التنمية البشرية وغياب الرؤية الشرعية
فروع التنمية البشرية ليست مجرد وسيلة للتحفيز الذاتي، فقد أصبحت وثيقة الصلة بالشأن العام أيضاً، فمتخصصوها هم المستشارون السياسيون للقادة والزعماء، وكذلك وجودهم أصبح ضرورياً في إدارة المؤسسات، والمعاني التي يصيغها مدربوها تنتشر في الآفاق وتبسط ليستخدمها العامة وتصير كالحكم والأمثال وتضع مناهج التفكير والإدارة.
في الوقت ذاته، تفرض ثقافة المذاهب الشرقية نفسها على أطروحات التنمية البشرية بشكل عام، ويتأثر الغربيون بأفكارها مع تطوير وإضافة الطابع العلمي، والمتأمل لكتابات أبرز المؤلفين والخطباء في هذا المجال يدرك كم يدندنون طويلاً حول معانٍ عرضها القرآن الكريم والسنة النبوية بعبارات موجزة بليغة، مثال ذلك ستيفن كوفي في كتابه «العادات السبع» الذي يعد من أهم كتب التنمية البشرية والإدارة وأعلاها مبيعاً، وقد صنفت عدة كتب منبثقة عنه.
في وسط هذا الكم الهائل من المؤلفات الشرقية والغربية يقف المسلمون في موقف النقد - غالباً -، رغبةً في كشف الزيف والمخاطر العقدية أحياناً في كلام البعض، بينما هم الأحق بأن تكون لهم اليد الطولى للنبوغ في هذا العلم، وتقديم قيم النجاح والسلام الذاتي والمجتمعي للعالم بمصطلحات إسلامية عصرية مبسطة، وعدم الاكتفاء بكتب بعض الأفذاذ مثل ابن القيم وابن الجوزي، لأن الواقع يحتاج إلى تطوير وإسقاط للأفكار وتبسيط للعبارات بما يناسب طرق التفكير والمعيشة المعاصرة.
في عام 1990م أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقرير التنمية البشرية الأول، وبداخله مؤشر التنمية البشرية HDI، واستمر في تقديم التقارير كل عام، وقدم لها تعريفاً ظل يضاف إليه أبعاد معينة على مدار عشرين عاماً.
وفي دراسة أعدها مركز أكسفورد لمبادرة الفقر والتنمية البشرية OPHI والذي يهدف لتقديم إطار اقتصادي للحد من الفقر مرتكزاً على تجارب الناس وقيمهم، ناقش مفهوم التنمية البشرية، ومقاييسه، وتطوره، وربط بينه وبين أربعة مفاهيم أساسية متعلقة به، وهي:
الأهداف الإنمائية للألفية.
حقوق الإنسان.
الأمن.
السعادة.
أشارت الدراسة إلى تطور مفهوم التنمية البشرية منذ عام 1990م وحتى 2009م، في تقارير وأدبيات المؤسسات الدولية والجماعات الأكاديمية والسياسية، وكيف دخلت فيها مع الوقت مفاهيم احتلت مكاناً مهماً فيها مثل: المساواة وإتاحة الفرص وتنمية القدرات والبيئة، والمساواة بين الجنسين، والفقر، والعولمة، والحريات الثقافية، والهجرة.
وتؤكد الدراسة على أن أول تقرير للأمم المتحدة حول التنمية البشرية قدم أغنى مقدمة من بين التقارير اللاحقة، حيث قدم صياغة واضحة وتأسيساً لمفهوم التنمية البشرية، وركز على المفاهيم المتعلقة والمقاييس.
ففي الفصل الأول من التقرير بعنوان «تعريف وقياس التنمية البشرية» كانت هذه الكلمات الشهيرة: «الناس هم الثروة الحقيقية للأمة، والهدف الأساسي للتنمية هو خلق البيئة التمكينية للناس ليعيشوا حياة طويلة وصحية وخلاقة، قد يبدو هذا كحقيقة بسيطة، ولكنه غالباً ما يُنسى في ظل القلق الآني حول توفر السلع والثروات المالية».
وأوضحت الافتتاحية أن هذا الهدف يغيب عن الأنظار، برغم أنه ليس جديداً، فأشهر المفكرين والفلاسفة أشاروا إليه، لكنه يحتاج لاهتمامٍ متجددٍ وقياسٍ للتقدم المتفاوت بين البلدان في تحقيقه، وبالتالي تنص الافتتاحية لأول تقرير تنمية بشرية على أن «التوسع في الإنتاج والثروة ليس سوى وسيلة، والهدف النهائي للتنمية البشرية يجب أن يكوه رفاه الإنسان».
التعريف: «عملية توسيع خيارات الناس ليقودوا حياة طويلة صحية، ويحصلوا على التعليم ويتمتعوا بمستوى معيشي لائق».
التمييز بوضوح بين جانبين للتنمية البشرية:
الأول: تشكيل القدرات البشرية، مثل: تحسين الصحة، وتطوير المعرفة.
الثاني: استخدام الناس للقدرات التي اكتسبوها، في العمل أو أوقات الفراغ.
وبرغم أن التعريف كان يضم أبعاداً مختلفة على مر السنين، بالتركيز على أمور تفرض نفسها على العالم سياسياً واجتماعياً، فقد بقي التعريف الرئيس للتنمية البشرية على أنها «توسيع لخيارات الناس وتوفير التعليم والصحة» ثابتاً، لكن أضيفت إليه أمور، مثل: الحريات والحقوق الفردية، المساواة والإنصاف، الاستدامة (الحفاظ على النتائج عبر الزمن). فتقرير 2001م ركز على جعل التقنية الحديثة تعمل من أجل تنمية الإنسان، أما تقرير 2002م فقد ركز على الديمقراطية في عالم مجزأ، وتقارير لاحقة ركزت على أبعاد مثل التعاون الدولي، وإنهاء الفقر، واحتواء تدفقات الهجرة الدولية، وندرة المياه، وأزمة المناخ.
التنمية البشرية متعددة الأبعاد ومكوناتها مترابطة، فسياسات النهوض بالتنمية البشرية تأخذ نظرة شمولية، ولا تقاس فقط بمستوى دخل الفرد، والناتج الاقتصادي للدول، وإنما بتحقيق الرفاه وتمكين الإنسان على أصعدة مختلفة.
وأشار التقرير إلى الصعوبة التي واجهها المركز النمائي في مقياس السعادة، بداية من تعريفها، وحتى إشكالية قد تؤدي لنتائج كارثية، إذا اعتمد مفهوم التكيف كمكون أساسي للسعادة، فالناس في الدول النامية والمهددة أمنياً قد يكونون أكثر تكيفاً من غيرهم في الدول المتقدمة والتي تأخذ مقياساً عالياً في بقية مؤشرات التنمية البشرية.
التنمية البشرية وعلم النفس:
ولأن مفهوم التنمية البشرية يركز على الإنسان باعتباره الثروة الحقيقية وهو صانع التقدم، وهو الهدف أيضاً من عملية التنمية بأبعادها المختلفة، فقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بـ«تطوير الذات»، وما أطلق عليه «علم النفس الإيجابي»، فعملية توسيع الخيارات أمام الأفراد، وتمكينهم من عيش حياة أفضل كان لابد وأن تُعنى بالإنسان من الداخل، وتمنحه التوجيه الفكري والروحي والدعم النفسي، فلم تقتصر على الجوانب الحكومية والسياسية وحدها، بل انتشرت أدبيات هذا الاتجاه بشكل هائل في العقدين الماضيين، وامتلأت الأرفف بالكتب، وتلاحقت الندوات والدورات الدراسية في مختلف أنحاء العالم، وتصدر المتحدثون فيه واقتربوا من أهل الحكم والإدارة والإعلام، بل وأصبحت لها شهادات معروفة أحياناً ومجهولة في أغلب الأوقات، وأصبح مصطلح «التنمية البشرية» لدى أغلب الناس يشير إلى تطوير الذات، حتى إن الكثيرين لا يعرفون أنه بالأساس كان اقتصادي الطابع، وله أبعاد سياسية وبيئية واجتماعية ويُقاس سنوياً على مستوى الحكومات، فالانتشار الساحق له كان في الجوانب النفسية، وما تقاطع منها من أمور شملت كل تفاصيل الحياة تقريباً، ابتداءً من طريقة التفكير والشعور، مروراً بالحياة الروحية والزوجية وتربية الأولاد وفنون الإدارة وتنظيم الوقت، وحتى التحكم في الأحداث والسيطرة على الآخرين والشفاء الذاتي وتفسير الأمراض، بل إن النوم والطهي والديكور والألوان كلها تأثرت بشكل مباشر بهذه الأدبيات المختلفة.
التنمية البشرية والأديان:
المفهوم بحد ذاته لا تحمله عقيدة بعينها، ولكن الجوانب النفسية، وتطوير الذات كان لا بد وأن يأخذ من منهل ما، يمده بقوة روحية، في ظل جفاف علم النفس التقليدي، والذي كثيراً ما تكون أفكاره معيقة ومحبطة، مما يتعارض مع التوجه نحو تنمية الإنسان وتطويره وتمكينه.
ولأن العالم الغربي كان يعاني بالفعل من بوار روحي، وأزمة تاريخية مع النفس الإنسانية الموسومة بالشر والمحكومة بالخطيئة، فكان من الطبيعي إذا أراد أن يركز على هذه النفس ويطورها ويحررها ويمكنها، أن يسير في بحثه عن التوجيه الداخلي وجهة أخرى لا توفرها المصادر المسيحية المتآكلة من جهة، ولا يُعرج عليها - بطبيعة الحال - التيار العلمي الإلحادي الجاف، فكان التوجه إلى الديانات الشرقية المعتقدة بوحدة الوجود، والاعتقاد بالقوى الخارقة، والأفكار الهلامية الفضفاضة؛ طمعاً في العثور على إجابات للأسئلة الكبرى في الحياة من حقيقتها ومصيرها وقوانينها، بالإضافة إلى طقوس عديدة أضاف عليها الإنسان الغربي وأعاد صياغتها.
«الأسلمة» الزائفة:
إن أرفف المكتبات العربية تعج بكتب التنمية البشرية المترجمة، وبرغم وجود محاولات أصيلة وناجحة لتقديم طرح إسلامي، لكنها تبقى ضعيفة بالمقارنة مع الإنتاج الوافد، سواء من حيث الكم أو التأثير والانتشار.
وليست لدى المسلم مشكلة في الاستفادة مما في هذه الكتب، فالحكمة ضالته، وبعضها بالفعل مليء بالفوائد، ولكن المشكلة في أن غياب أو ضعف الإنتاج الأصيل أخرج أفكاراً ومصطلحات ومدربين متأثرين بشدة بالأفكار والطقوس والطرائق الباطنية الثيوصوفية، والبعض يتعامل معها على أنها علم، ويقدمها ويدافع عنها كأنها منتج علمي، ولكن الفلسفة مهما ارتدت ثياب العلم، وانتحلت ألفاظه ومسمياته ستبقى فلسفة، تعبر عن مشارب مؤسسيها والداعين لها، ففكرة أن العقل يصنع القدر ويخلق الأحداث لن تصبح قانوناً علمياً مهما ردد أصحابها والداعون إليها أنها «قانون للجذب».
كما أن التغيير في الألفاظ أو محاولة «أسلمتها» لا يغير حقيقة الفكرة، فمترجمو كتاب «السر» - وهو من أعلى الكتب مبيعاً وانتشاراً في العالم - إلى العربية غيروا كلمة الكون إلى «الله»، فلم يكن من المستساغ أن ينشر الكتاب في العالم العربي بألفاظ من قبيل «الكون سيستجيب» أو «اسأل والكون سيعطيك»!
أما محاولة تطويع الفكرة لتلائم عقل ومعتقدات المتلقي، وتنفي عنه الغربة مع الفكرة الدخيلة، فهي شائعة جداً، ويستخدمها الكثيرون، وتساعد على رواجها وقبولها، فالكثيرون تلقوا فكرة ما سُمي بـ«قانون الجذب» عندما أُلصقت بها مفاهيم الدعاء وحسن الظن بالله كما روج لها دعاتها في بلاد المسلمين، برغم أن الفكرة الأصلية بعيدة تماماً عن الإيمان بالله، وشتان ما بين المسلم الذي يدعو ويرجو من الله الإجابة، بمحض عفوه وكرمه وفضله، ويتوجه إلى إله يعتقد أنه «لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون»، وبين من يرسل الأفكار إلى الكون وهو يعتقد أن الكون مجبر ومحكوم بقانون أن يمنحه ويجمع له ما يتشابه مع أفكاره، لا خيار له ولا إرادة، قانون إذا نفذت فيه فعل الشرط حصلت على جواب شرطه! والحديث عن فكرة الجذب ليس هذا مكانه ولكنه مجرد مثال.
كذلك بعض طرق تحليل السمات وأنماط الشخصية والتي تتمسح بالعلم أيضاً ويطلق عليها «الجراسيكولوجي»، تلقى رواجاً بين المتلقين المسلمين عندما تُربط بأحاديث نبوية، كما في بوصلة الشخصية، وبعض أفكار البرمجة اللغوية العصبية، ولكن المحتوى ظل على حاله.
عندما تخلف الحصان الأسود عن السباق:
أحد المتحدثين البارزين في التنمية البشرية يحكي أنه كان حريصاً على تلقي دورة لمحاضر أمريكي، وكانت تكاليفها مرتفعة جداً، فظل يجمع لها، ولكن بعد حضوره لها، وجد أن ما أطال ذلك المحاضر في شرحه، وظل يدندن حوله ويضرب له الأمثال هو أمر معلوم لدى المسلمين.
وليس المقصود التهوين من الأدبيات الوافدة في هذا الباب، فبعضها نتاج عقول ثرية، ومراقبة طويلة المدى، وخبرة حقيقية ينبغي على المسلمين ألا يهملوها، ولكن من المعتاد أن تجد في الجيد منها معاني يطيل الكاتب أو المحاضر في شرحها وهي موجودة في الإسلام بأبلغ عبارة وأجمع الكلم.
من الوعظ إلى البرامج:
إنسان اليوم بحاجة إلى التجربة العلمية، وعرض الأفكار في قالب تطبيقي أكثر بكثير من حاجته للوعظ والنصائح العامة.
كتب وبرامج التنمية البشرية الناجحة تهتم بتقديم حلول عملية مرتبطة بفكرة عامة تحكمها فكرة مؤثرة ومحفزة للنفس، تهتم بتفاصيل نفسية وحياتية، وتحسين السلوكيات بضرب الأمثلة، واستناداً في كثير من الأحيان إلى نتائج إحصائية، وملخصات دراسات.
فهل أحسن المسلمون تقديم قيمهم الروحية المتغلغلة في ثنايا حياتهم، وعرض آدابهم وسلوكياتهم والحلول المبثوثة في دينهم لمشكلات الحياة، مع ضرب المثال والربط بالواقع والدعم بالدراسات.
ماذا يعرفون عن الإسلام؟ يصل إليهم من القنوات المشوهة عنفاً وشهوة وظلماً للمرأة، فيركز الدعاة والمصلحون على دفع الشبهات وإيضاح الحقائق، ولكن ماذا لو ركزنا على منح هذا العالم ما يفتقده، والتوقف عن موقف الناقد والمتربص الشاعر بحجم المؤامرات من حوله؟
ماذا لو اهتممنا أكثر من شن الحرب على التنمية البشرية، بأن نتقدم السباق، ونأخذ موقعنا الذي يليق بدين عظيم يقدم إجاباتٍ شافيةٍ للنفس البشرية المضطربة، فلا نرضى بمظهر الرافض المعيق لما يعتبره الكثيرون مساعدة للإنسان على المضي في الحياة وتقوية نفسه، وحل مشكلاته، بل نحمل ونقدم النور الذي معنا، ونقتحم هذه المسالك على بصيرة، ولا نكتفِ بدعوة عامة إلى الرجوع للكتاب والسنة، بل نغرف منهما ما ينير حياتنا وحياة الآخرين، فإذا كانت خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، فعلى المفكرين والمصلحين ممن آتاهم الله الحكمة أن يقاوموا ما يرون من تشوهات باقتحام هذا العالم بما لدينا من كنوز ربانية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِـحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ 33 وَلا تَسْتَوِي الْـحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34} [فصلت: ٣٣، 34].
لدى المسلمين منظومة متكاملة، ومعانٍ كثيرة وأصيلة وثرية تجعلهم سباقين في هذا الدرب، هذا العالم يحتاج منا أن نطلعه على الحياة الروحية في الإسلام، أن نهديه وهو غارق في بحار مظلمة للباطنية لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تستطيع الصمود في بحار الحياة.. مفاصلة بين عالم مادي جاف وطقوس روحية يبحثون عنها كطوق نجاة.
هذا الهوس بالتأمل والبحث عن طرقه وفوائده، هل قدمنا لهذا العالم صلاتنا بالشكل الصحيح، حقيقتها وتأثيرها؟ هل قدمنا لأنفسنا ولغيرنا الصلاة من المنظور الروحي، وما تحدثه من أثر في قلب العبد واستقرار نفسه وبدنه؟
هل قدمنا ألفاظنا المميزة، التي تحمل حقائق روحية وليس مجرد اتباع للظن كبضاعتهم المزجاة؟
ماذا لو قدمنا للعالم الفرق الهائل بين مفهوم التأمل البوذي ومفهوم الخشوع الإسلامي؟ ماذا لو أضفنا لهذه الروح الحائرة الباحثة عن السكينة في التأمل المصمت الخالي من أية أفكار أو مشاعر، قيمة الخشوع، التأمل مرتبطاً بذكر الله والخشوع لعظمته والإحساس بمحبته ومعيته وإحاطته؟
فمراكز اليوجا المنتشرة في العالم العربي والإسلامي، والتي تبشر الناس بالسلام النفسي، تنبئ بأننا نحتاج قبل غيرنا إلى إعادة الشعور بالصلاة، وتقديمها ككنز روحي، وأن نقارن بين فراغ اليوجا والصلة بالله وطمأنينة الذكر والخشوع.
مفهوم الطاقة الذي بدأ ينتشر من حولنا، ينبئ عن تقصير في تقديم قيمنا الأصيلة ونعم ربنا علينا وعلى الناس، من التعبد له باسمه «النور»، وإبراز قيمة النور في الكتاب والسنة، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن يجعل الله له نوراً في كل شيء.
ففي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَخَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً وَفِي بَصَرِي نُوراً وَفِي سَمْعِي نُوراً وَفِي لِسَانِي نُوراً وَعَنْ يَمِينِي نُوراً وَعَنْ يَسَارِي نُوراً، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُوراً وَمِنْ تَحْتِي نُوراً وَاجْعَلْ أَمَامِي نُوراً وَمِنْ خَلْفِي نُوراً، اللَّهُمَّ وَأَعْظِمْ لِي نُوراً»[1].
وكيف قدم الإسلام للبشر النموذج الأمثل لمزج الحياة الروحية بالنفس والعلاقات، يحتاج هذا العالم الذي يرانا مصدراً للإرهاب أن يدرك قيمة السلام، ولفظة إفشاء السلام، وأن نقدم برامج لعبادة الله ودعائه باسمه السلام، واستشعار عظم هذه القيمة وجذورها الروحية وآثارها الاجتماعية، فهو سلامنا، ودعاؤنا في ختام الصلاة.
فكرة الجذب، لا تواجه إلا بقيمة التوكل والإيمان بالقدر وتحرير مفاهيم الابتلاء والصبر، وإظهار أنها هي مصدر الأمان لا أن يوكل الإنسان لنفسه.
مفهوم الكارما، الذي يرتبط غالباً بعقيدة تناسخ الأرواح، والذي بدأ في الانتشار، يحتاج منا أكثر من مواجهته، أن نقدم رؤيتنا في شكل يناسب العصر، في أدبيات موجهة عن عدل الله، وأن فهم العدل لا يكون إلا بربط الدنيا بالآخرة.
نحتاج أن نغزو نحن هذا العالم بقيمنا، بالتركيز على مفاهيمنا، مثل: البركة، والطمأنينة، وأوقاتنا الفاضلة مثل رمضان ووقت السحر، كل هذه الأمور وغيرها كثير يجب أن يُقدم بأسلوب روحي مشوق.
مفهوم التنمية البشرية كله بحاجة لإعادة تحرير، فلا يقتصر على تمكين وتوسعة الخيارات، بل يكون هدفه النهائي سعادة الدارين، وليس محدوداً بحدود هذه الدنيا، مفهوم إسلامي لا ينظر للدنيا بمعزل عن الأخرى، ولا يجعل من الآخرة مجرد مسكن ومخدر يخرج المسلمين عن قواعد دينهم من جهاد وإعمار وإصلاح وحياة بالدين: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ 163} [الأنعام: 162، 163].
العالم بحاجة إلى النور، بحاجة إلى إجابة عن تساؤلات أعجزته، فلا يليق بمن يحمل النور أن يكتفيَ بموقف الرافض الناقد الخائف على نفسه من اقتحام الظنون بالهدى الذي يحمله: {إن يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
:: مجلة البيان العدد 355 ربيـع الأول 1438هـ، ديـسـمـبـر 2016م.
[1] صحيح مسلم، كِتَاب صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، بَاب الدُّعَاءِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَقِيَامِهِ.