• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
سورية.. الثغر الدعوي المكشوف

سورية.. الثغر الدعوي المكشوف


لم تكن سبعاً عجافاً تلك السنوات التي مرت على الشعب السوري، بل هي خمسون سنة عجافاً عاش خلالها الشعب السوري بين جدران الصمت؛ سُدَّت عليه خلالَها كلُّ نوافذ النور والوعي، ومورست في حقه جميع أساليب التجهيل والقمع والكبت. ولقد شمل الظلمُ كلَّ نواحي الحياة دون استثناء، وميدان الدعوة الإسلامية ودعاتها من أبرز تلك الميادين التي كان لها نصيب الأسد من كيد الأسد ومكره.

لقد مرت الدعوة الإسلامية في سورية بأطوار مختلفة صعوداً وهبوطاً، وتعرضت لألوان متعددة من الكيد والملاحقات.. ولا تُعنَى هذه المقالة بالاستقصاء التاريخي لحال الدعوة بقدر ما تُعنَى بوصف حال الدعوة في الماضي القريب؛ من بداية تمكُّن (النصيري حافظ الأسد) من السيطرة على الحكم، إلى ما آلت إليه الأحداث في الآونة الأخيرة إبان الثورة المباركة التي تعمُّ أرض سورية كافة، ومحاولة اقتراح ما يناسب من حلول للاستدراك الدعوي.

الدعوة إبَّان حكم حافظ الأسد:

مع سيطرة حافظ الأسد على مقاليد الحكم في سورية وقيامه بـ (الحركة التصحيحية) في 16/11/1970م، والتي انقلب فيها على رفاق دربه من النصيريين والبعثيين وتفرَّد بالحكم؛ لم يبقَ في طريقه من قوة ضاربةِ الجذور في المجتمع، عميقةِ الأثر في الناس، تشكل خطراً مباشراً عليه، ولها نشاطاتها وحيويتها وقدرتها على التجمع والتنظيم؛ غير القوى الإسلامية على اختلاف توجهاتها ومشاربها الفكرية. لقد بلغت تلك القوى أوجها وظهرت قوتُها في التصدي لحافظ الأسد في ما سُمِّي بـ (أحداث الدستور) عام 1970م؛ حيث انتفض العلماء والدعاة في طول البلاد وعرضها معترضين على الدستور (العلماني) الذي فرضه حافظ الأسد وقتها على الشعب، وتحرك الشارع السوري المسلم بحركة العلماء والدعاة، وخرجت مظاهرات ضد الدستور وواضعه في كل الأرض السورية.

لقد كانت الدعوة الإسلامية في عافية من أمرها والبلاد تعج بالحركة الدعوية وإقبال الناس عليها؛ فالعلماء يملؤون المساجد في كل مدن سورية بلا استثناء؛ يعلِّمون الشباب ويعظون الناس.. والجامعات والنقابات روادها الشباب المسلم الملتزم، وهناك انتشار عريض للفكر الإسلامي والجمعيات الخيرية والفكرية، وكذلك حركة التأليف والصحافة الإسلامية... إلخ.. ومن عايش تلك المرحلة من حياة السوريين يلمس جلياً مظاهر التدين في الشارع السوري وذلك الإقبال على الدعوة الإسلامية.

لم يكن الطاغية قد أحكم قبضته على البلد بعد، وكان يتربص بالدعوة والدعاة الدوائر.. ومع تصاعد الأحداث وتطوُّرها باتجاه الثورة المسلحة في أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي؛ شعر حافظ الأسد بمدى خطورة الدعوة الإسلامية عليه وعلى مشروعه الاستبدادي، فاستغل نشوب المعركة ليوجه ضربة قاصمة لكل ما يمتُّ إلى الإسلام بِصِلة، غيرَ مميِّزٍ بين ثائر وحيادي، ولا بين مسلح وغير ومسلح، ولا بين سياسي ودعوي أو وعظي... لقد كانت فرصة لا تعوض بالنسبة له، فأطلق أجهزته الأمنية لتمارس كل ألوان القمع والملاحقة والتجسس ضد المجتمع عامة والدعوة والدعاة خاصة.. فقُتلَ مَنْ قُتلَ من الدعاة، وهاجر من هاجر، وغصت السجون والمعتقلات بشباب الدعوة الواعي من كل ألوان الطيف الإسلامي بلا استثناء، وغدت كثير من ساحات الدعوة ومنابرِها التي كانت بالأمس القريب تعلو فيها أصوات الحق وتمتلئ بالجمهور الإسلامي العريض؛ خاوية على عروشها، وامتلأت قلوب الناس بالخوف والرعب من كلِّ ما يمتُّ للإسلام بصلة، وقلَّ التردُّد على المساجد، وأُتلفت كتب الدعوة الإسلامية عند من يقتنيها أو أُلقيت في المساجد خشية أن يعثر عليها رجال الأمن في بيت صاحبها فتكون الكارثة، ولوحقت الكلمة وأُحصيت أنفاس الناس وأغلقت المساجد وخضعت للسلطة الأمنية المباشرة وأمتلأت بعيون الأجهزة الأمنية.. وهكذا عمل النظام على تصفية أي نشاط دعوي إسلامي. وفي المقابل، حرص النظام وقتها على إيجاد طرح إسلامي بديل خانع، ودعمه؛ يبرر له ظلمه، ويكون واجهة شرعية له في المجتمع، وهو ما يسمى بالإسلام الرسمي، والذي يُعَدُّ من أقطابه الشيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهورية وقتها، والدكتور سعيد رمضان البوطي، وبعض المشيخات الصوفية؛ إذ لم يسمح النظام لغير هذه التيارات بالحديث إلى الناس والتصدر لأمر الدعوة.. ولعبت هذه التيارات صنيعةُ الأسد دوراً كبيراً في تدجين المسلمين ونشر فكر الخنوع والسلبية ومنطق تبرير الظلم والهروب من مواجهته. واستمر الأمر على هذه الحالة من القمع الرهيب طيلة مدة حكم المجرم حافظ الأسد.

الدعوة في عهد بشار الأسد:

ومع وراثة بشار الأسد للحكم بعد موت أبيه عام 2000م، حصل شيء من الانفتاح والتخفيف من القبضة الأمنية، فما لبث أن تحرك الدعاة ونشطت الحركة الدعوية، وصار هناك مدٌّ إسلامي ملحوظ، خاصة بين الشباب والنخب المثقفة، ولعبت الفضائيات الإسلامية والسياسية دوراً مهماً في إيجاد حالة من الوعي الديني العام، وعادت روح الدعوة الإسلامية لتسري في شرايين المجتمع السوري المسلم مجدداً، (وإن كان ذلك على حذر). إلا أن ملة الكفر واحدة وسياسة القمع والإرهاب واحدة؛ فلم تلبث أجهزة القمع – بتوجيه من المجرم بشار الأسد – أن عادت لسيرتها الأولى في كبت الدعوة واعتقال شبابها وحشرهم في المعتقلات.. ومع تقادم أيام حكم بشار الأسد كانت وتيرة القمع تزداد يوماً بعد يوم، إلى أن بلغ به الاستخفاف بالإسلام والمسلمين أن بدأ يضايق المسلمات في المدارس، وفصل المنقبات منهن، وحرَّف نصوص الدين في مادة التربية الإسلامية، وسخر الإعلام ومؤسساته للنيل من الدين وتشويه صورته، خاصة المسلسلات وبرامج التلفاز التي أثارت استياء المسلمين منه.. إلى غير ذلك من مظاهر التمييز الطائفي ضد المسلمين السنة.

واقع الدعوة إبان الثورة المباركة:

مع انطلاق ثورتنا المباركة في سورية في 18/3/2011م التي انتفض فيها الشعب السوري على الحكم الباطني الطائفي؛ كشف هذا النظام عن وحشية لا مثيل لها في قمع الثورة وملاحقة الثوار، وارتكب أفظع المجازر والمذابح في الشعب السوري المسلم يشيب لهولها الوِلْدَان، وهو ما أدى لتهجير ملايين السوريين ونزوحهم؛ إما إلى أماكن أخرى داخل البلاد، وإما إلى الدول المجاورة، وتشكلت مجتمعات كاملة للاجئين لها حظها من الآلام والمتاعب والمشكلات، وهناك من بقي مرابطاً يعاني الأمرَّيْن ولم يخرج. في غمرة هذه الأحداث وزحمتها وقسوتها يتردد الإنسان السوري.. لم يكن الثبات أمراً سهلاً، لقد كان الحدث جللاً، والمصيبة أدهى وأمرُّ، وحار في أمرها الحلماء والحكماء.

إن هول المحنة وشدة وقعها على الناس كانت له آثاره الرهيبة اجتماعياً ونفسياً وأخلاقياً ومادياً... إلخ، فقد ضعفت الرقابة الاجتماعية والأسرية، ولم تكن العودة إلى الله بذاك، بل كانت عودة تحت وطأة المحنة في غالبها ليس إلا، ولم تكن ذات عمق ورسوخ. والتغيير الذي طرأ على حياة الناس لم يزد على تلك القشرة الخارجية التي تغلف النفس الإنسانية، وما أن يشعر الناس بالأمان حتى يسترسلوا مع ما اعتادوه من الحياة والشرود في الظروف العادية.. فكثرت الانحرافات والتعديات على الحقوق والتجاوزات الشرعية، إضافة لتشوُّه التصورات والمفاهيم المغلوطة الموروثة عن حقبة الحكم الطائفي.

ومما زاد الأمر سوءاً شبه خلوِّ الساحة من الدعاة العاملين والوعاظ الراشدين! إن غياب أهل العلم والدعوة وحصول قصورٍ في ميدان الدعوة والإرشاد، أربك الناس وأتاح المجال لتصدُّر الجهلة، وأن يعتمد الناس على موروثهم الفطري من الدين والقيم في حل مشكلاتهم.

ضرورة المبادرة والاستدراك الدعوي:

إن الثورة السورية قدر رباني محض ابتلانا الله به ليميز عباده العاملين المخلصين من القاعدين والمنافقين. وإن التغيير الذي ذكره الله - تعالى - في قوله: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١] واشترطه – سبحانه – حتى يأذن بتغيير الحال من عنده سبحانه؛ لا يتأتى إلا من خلال تربية إيمانية مديدة راسخة، تحرص على بناء المسلم وإعداده لتحمل تبعات وتكاليف هذا الدين العظيم، ولا يمكن أن يحصل ذلك من خلال ثورة قامت ابتداءً بوصفها رد فعل على الظلم والكبت والقهر، ولم تقم انطلاقاً من فكر لبناء حياة يؤمن بها أصحاب هذا الفكر.

إن ما يحصل على أرض سورية الطاهرة من ابتلاء ومحنة إنما هو تحدٍّ يواجه الدعوة الإسلامية بكل أطيافها، جماعات كانوا أو أفراداً، السوريون ابتداءً ثم من يليهم من المسلمين.. في أن ينفروا جميعاً لاستنقاذ هذا الشعب المسلم العظيم من براثن الجهل والهوى والتيه وكيد الأعداء ومكرهم، وأن يوظفوا ما نزل بالناس من ابتلاء ليأخذوا بأيديهم إلى حيث يرضى الله سبحانه ويريد من الإيمان والوعي. إن الأمر جد ويحتاج لتكاتف جهود العاملين للإسلام وتكاملها، وألا يكون التحرك في هذا الاتجاه فردياً أو من خلال ممارسة خجولة هنا أو هناك؛ بل يُعَدُّ للأمر عدته وتشمَّر له سواعد الجد والعمل، وترصد له الأموال.

مقترحات للعمل الدعوي الاستدراكي:

إن العمل على الاستدراك الدعوي في ما يخص الشعب السوري المسلم، من المناسب أن يكون على عدة محاور، منها:

أولاً: أن يتنادى أهل الخبرة والمال من الدعاة العاملين لتأسيس معاهد لتخريج الدعاة خارج سورية، من خلال حضورهم دورات تدريبية مكثفة، يعطَون فيها مبادئ العلوم الشرعية ومبادئ فقه الدعوة، مع توعية كافية بالثورة السورية وحال الناس فيها، وطباع الشعب السوري (إن لم يكونوا سوريين)، وشيئاً من الوعي السياسي والإلمام بالأطروحات الفكرية المعاصرة، مع تعريف هؤلاء الشباب بفضل الدعوة والبذل في سبيل الله تعالى، وحق الأخوة الإيمانية... إلخ.

ثانياً: فتح مكاتب دعوية في أماكن اللجوء ومتابعة شؤون الناس وحل مشاكلهم وتبصيرهم بالأبعاد الربانية لما حل بهم، وربط ذلك بالإيمان، وتوظيف الطاقات الشبابية (نساءً ورجالاً) في ذلك ما أمكن، ومحاولة إشغالهم في ما يفيد وينفع ويصب في الصالح العام.

ثالثاً: تنشيط العمل الإعلامي الإسلامي، من مجلات وصحف ومنشورات مركَّزة، وإذاعات وقنوات تلفزيونية؛ تستهدف كل الشرائح العمرية والثقافية بما يناسبها.. وبالاستفادة من المناطق المحررة يمكن أن يعم ذلك الخير كل الأراضي السورية.

رابعاً: هناك كثير من المناطق التي تحررت من أراضي سورية، لذلك جدير بالدعاة النزول إلى هذه المناطق وتأسيس عمل دعوي فيها، والاحتكاك بالناس عن قرب ومعايشتهم، وإجراء الأنشطة الدعوية ودورات التوعية.

خامساً: إعداد دعاة وإرسالهم إلى أرض المعركة ليعايشوا المجاهدين ويساعدوا على تقويم ما اعوج من أمرهم، وتعليمهم معاني الإيمان، وتبصيرهم بأمور دينهم، خاصة فقه الجهاد وما يتعلق به، فالحاجة ماسة لذلك جداً؛ بدلاً من الاسترسال في لومهم والتثريب عليهم.

سادساً: الاهتمام بشأن المرأة المسلمة وعدم إهمال أمرها أو تأجيله؛ فيكفي المرأة السورية المسلمة ما اكتنفها من الإهمال وإهدار طاقاتها، وهي الباذلة المضحية.

سابعاً: أن يقوم كبار الدعاة بالنزول إلى الأراضي المحررة، إن لم تكن إقامة دائمة فعلى الأقل زيارة، والاقتراب من الناس أكثر؛ لاستعادة الثقة بين عامة المسلمين والعلماء والدعاة، بعدما شابتها شوائب في الآونة الأخيرة.

ثامناً: البعد قدر الإمكان عن الخطاب السياسي والحزبي؛ لأن ذلك مما ينفر الناس ويضعف من إقبالهم على الدعوة.

تاسعاً: الرفق بالناس والتدرج في دعوتهم وعدم إرهاقهم بالتكاليف الشرعية قبل تهيئتهم إيمانياً لتحمل تبعاتها ولنا في كلام رسول الله # أسوة حسنة.. وتوطين النفس على احتمال الأذى إن صدر من بعضهم؛ فما هم إلا ضحايا سنوات القمع الرهيب بكل أشكاله الفكرية والسياسية والاجتماعية.

قال - تعالى: {وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

هذا.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

::  "البيان" تنشر ملف شامل ومواكب لأحداث الثورة السورية

:: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة 1434هـ، إبريل - مايو 2013م.

 

أعلى