانت الأرض عامرة، والأموال وافرة والأجناد متوفرين والكراع والسلاح فوق ما يحتاجون إليه، إلى أن كان الأمر في آخر أيام ابن أبي عامر، فرد عطايا الجند مشاهرة، وأخذ الأموال على النطع(؟!)، وقدَّم على الأرض جباة يجبونها فأكلوا الرعايا واحتجنوا أموالهم، واستضعفوهم فهربت الرعايا وضعفوا عن العمارة، فقلت الجبايات المرتفعة إلى السلطان، وضعفت الأجناد، وقوي العدو على المسلمين، حتى أخذ الكثير منها، ولم يزل أمر المسلمين في نقص، وأمر العدو في ظهور، إلى أن دخل الملثمون، فردوا الإقطاعات، كما كانت في الزمان القديم، ولا أدري ما يكون وراء ذلك[24].
سادساً: أنواع الأراضي والخراج:
لقد انعكس هذا التقسيم على ملكية الأرض، وبالتالي على الضرائب التي تدفع عنها، وظهر في ما بعد أن هناك أربعة أنواع رئيسية من الأراضي في الأندلس، هي:
أراضي العُشر:
وكانت تشمل أراضي العرب الفاتحين (البلديون)، وأراضي من دخل بعدهم وصار حكمه حكمهم، والأراضي التي أسلم أهلها عليها عند الفتح، وأراضي الصلح التي ظلت بأيدي أصحابها عند الفتح ثم أسلموا بعد ذلك. فقد لوحظ في ما بعد أنّ أحفاد العرب البلديين، والمسلمين من أهل البلاد، كانوا يدفعون عُشر إنتاج أرضهم للدولة، وكان أهل بيوتات منهم يغزون، كما يغزو الشاميون، بلا عطاء[25]، أي إن هذه الأراضي كانت ملكاً لهم، ولكن كان عليهم بالمقابل الخروج للغزو من غير عطاء، ومن لم يكن يرغب في الخروج، فكان يلزمه دفع التعويض. وقد استمر هذا الشرط سارياً حتى سنة 388هـ، ففيها صدر الأمر من المنصور بإعفاء الناس من إجبارهم على الغزو، استغناء بعدد الجيش، واستظهاراً بأصيل العز[26].
أراضي الخراج:
وهي أراضي العنوة التي تركت بأيدي النصارى، ليزرعوها مقابل حصة من إنتاجها للدولة، وهو الخراج، ثم آل ثلث هذه الحصة إلى الشاميين الذين دخلوا الأندلس سنة 124هـ، حيث قام أبو الخطار أمير الأندلس بتوزيعهم على الكور: فأنزل أهل دمشق بإلبيرة، وأهل الأردن برية، وأهل فلسطين بشذونة، وأهل حمص بإشبيلية، وأهل قنسرين بجيان، وأهل مصر بباجة، وقطيعاً منهم بتدمير[27]. وهذه الكور عُرفت، باسم «الكور المجندة»، لأنها أصبحت مراكز للأجناد، فكانت تساهم بالعدد الأوفر من المقاتلين المشتركين في الغزو. ولذلك لوحظ أن أحفاد هؤلاء العرب لم يكونوا يدفعون شيئاً من دخولهم للدولة، إنما كانوا يقدمون فرساناً بدلاً عن الضرائب، لأنهم كانوا في الديوان، فكانوا يأخذون أعطياتهم كمقاتلة من ثلث الحاصل من أراضي أهل الذمة، وهو الخراج، ولم يتملكوا أي أرض، قال الرازي: ولم يكن الديوان والكتبة إلا في الشاميين خاصة، وكانوا أحراراً من العُشر، معدين للغزو، ولا يلزمهم إلا المقاطعة على أموال الروم التي كانت بأيديهم[28].
أراضي الصلح:
وهي الأراضي التي صالح عليها أهلها عند الفتح، وبالتالي احتفظوا بملكيتها كاملة، مع دفع حصة معينة من الخراج عليها، إضافة إلى الجزية عن رءوسهم. وصار لهؤلاء حق التصرف في هذه الأراضي بيعاً، وشراء، وهبة، وتوريثاً، وهو حق كان محرماً عليهم في ظل سيادة القوط قبل الفتح. وهذا مثل أراضي تدمير، وأراضي أستجة، وكثير من أراضي الشمال. وكانت هذه الأراضي تتقلص كلما زادت أعداد الداخلين في الإسلام من أهلها، لأنها تتحول إلى أراضي عُشرية.
أراضي الدولة:
وهي الأراضي التي حصلت عليها من خمس أراضي العنوة، التي قسمت بين الفاتحين، وأيضاً أراضي الصوافي، التي كانت للأمراء السابقين ورجال الدين، الذين قتلوا في المعارك أو فروا إلى الشمال، وهذه الأرض كانت تضم: أخصب وأغنى وديان شبه الجزيرة الإسبانية[29]، وكانت قيمة المحصول الناتج منها كبيرة أيضاً، فكانت تغطي نفقات الدولة كافة، بل كان هناك فائض سنوي، مكن الدولة من تغطية نفقات الغزوات المستمرة، وكذا تمويل إنشاء المشاريع المختلفة. وكان هناك إلى جانب هذا المصدر مصادر أخرى عديدة. وكان الذي تولى عمارة هذه الأراضي مزارعون اختيروا من خمس السبي، وذلك مقابل ثلثي الناتج، والثلث المتبقي للدولة.
[1] سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الشروق، بيروت، د.ت، ص149.
[2] عبد العزيز الدوري، أوراق في التاريخ والحضارة، الأعمال الكاملة (9) مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009م، ص65.
[3] محمد الغساني، رحلة الوزير، طبعة نوري الجراح، 2002م، ص139-140.
[4] المقري، نفح الطيب (1/257 - 275)، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968م، ابن الخطيب، الإحاطة (1/101)، تحقيق عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1973م.
[5] الغساني، ص143.
[6] العذري، ترصيع الأخبار، قطعة منه، نشرت بعنوان «نصوص عن الأندلس»، تحقيق الأهواني، معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، 1965م، ص4-5، 10.
[7] انظر، دوزي، تاريخ المسلمين في إسبانيا (1/66) ، ترجمة، حسن حبشي، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1995م.
[8] الغساني، ص140-141.
[9] يحيى أبو المعاطي، الملكيات الزراعية وآثارها في المغرب والأندلس، رسالة لنيل الدكتوراه (غير منشورة)، جامعة القاهرة، 2000م، الورقة 69.
[10] المرجع السابق، ص69، حسين مؤنس، فجر الأندلس، الشركة العربية للطباعة، القاهرة، ط1، 1959م، ص619.
[11] أمريكو كاسترو، إسبانيا في تاريخها المسيحون والمسلمون واليهود، ترجمة على إبراهيم منوفي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م، ص88.
[12] الغساني، ص141.
[13] مؤنس، ص627.
[14] خليل السامرائي وآخرون، تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط1، 2000م، ص67.
[15] لين بول ستانجي، قصة العرب في إسبانيا، ترجمة علي الجارم، مطبعة المعارف، القاهرة، د.ت، ص16.
[16] دوزي (1/47).
[17] محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، مطبعة لجنة التأليف، القاهرة، ط4، مزيدة منقحة، 1969م، ص689.
[18] عنان، ص75.
[19] مؤنس، ص465-466.
[20] إكسبراثيون غارثيا سانشيز، الزراعة في إسبانيا المسلمة، بحث منشور في مجلد الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس (2/1367)، تحرير سلمى الخضراء، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، ديسمبر 1998م.
[21] مونتغمري وات، في تاريخ إسبانيا الإسلامية، ترجمة رضا المصري، شركة المطبوعات، بيروت، ط2، 1998م، ص35.
[22] محمد كرد علي، غابر الأندلس وحاضرها، المكتبة الأهلية، القاهرة، ط1، 1923م، ص34.
[23] أحمد العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، دار النهضة العربية، بيروت، د.ت، ص243.
[24] الطرطوشي، سراج الملوك، القاهرة، 1289هـ/1872م، ص123-124.
[25] الإحاطة (1/104).
[26] ابن الخطيب، أعمال الأعلام، طبعة بروفنسال، 1956م، ص68.
[27] ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، طبعة الأبياري، 1989م، ص44.
[28] أعمال الأعلام، ص104.
[29] عنان، ص680.