وكان بابك قد سمع بأبي مسلم الخراساني وقصته مع بني العباس وقيل أيضًا: إنه من سلالته، فزاد هذا من نقمته عليهم، فلم يلبث أن ثار ضدّهم، واتخذ من بلدة البّذ قاعدة له، فالتفَّ حوله كلّ حاقد على الخلافة وكل شرير وقاطع طريق،
«وَالْخُرَّمِيَّة فَأَغْزِهِمْ ذَا حَزَامَةٍ وَصَرَامَةٍ وَجَلَدٍ، وَاكْنُفْهُ بِالْأَمْوَالِ وَالْجُنُودِ، فَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُمْ فَتَجَرَّدْ لَهُمْ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ أَنْصَارِكَ وَأَوْلِيَائِكَ، وَاعْمَلْ فِي ذَلِكَ عَمَلَ مُقَدِّمِ النِّيَّةِ فِيهِ، رَاجِيًا ثَوَابَ اللَّهِ عَلَيْهِ».
[من وصية المأمون لأخيه والخليفة من بعده: المعتصم][1]
الدولة العباسية بعد الرشيد:
وصلت الدولة العباسية في خلافة هارون الرشيد إلى أوج قوتها، وبلغت بغداد في عهده درجةً لم تصل إليها من قبل، فأصبحت مركز التجارة، وكعبة رجال العلم والأدب، وسيدة عواصم العالم. وتُوفِّي الرشيد غازيًا بطوس من خراسان سنة 193هـ، بعد أن سحق الخوارج، وقمع المبتدعة، ونكب مواليه ووزرائه البرامكة الفرس، بعد ما كان مِن استبدادهم على الدولة واستيلائهم على الأموال، وأيضًا بعدما قلَّم أظافر الروم، وأذاقهم مرارة الهزائم، وأجبرهم على دفع الجزية وهم أذلة صاغرون.
ولكن بعد سنوات قليلة من وفاته كانت قاصمة الظهر؛ ألا وهي احتدام الصراع بين ابنيه الأمين والمأمون، على الخلافة، بعد أن أقدم الأول على عزل الثاني من ولاية العهد وإسنادها لولده، مخالفًا بذلك وصية والده وعهده الذي علَّقه في الكعبة؛ الأمر الذي أشعَل فتيل الحرب بين بغداد حيث الأمين، وبين خراسان حيث المأمون، تلك الحرب الأهلية الدموية، التي ترتَّب عليها الانشقاق الكبير بين العرب المؤيدين للأمين، وبين الفرس المؤيدين للمأمون، والتي أحالت بغداد إلى أطلال، وهي الحرب التي لم تنتهِ بمقتل الأمين وسَحْله في شهر المحرم سنة 198هـ، وتبوؤ المأمون سُدَّة الخلافة في خراسان، بل إنها تجددت بعدما نصَّب إبراهيم بن المهدي عم المأمون نفسه خليفةً، كردّ فِعْل هاشميٍّ على إسناد المأمون ولاية العهد إلى أحد العلويين وهو عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق الإمام الثامن عند الشيعة الإثنا عشرية. والتخلي عن السواد شعار العباسيين إلى الأخضر شعار العلويين، واعتزامه نقل مقر الخلافة من بغداد إلى مرو. وذلك كله نكاية بالعباسيين، الذين تواطئوا على تقديم الأمين عليه في الخلافة رغم أنه أصغر سنًّا منه، لا لشيءٍ إلا لكون الأمين أُمّه هاشمية، بينما أُمّه هو أَمَة فارسية.
وبينما كان هذا الإعصار العنيف يجتاح الدولة العباسية في مركزها، ويصير هو الشغل الشاغل لأهل الحل والعقد فيها، كانت بعض مناطق أذربيجان، تشهد حراكًا غير عادي، لم يَنتبه إليه منهم أحد، ولم يقف عليه أحد، إلا بعد أن تبلور في حركة انفصالية واضحة المعالم، ومحدّدة الأهداف، وعظيمة الشوكة، ودقيقة التنظيم، ألا وهي حركة بابك الخرّمي[2] التي تبيَّن، فيما بعد، أنها أخطر وأعتى حركة انفصالية ضد الخلافة العباسية. فإنها ابتدأت في بداية خلافة المأمون سنة 201هـ، واستمرت طوال عهده، والنصف الأول من عهد المعتصم، أي حوالي 23 عامًا.
أبعاد الحركة البابكية الخرّمية:
كان بابك بن بهرام، زعيم هذه الحركة الانفصالية، والعقل المدبّر لها، قد نشأ يتيمًا، وكان في صباه راعيًا للبقر والغنم في قرية في إحدى نواحي أردبيل، تُدْعَى «بلال أباذ»، ولكنّه كان ذا همة ونشاط وطموح منذ صِغَره، فتعرَّف عليه زعيم الخرّمية جاويذان، فتفرَّس فيه النجابة، فاستأجره من أُمّه، وقرَّبه منه، فعشقته زوجته، ونشأت بينهما علاقة مشبوهة، ولما مات زوجها جاويذان بعد ذلك، ادَّعت أن روحه حلَّت في جسد بابك، فتزوجته، وولَّته زعامة الخرّمية، وأوعزت إلى رجال جاويذان بوجوب طاعته، وأبلغتهم أن زوجها أخبرها بأن بابك «سيبلغ بنفسه وبالخرّمية مبلغًا لم يبلغه أحد، ولن يبلغه أحد بعده، وأنه سيملك الأرض ويقتل الجبابرة، ويردّ المزدكية، ويعزّ به ذليلهم ويرفع به وضيعهم».
فعملت هذه النبوءة عملها في نفس بابك، وبدأ يعمل لتحقيقها، فقام بإعادة تنظيم الطائفة الخرّمية، وحوَّلها من طائفة خاملة عزلاء من السلاح، إلى طائفة مسلَّحة تعشق القتل وسفك الدماء، والأهم من ذلك، ذات مشروع قومي-ديني، تؤمن به وتسعى لتحقيقه، بالقوة والعنف، ألا وهو إزالة الخلافة العباسية من الوجود، وإقامة دولة مجوسية على أنقاضها.
وكان بابك قد سمع بأبي مسلم الخراساني وقصته مع بني العباس وقيل أيضًا: إنه من سلالته، فزاد هذا من نقمته عليهم، فلم يلبث أن ثار ضدّهم، واتخذ من بلدة البّذ قاعدة له، فالتفَّ حوله كلّ حاقد على الخلافة وكل شرير وقاطع طريق، وبخاصة من بني جلدته الفرس، المجترّين لذكريات أمجاد أسلافهم قبل الإسلام، وكان بابك يجمع بين صفات الشجاعة والجَلَد وقوة الشخصية، وبين صفات الفصاحة والفطنة والدهاء، فنجح في اجتذاب الآلاف إلى حَركته، وذلك بسبب غلبة الجهل وأعجمية أهل تلك المناطق، وعدم تأصُّل الإسلام في نفوسهم، وعزلتهم عن بقية المسلمين، وندرة العلماء بينهم، وأيضًا بسبب إباحته للرعاع من أتباعه الاستيلاء على ما يقدرون عليه من أراضي المسلمين والعرب، وسَلْب ونَهْب ممتلكاتهم. إضافةً إلى استغلاله للفراغ السياسي، الذي نجم عن الحرب بين الأمين والمأمون. وكانت حركته في جوهرها ثورة ضد الإسلام كعقيدة وشريعة وأسلوب للحياة، وضد العرب كجنس ولغة وعادات، وليس مجرد حركة انفصالية عادية؛ الأمر الذي زاد من خطورة حركته، وزاد من انتشارها؛ بحيث إنها شملت أنحاء واسعة من أذربيجان وشمال غربي إيران وأجزاء من أرمينية، كما زاد من استماتته هو وأتباعه في الدفاع عنها والسعي لتحقيق أهدافها.
موقف المأمون من الحركة:
حاول المأمون، بعد أن استقر له القرار ببغداد، تدارُك ما فات، فأرسل الجيش تلو الجيش للقضاء على هذه الحركة الخطيرة، ولكن دون جدوى، فقد كان بابك يردّ جيوشه تلك على أعقابها، أو يقطع عليها خط الرجعة، فيُوقِع بها ويُكبّدها خسائر فادحة، وبين عامي 204هـ و214هـ، انهزم أمام بابك ستة من قادة المأمون، بين قتيلٍ وناجٍ وأسيرٍ، وكان محمد بن حميد الطوسي، هو آخر ضحاياه هؤلاء، وهو الذي خلَّده أبو تمام في رائيته المشهورة التي مطلعها:
كَذا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ وَلْيَفدَحِ الأَمرُ
فَلَيسَ لِعَينٍ لَم يَفِضْ ماؤُهَا عُذْرُ
وكان اعتماد بابك على أسلوب حرب العصابات، وعلى العمليات الخاطفة والمباغتة ضد الجيوش العباسية، ونصب الكمائن المحكمة لسراياها وقوافل إمدادها، وهدم الحصون التي تتحصّن بها، بجانب عدم خبرة جيوش الخلافة بمسالك تلك المناطق الجبلية، وبأساليب جيش بابك في القتال.
كل هذه الأساليب وغيرها كانت عوامل مهمَّة في هزائم جيوش الخلافة، وقتل الكثير من أفرادها، وكانت البيئة الجغرافية المتمثلة في الجبال الوعرة، ذات المسالك الضيّقة، وكثرة الأدغال، والأمطار والطقس شديد البرودة، تَخْدم سياسة بابك القتالية تلك.
ومن هنا، فقد راح خطر حركة بابك الانفصالية هذه يزداد سنة بعد سنة، وأخذ يزرع الخوف في قلوب المسلمين، وامتلأت نفس بابك كِبْرًا وأشرًا وبطرًا، وأصابته بداء العظمة التي وصلت لحد التألُّه!! لا سيما مع انشغال المأمون عنه، بحروبه ضد الروم في الثغور الشامية، وأيضًا بالتصدي لثورة القبائل العربية في مصر، وثورات العلويين في الحجاز واليمن وفارس والمغرب، تلك الثورات التي كان أخوه المعتصم، ونائبه الأسمى على مصر والمغرب، يده الضاربة في القضاء على أكثرها، وهذا فضلاً عن انشغال المأمون، بفلسفة اليونان والرومان والفرس، والتي أفضت به إلى امتحان العلماء بخلق القرآن، والانحياز للمعتزلة المعادين للسُّنَّة وأهل الحديث.
كل هذا وغيره قد حال دون تفرُّغ المأمون، بصورة كاملة، لمواجهة هذه الحركة الانفصالية المزلزلة، ولكنه استشعر خطرها قبل وفاته، فأوصى أخاه والخليفة من بعده المعتصم بالاهتمام بمحاربتها والقضاء عليها. وكان ذلك بعد أن استفحلت وعَظُم شرّها، وامتدَّت إلى منطقة الجبال بين همدان وأصفهان، ووصلت إلى طبرستان وجرجان وبلاد الديلم، وانضوى تحت لوائها الكثيرون من العجم، وفلول الحركات المجوسية السابقة المناهضة للإسلام، كالرواندية وغيرها، وبلغ فسادهم وإخافتهم للمسلمين كل مبلغ. وتُوفِّي المأمون غازيًا في طرسوس من الثغور الشامية، في رجب سنة 218هـ، فخلفه أخوه المعتصم بعَهْدٍ منه.
المعتصم ينهض لمحاربة بابك:
بادَر المعتصم بتنفيذ وصية المأمون بمجرد استلامه لمقاليد الخلافة، ولم يكن المعتصم متعلمًا، ولكنَّه كان رجلاً عسكريًّا من الطراز الأول، ذا شجاعة وقوة وهيبة وهمة، وكان قادرًا على اختيار القادة الذين لهم بَصَر بالحرب، وصَبْر عليها، ومواجهة معضلاتها، والأشد نكاية بالعدو، وقد عمل في البداية على قطع أذرع وزعانف الحركة في مناطق جبال شمال غرب إيران، كما عمل على تعزيز وجود الخلافة في الولايات والمناطق المحيطة بجبال البذ؛ حيث معقل بابك، وبخاصة في أرمينية وشروان وجنوب أذربيجان، وضمان ولاء ودعم أمراء هذه المناطق للخلافة وجيشها، ثم بعد ذلك قام المعتصم بإرسال الطلائع إلى أردبيل، بقيادة خيرة قواده، وعلى رأسهم محمد بن يوسف الطائي، وذلك لتعبيد الطرق وتأمينها، ولترميم الحصون والقلاع التي خرَّبها بابك وأتباعه بين أردبيل وزنجان، وغير ذلك من التدابير، التي ترتب عليها: حصر الحركة في منطقة محددة وواضحة المعالم، وكل ذلك كان تمهيدًا للجيش الكبير الذي جهَّزه المعتصم للخروج إليها، سنة 220هـ بقيادة أكبر قواده، وساعده الأيمن في حروبه السابقة، ألا وهو الأفشين[3].
وقد أجزل له في النفقة، وراح يمدّه بالمزيد منها، وبالعساكر مرة بعد مرة، وقد عسكر الأفشين في بلدة بأذربيجان تدعى «برزند»، ووزّع قواده على المراكز المهمة، وأسند إليهم مهام تأمين الطرق والحصون، فيما بينه وبين أردبيل، وكان لا يتحرَّك إلا وفقًا لخطوات محسوبة، ولا يسلك إلا طرقًا مؤمنة، ولم تكن تخرج قافلة إلا ومعها مَن يحميها، وكانت طلائعه وسراياه تتحرك بانضباط وحذر شديدين، وطبقًا للخطة المتفق عليها، وكانت على أعلى درجة من التنسيق فيما بينها، وكان لكل منها مجال محدَّد تتحرك فيه، ولا يحق لها تجاوزه، وكان رجاله إذا قبضوا على الجواسيس، حملوهم إليه، فكان يُحْسِن إليهم، ويدفع لهم أضعاف ما كانوا يأخذون من بابك، ويُجنّدهم للعمل لصالحه.
وقد اتبع الأفشين سياسة قضم المناطق، منطقة بعد منطقة، وكان يقوم بتطهير كل منطقة يسيطر عليها جيشه، ويقوم بتأمينها تأمينًا جيدًا، ويشتري ولاء أهل الحل والعقد فيها؛ بحيث يصبح متعذرًا على عصابات بابك العمل من داخلها أو المرور بها، بعد ذلك. وكان المعتصم يتابع ما يجري من عاصمته البعيدة سامراء أولاً بأول، بعد أن نظَّم البريد بين العاصمة سامراء وعقبة حلوان، وبين حلوان وأذربيجان، بحيث صار الخبر الذي يستغرق شهرًا، يصله في أربعة أيام.
يوم أرشق والفتح المبين:
وفي غضون ذلك واصل بابك وأعوانه أساليبهم المفضَّلة في القتال، وهي نَصْب الكمائن وقطع طرق قوافل الإمداد لأجل السيطرة عليها وحرمان جيش الأفشين منها، فنجح في بعض المحاولات وأخفق في أخرى. فكان يترتب على ذلك أحيانًا أزمة غذائية للجيش العباسي، وبالتالي، حدث تذمُّر في صفوفه، ولكنَّ الأفشين كان يُبادر بطلب الميرة من أمراء المدن المجاورة الخارجة عن نطاق سيطرة بابك، فكانوا يُلبُّون الطلب؛ لأنه كان قد ضمن ولاءهم ووقوفهم إلى جانب جيش الخلافة، من قبل. وظل الأفشين ما يقارب العام وبضعة أشهر، وهو يقضم المناطق منطقة بعد منطقة، ويسدِّد الضربات الموجعة لبابك، ويُضيِّق من نطاق سيطرته، ويُوقِع بكبار قادته في المصيدة، متَّبعًا نفس أساليبه في القتال، وهي الخداع والتمويه ونصب الكمائن. وكانت حربًا شديدة على الطرفين، نظرًا للوقت الطويل الذي استغرقته، ولقسوة التضاريس التي كان يدور فيها القتال.
وأخيرًا وليس آخرًا، لما شعر بابك بقرب نهايته، كاتَب ملك الروم، وأوعَز إليه بمهاجمة ثغور المسلمين القريبة منه، موهمًا إيَّاه بأن المعتصم قد رماه بكل ما عنده، حتى خدمه، ووعده باعتناق النصرانية إذا وقف بجانبه؛ لعل تحرُّك الروم يؤدي إلى انسحاب جيش الخلافة جزئيًّا أو كليًّا، الأمر الذي يُخفّف من شدة ضغطه عليه، وفعلاً تحرك الروم في الغرب، وأوقعوا بالمسلمين في «زبطرة»، وأخذوا النساء سبايا، وشارك في هذه الحملة العدوانية الآثمة بعض من قوات بابك، ولكن ذلك لم يُفِدْ بابك في شيء، فقد ظل الأفشين على موقفه منه، وأخذ يتقدم نحو معقله ببطءٍ، حتى استولى على جبل أرشق وحصنه الحصين، المشرف على البذ مدينة بابك، في منتصف عام 222هـ، وذلك بعد معارك ضارية، حتى كانت المعركة الفاصلة بينه وبين بابك، فانقض عليه الأفشين كالصاعقة، وطحن المسلمون جيشه طحنًا، وأتبع الأفشين انتصاره الساحق هذا بحصار مدينة البذ، قاعدة بابك المارق ومعقله الأخير، وكانت مدينة حصينة جدًّا، ومع ذلك، فقد بدأت محاولات الاقتحام الأسطورية، وقد لعب المتطوعة العرب الذين كانوا في طليعة جيش الأفشين، دورًا مهمًّا، في تلك المحاولات، واستُشهد منهم العشرات بأيدي أصحاب بابك، عندما كانوا يتسلقون أسوارها، واستمرت محاولات الأفشين لاقتحام المدينة، وأفشل كل محاولات بابك لمنع سقوطها، وأقام عليها حتى تم افتتاحها عنوة، في رمضان عام 222هـ، وأسر الأفشين أهل بابك وأولاده، وأخذ أمواله، وأحرق قصوره، وقتل كثيرًا من الخرّمية، وكان ذلك من أعظم الفتوح في الإسلام.
الثائر المهزوم المطارد:
ولم تنتهِ هذه القصة الطويلة عند هذا الحدّ، بل بدأ الفصل الأخير منها، والذي يتمثل في عملية المطاردة المثيرة لاعتقال هذا الآبق المارق العنيد. ذلك أن «بابكًا» لم يقع أسيرًا في أيدي رجال الأفشين عند اقتحامهم للبّذ مدينته الحصينة، بل إنه لاذ بالفرار ونجا بجلده، رافضًا التسليم أو طلب الأمان، واختفى في غيضة بالقرب من أحد الوديان، هو وأخوه وبعض خاصته، فورده أمان المعتصم وهو هناك، محمولاً مِن قِبَل رسولين للأفشين، ومصحوبًا برسالة من ولده الأسير لديه، يطلب منه قبول الأمان، وذلك بعد أن اكتشف أمره أحد جواسيس الأفشين ودلَّه عليه، فردَّ بابك على ذلك بقتل أحد الرسولين، وتمزيق ذلك الأمان، وشتم ولده وتبرأ من نسبته إليه، ثم أمر الرسول الثاني بالعودة من حيث أتى، وبإبلاغ رسالته لمن بعثه، بالمقال ولسان الحال.
وبعد ذلك فارق بابك تلك الغيضة، وصعد الجبل سالكًا طرقًا غير مطروقة ولا يسلكها أحد. وبهذه الوسيلة نجح بابك، في الإفلات من الكمائن، التي كان الأفشين قد نصبها في مضائق ذلك الجبل، للقبض عليه، ثم واصل بابك الفرار والتجأ إلى جبال أرمينية ليعبر منها إلى بلاد الروم. كل ذلك ورجال الأفشين وجواسيسه يتعقبون أثره، ولكن دون جدوى، وبلغ فراره ورفضه الأمان المعتصم، فجعل لمن جاء به حيًّا ألفي ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم، في نفس الوقت الذي بعث فيه الأفشين برسالة شديدة اللهجة إلى ملوك أرمينية وبطارقتها، يحثّهم فيها على ضرورة التحري عن كل مَن يجتاز بلادهم، وعلى القبض على بابك، وأعلمهم بتلك الجائزة العظمى التي جعلها المعتصم لمن يقبض عليه حيًّا أو ميتًا، وذلك أنهم كانوا متواطئين مع بابك ومتعاطفين مع حركته، ليس حبًّا فيه وفيها، وإنما بغضًا للإسلام وأهله.
ولكنّ سياسة الترهيب والترغيب هذه، منعت ذلك التواطؤ وأزالت ذلك التعاطف من نفوسهم، وأدت إلى القبض على بابك ومن معه في نهاية المطاف. فبينما كان بابك ومن معه يعبرون أراضي إحدى مقاطعات أرمينية في زي التجار، شكَّ بهم أحد الرعاة، فسارع بإبلاغ أمير هذه المقاطعة، فبادر هذا الأمير بدوره بالخروج إليهم، واعتقالهم بحيلةٍ دبَّرها، وبعد أن قيَّد بابك وقيَّد أتباعه كاتَب الأفشين، فجهَّز الأفشين أربعة آلاف فارس، فتسلَّموه من ذلك الأمير الأرمني، وفاز هذا الأمير الأرمني بجائزة المعتصم العظمى، وبالتنازل له عن خراج مقاطعته لمدة عشرين عامًا.
بابك المارق في قبضة المعتصم:
ثم إن الأفشين بعد ذلك حمل «بابكًا» إلى سامراء لكي تتم محاكمته هناك، وكان المعتصم ينتظر وصول هذا المارق الآبق الشقي إليه على أحرّ من الجمر، وكانت فرحته عظيمة بقائده المظفر الأفشين، وكان يبعث له وهو في طريقه إليه، فرسًا وهدية ثمينة، في صبيحة كل يوم، وبعث بابنه وولي عهده الواثق لاستقباله خارج سامراء بمسافة، وظل يتابع أخبارهم، حتى وصول الأفشين وجيشه إلى سامراء، وذلك في صفر سنة 223هـ، وكان يوم دخوله بـ«بابك» مدينة سامراء يومًا مشهودًا في تاريخ هذه المدينة، فقد خرج فيه الخليفة المعتصم، ومعه الوزراء وأشراف الدولة، فاستقبلوا الأفشين في ضاحيتها استقبال كبار الفاتحين، وكرَّمه المعتصم غاية التكريم، وأمره أن يجلس للشعراء، يستمع إلى أشعارهم، في مدحه وإطرائه والثناء عليه، والمعتصم يدفع جوائزهم نيابةً عنه.
وبعد أيام من حبس بابك الخرّمي، نفذ فيه المعتصم حد الحرابة؛ وهو حدّ المفسدين في الأرض، وكان بابك أكثرهم فسادًا، فتم التعزير به أمام الناس في شوارع سامراء، وتم قطع يديه ورجليه، ثم قطع رأسه وطِيفَ به في سامراء، قبل أن يُرسَل إلى خراسان ليُطاف به هناك أيضًا، وصُلبت جثته في سامراء، ليكون عبرةً لمن يَعتبر. بينما أُرْسِلَ أخوه إلى بغداد، ليُفْعَل به هناك نفس هذا الفعل. وقد كان.
وعندما قُطعت يداه ورجلاه لم يُظْهِر بابك أيّ نوع من أنواع الجزع أو الخوف أو الندم أو الألم، بل ظل على عناده ومكابرته وأَنَفته حتى النهاية، لدرجة أثارت دهشة المعتصم ودفعته إلى القول: «لولا أن أفعاله لا تُوجِب الصنيعة والعفو لكان حقيقًا بالاستبقاء».
وكتَب المعتصم كتابًا إلى الآفاق يُعْلمهم بمصير بابك، وبانتهاء فتنته الشيطانية. والمهمّ أنه على هذا النحو انتهت حركة هذا المارق الخبيث التي روَّعت البلاد والعباد لنَيِّف وعشرين عامًا، وهزَّت الخلافة العباسية هزًّا عنيفًا، وكادت أن تُسقِط هيبتها في أعين أعدائها، وأرهقت خزينتها، وكلَّفتها زهاء 250 ألف قتيل من الجنود والمتطوعة، ووقع في أَسْرها الآلاف من المسلمين رجالاً ونساءً، ظلوا في أَسْر بابك حتى أنقذهم الأفشين. كما أنها جعلت الروم يَكْسرون الحاجز النفسي الذي أقامه الرشيد بينهم وبين المسلمين، ويعاودون، بالتالي، غزو بلاد المسلمين، ويفعلون بهم الأفاعيل في زبطرة، قبل أن يتحرك المعتصم لتأديبهم وقهرهم ويفتح عمورية عنوةً في رمضان سنة 223هـ، وهو الفتح الذي خلَّده أبو تمام في بائيته المشهورة التي مطلعها:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ وَاللَّعِبِ
[1] أبو الحسن ابن الأثير، الكامل في التاريخ ٥/٥٧٨.
[2] الخرّمي: (بضم أوله وتشديد الراء المفتوحة) نسبة إلى خرّم، وهي اسم طائفة وناحية في جبال البند بأذربيجان بين أردبيل وزنجان، كان أصحابها على دين ماني ومزدك، وكانوا يعتقدون بتناسخ الأرواح، وأنها تنتقل من شخص لشخص، ومن حيوان إلى غيره، ويبيحون زواج المحارم وسائر المحرمات.
[3] اسمه حيدر بن كاوس، وهو تركي من بلدة أشروسنة ببلاد ما وراء النهر. ولقب الأفشين كان يُطلَق على كل مَن ملك تلك البلدة. وكانت أشروسنة هذه حديثة عهد بالفتح، كما كان الأفشين نفسه حديث عهد بالإسلام. وقد انتكس فيما بعد، فقتله المعتصم وصلبه.