• - الموافق2025/12/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اللعب بورقة الأقليات في سوريا

كيف يواجه النظام السوري الجديد تحديات الأقليات داخليًا وخارجيًا، عبر دمجها في مؤسسات الدولة، وحصر السلاح بيد الحكومة، ورفع الحماية عن التدخلات الأجنبية، لضمان وحدة البلاد واستقرارها السياسي والاجتماعي على المدى الطويل؟


«لا للطائفية. نحن شركاء في الوطن».

هكذا رُفِعَتْ لافتة في المظاهرة الحاشدة التي أُقيمت في قلب دمشق في ساحة الأمويين، في ذكرى مرور عام على تحرير العاصمة السورية من الحكم الطائفي العلوي، والذي جثَم على البلاد زهاء أكثر من نصف قرن.

تُعبِّر هذه اللافتة عن ما يجول في خاطر غالبية السوريين ويشغلهم، وهو محاولات بعض الأطراف في الداخل والخارج استغلال ورقة الطوائف في إيجاد حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في ربوع البلاد، وربما الانقضاض على النظام الجديد وتقويضه.

ففي الداخل ومنذ أيام قليلة، نقلت وكالة رويترز من خلال تقرير لها، بأن مسؤولين كبار في النظام السابق، ومن بينهم رئيس المخابرات السوري السابق، والآخر هو ابن خال بشار الأسد، يُخطِّطان لانتفاضتين ضد الحكم الجديد في سوريا، وإعادة حُكم سوريا إلى العلويين، وأنهما يُنفقان ملايين الدولارات ويُموّلان أكثر من 50 ألف مقاتل.

أما في الخارج، فالقصة أطول وممتدة تاريخيًّا، فقد كانت إحدى السمات الأساسية لنمط الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين منذ القرن التاسع عشر، هي استخدام ورقة الأقليات العِرْقية والدينية والمذهبية، لترسيخ احتلاله، وتثبيت أركان حُكمه وتسلُّطه على العالم الإسلامي.

ولازالت تلك السمة تتَّصف بها هيمنته، حتى بعد رحيل الجيوش، مع اتخاذ تلك الهيمنة أشكالًا أخرى.

فتفتيت شعوب وبلاد المسلمين كان أحد ثلاثة محاور من إستراتيجية استمرار الهيمنة الغربية على بلاد العرب والمسلمين، مع المحورين الآخرين اللذين تمثّلا في زرع الكيان الصهيوني، والإتيان بنُظُم حُكم ترتبط مصالحها بالغرب.

فالتفتيت لم يكن تفتيتًا جغرافيًّا فقط، بل امتد ليشمل السكان أيضًا، فكان التلاعب بورقة الأقليات هو أحد أخطر عناصر هذا المحور.

ومن هنا نُدرك لماذا أعاد الغرب اللعب بورقة الأقليات في سوريا بعد سقوط النظام الطائفي فيها؛ لأن هذا السقوط ومجيء نظام جديد لم يَخْرُج من رحم الغرب، فأصبح مجرد وجوده بمثابة مِعْول لبداية تحطيم إحدى ركائز الهيمنة الغربية المفروضة على بلاد المسلمين، وبداية النهاية للمشروع الغربي للسيطرة على المنطقة.

ولكن، كيف بدأ الغرب التلاعب بذلك الملف؟ وما مدى استجابة تلك الأقليات لمخططات القوى الغربية؟

وكيف تعامل النظام السوري الجديد مع تلك الأزمة؟ هذه الأسئلة هي ما سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال.

ولكن في البداية، يجدر بنا أن نستعرض، باختصار، الطوائف الموجودة في سوريا، وأعدادهم ونِسْبتهم من مجموع السكان، فضلًا عن تاريخهم القريب.

الأقليات في سوريا بين الماضي والحاضر

تتنوع في سوريا الأعراق والمذاهب والديانات؛ فهناك التعدُّد العِرْقي المُتمثّل في العرب والأكراد والتركمان، ومنهم الأقليات الدينية كالمسيحيين واليهود، وتوجد أيضًا الأقليات المذهبية مُمثَّلة في النُّصَيريين (العلويين) والدروز والشيعة.

وإذا كانت الغالبية الكبرى في سوريا تتمثل في أهل السُّنة العرب، فإن مَن دونهم بنِسَب قليلة ومتفاوتة يمكن أن نَعُدّهم أقليات.

ومن الصعوبة بمكان الحصول على إحصائيات رسمية حديثة ودقيقة ومُوثَّقة بشكلٍ مُطلَق لنِسَب الطوائف العِرْقية والدينية في سوريا؛ لأن الإحصاءات السكانية الرسمية في سوريا لا تشمل عادةً الدِّين أو العِرْق منذ عام ١٩٦٠م. وهناك عامِلٌ آخر ساهَم في تعقيد مشكلة حَصْر نِسَب الطوائف، وهو أنه بَعْد بَدْء الثورة السورية في عام 2011م، حدَث تهجير وهجرة، أدَّت إلى نزوح الملايين في سوريا، الأمر الذي أحدَث تغييرات ديموغرافية كبيرة.

ومع ذلك، تتوافر تقديرات من مصادر دولية ومراكز بحثية رصينة تحاول رَصْد هذه النِّسَب بقَدْر الإمكان.

وعند تلخيص نِسَب تلك الإحصائيات، نجد أن أهل السنة العرب يُشكِّلون ما يقرب من 74٪ من السكان، بينما تدور نسبة التركمان والأكراد، وهم مسلمون سُنّة أيضًا، حول نسبة 8٪، بينما تبلغ نسبة العلويين تقريبًا 10٪، وباقي الطوائف من دروز وشيعة ومسيحيين يمثلون 8٪ من مجموع السكان.

تاريخيًّا، وفي القرنين الأخيرين، كان لتلك الأقليات في سوريا دور مرسوم في تنفيذ المخططات الغربية لتفتيت العالم الإسلامي والعربي سكانيًّا، كما أسلفنا، لذلك حاول الاحتلال الغربي الترويج لصعود تلك الأقليات سياسيًّا، وذلك بمحاولة القفز على ثورات أهل المنطقة، وصُنْع وَهْم تاريخي وادعاءات هنا وهناك.

فَجَرَت صناعة وَهْم اسمه «ثورة صالح العلي العلوي»، وعلى شاكلتها تمَّت صناعة ثورة «سلطان الأطرش» الدرزي ضد الفرنسيين، وهذه الحركات كانت في حقيقتها أداة للتنافس بين إنجلترا وفرنسا، بينما كان السُّنة هم الثُّوَّار والمقاومين الحقيقيين ضد الجيوش الغربية المحتلة.

ولكن لا يمكن أن تُوصَم الطائفة كلها بهذا الدور المتجاوب مع الإستراتيجية الغربية، بل بَقِيت أعداد عاقلة مِن كل طائفة تُدرك أن مآلات الاصطفاف مع أعداء الأمة لن تَجني منه في النهاية إلا الهزيمة، وإن حصلت منه على بعض المكاسب المؤقتة.

فالدروز والعلويون -على سبيل المثال-، ومنذ الاحتلال الفرنسي لسوريا، وجدوا تشجيعًا فرنسيًّا، على الانخراط بكثافة في قوات أُطْلِقَ عليها «قوات الشرق الخاصة»، والتي كانت مجموعات مسلحة محلية أنشأها الاحتلال الفرنسي، بينما كان يَستبعد الأغلبية السُّنية من الانخراط في هذا الجيش العميل.

وقد أصبح جيش الشرق الفرنسي نواة لجيش سوريا بعد الاستقلال، مما مَهَّد للعلويين والدروز أن يصبحوا فاعلين ومؤثرين أكثر في المؤسسة العسكرية بعد رحيل فرنسا عسكريًّا عن البلاد.

كما كان للضباط الدروز والعلويين دور رئيس في الانقلابات العسكرية المتوالية التي شهدتها سوريا منذ أواخر الخمسينيات حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي، ثم توقفت تلك الانقلابات بعد انقلاب حافظ الأسد العلوي ووصوله إلى حكم سوريا، والذي سعَى بَعْدها إلى إبعاد الضباط الدروز وتهميش السُّنة في الجيش.

ومؤخرًا، ومع تمرُّد دروز السويداء -بعد تحرير سوريا من نظام الأسد العلوي-، استطاع الحكم الجديد استمالة أحد الزعماء الدروز وزعيم أحد التنظيمات المسلحة، وهو «سليمان عبد الباقي»، فخرج بمجموعته المسلحة من السويداء، لينضم إلى الحكم الجديد بزعامة «أحمد الشرع». وهناك نماذج أخرى، ولكنها أقل شهرةً داخل الطوائف الأخرى في الجانب الكردي والعلوي.

استعادة ملف الأقليات

يتداخل منظوران لتعامل الغرب مع الأقليات في العالم العربي والإسلامي:

هناك المنظور الغربي الليبرالي المثالي، والذي يرى أن حماية الأقليات جزء لا يتجزأ من الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان العالمية.

ويتداخل هذا المنظور مع المنظور النفعي الغربي، والذي يرى في ورقة الأقليات أداةً للسيطرة والهيمنة على العالم الإسلامي، من خلال نظرية «فَرِّق تَسُد».

ويتلاقَى المنظوران الغربي المثالي والنفعي على أرض الواقع في التدخُّل بأشكال متنوعة، ومنها التدخل العسكري؛ لفَرْض معايير لحماية الأقليات على دول المنطقة، واستخدام المنظمات الدولية في هذا الإطار كمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي ومجلس الأمن الدولي؛ للضغط لتمكين الأقليات وإشراكهم في الحكم داخل العالم العربي والإسلامي.

ولكن كيف تلاعَب الغرب بورقة الأقليات في سوريا تحديدًا؟

تاريخيًّا، كان هناك هدفان لفرنسا وإنجلترا في استغلال ورقة الأقليات لبقاء قبضتهما على الشام:

الأول: إبقاء سوريا في حالة ضعف، بضمان استمرارية حالة من التنازع الداخلي المتواصل؛ بحيث لا تستطيع توحيد البلاد لمقاومة الهيمنة الأجنبية.

والهدف الآخر: تمثَّل في إيجاد طبقة تَدِين للغرب بالولاء، فكان الاعتماد على النُّخبة الطائفية، لغَرْس جبهات داخلية مُوالية للقوى الغربية، تكون بمثابة أدوات نفوذ حتى بعد الانسحاب الغربي الشكلي، مما يضمن استمرار المصالح الاقتصادية والسياسية للقوتين الغربيتين على المدى الطويل.

واتبعت فرنسا إستراتيجيات لتحقيق ذلك الهدف في الشام على النحو التالي:

- تفكيك الشام أو سوريا الكبرى: مدعيةً أن هذا التركيز على الاختلافات الاجتماعية يتوافق مع الحقائق السياسية ورغبات السكان، فأَوْجَدَت «لبنان» كوَطَن لنصارى الشام، بينما انفصلت «فلسطين» عنهما بفعل التوافق مع بريطانيا بمقتضى اتفاق «سايكس-بيكو».

- ثم حاولت فرنسا إنشاء كيانات مستقلة داخل سوريا: فقامت بتشجيع كيانات، أبرزها دولة العلويين (في منطقة جبال الساحل)، ودولة جبل الدروز، بالإضافة إلى دولتي دمشق وحلب. كان الهدف هو تشجيع الهويات المحلية لإضعاف الهوية الإسلامية الجامعة -التي لا تُفرِّق بين الناس، وتستوعب الأقليات الدينية والمذهبية والعِرْقية-.

وبقي هذا الإرث التاريخي الغربي، وانضم الكيان الكردي في شرق سوريا إلى تلك الكيانات الانفصالية بتشجيع أمريكي صهيوني، حتى جاءت معركة تحرير سوريا في ديسمبر من العام الماضي، لتحاول وَضْع حدّ لتلك البؤر الانفصالية، وتُحيي استعادة سوريا الموحدة مرة أخرى.

النظام السوري وملف الأقليات

تحرَّكت الحكومة السورية الجديدة بزعامة «أحمد الشرع» في عدة محاور لحَرْق ورقة التلاعب بالأقليات في يد القوى المعادية لسوريا.

تعتمد إستراتيجية «أحمد الشرع» في هذا الإطار بعد سقوط النظام السابق، على مزيجٍ مِن صياغة وَضْع دستوري وقانوني، مع خطاب مطمئن، مصحوب بتحركات عملية هادفة إلى إرساء الاستقرار وتحييد ملف الأقليات من الصراعات الخارجية والداخلية.

وذلك من خلال صياغة نظام سياسي لا يتبنَّى إقصاءَ أحدٍ بناءً على دِينه أو مذهبه أو عِرْقه؛ بهدف استيعاب شتَّى الطوائف والمذاهب في النسيج السوري، بحيث يجد السُّني والعلوي والدرزي والكردي والمسيحي، حرية العمل والتجارة والاستثمار والقبول في الوظائف، بصرف النظر عن عقيدة أو مذهب أو عِرْق، والبُعْد عن عمليات الانتقام، وهكذا تم رفع شعار «نَصْر لا ثأر فيه».

ولذلك تضمَّنت خطوات الحكومة في تشكيل نظامها السياسي الجديد ما يلي:

إعلان دستوري يتضمّن بابًا خاصًّا بالحقوق والحريات (الباب الثاني)، وينص على بناء دولة المواطنة والحرية والكرامة وسيادة القانون، وأتبع ذلك صياغة قوانين صارمة لمكافحة أيّ تمييز أو خطاب كراهية ضد أيٍّ من مكونات المجتمع السوري، وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالهوية الإسلامية لسوريا؛ حيث نص على أن «الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع».

في الجانب العملي، سعت الإدارة الجديدة إلى إبرام تفاهمات مباشرة مع المكونات الكبرى التي تتمتع بنفوذ في مناطقها:

أولًا: تجاه المكوّن الكردي (قوات سوريا الديمقراطية «قسد»):

فقد أبرم الشرع اتفاقًا مع قائد قوات سوريا الديمقراطية، «مظلوم عبدي»؛ يهدف إلى دَمْج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا ضمن مؤسسات الدولة بحلول نهاية عام 2025م.

كما أكَّد «الشرع» أن حقوق الكرد محفوظة ضمن الدولة السورية المُوحَّدة، وأن الحل يكمن في الانضمام إلى الجيش والمؤسسات السورية الرسمية، مُشدِّدًا على وحدة البلاد وحصر السلاح بيد الدولة.

ثانيًا: تجاه المُكوّن الدرزي في السويداء:

فقد تم التوصل إلى اتفاق مع وجهاء وأهالي السويداء، وتضمَّنت بعض البنود المتداولة في الاتفاقات، أن يكون عناصر الشرطة المحلية من أبناء السويداء؛ لضمان الأمن المحلي والاطمئنان.

كما تضمن الاتفاق تلبية المطالب الخدمية للدروز، ودَفْع الرواتب المتأخرة، في محاولة لإظهار أن الحكومة تُلبِّي احتياجات المواطنين في المنطقة.

ولكن في نفس الوقت، أظهرت حكومة الشرع تشددًا تجاه مطالب الفيدرالية لأيٍّ من الأقليات، متمسكةً بوحدة الدولة، ورفض أيّ صيغة قد تؤدي إلى التقسيم أو اللامركزية الإدارية الواسعة.

فالنظام الجديد يُدرك أن تلك الفيدرالية هي وصفة لاستمرار الصراع، وتفكك البلاد على غرار ما حدث في العراق.

وحكومة «الشرع» تُقدّم أولوية توحيد البلاد وإدارتها مركزيًّا، وحَصْر السلاح في يد الحكومة، وهي مُستعدَّة لحَسْم تلك المسألة عسكريًّا مع الرافضين من تلك المكونات السورية، والاستعداد للتعاون العسكري مع تركيا لحسم أخطر ملف للأقليات في سوريا، وهو ملف «قسد» التي تستحوذ على ٢٨٪ من الأراضي السورية.

ولكن يبدو أن حكومة «الشرع» لن تُقْدِم على حَسْم ملف الأقليات المتمردة إلا بعد أن يتم تحييد العامل الخارجي في دعم تلك المجموعات، ولعل تجربتها في السويداء كانت الشَّبح الذي يظهر أمامها.

ومن هنا نأتي إلى إستراتيجية «الشرع» في التعامل مع الخارج لحسم ملف الأقليات.

الإستراتيجية تجاه الخارج

لم تَسْلك إدارة الشرع مَسْلك قَمْع الأقليات لقطع صلتها بالخارج، بل تحاول إعادة دمج زعماء بعض المجموعات المتمردة وتنظيماتها في مؤسسات الدولة، وإشراك القوى الخارجية في هذه المأسسة، مما جعل دعم تلك القوى للأقليات يَمُرّ عبر القنوات الرسمية السورية وليس خلف ظهرها.

بعبارة أخرى، يحاول النظام السوري الجديد تحويل الجماعات المحلية من أذرع استخباراتية أو ميليشياوية لدول أجنبية، إلى مكوّنات رسمية تحت سيادة الدولة، مع إشراك القوى الخارجية نفسها كضامن لهذا التحوُّل بدلًا من كونها داعمًا للانفصال.

كانت الخطوة الأولى: التَّحرُّك تجاه الولايات المتحدة؛ لارتباطها بصفة مباشرة بملف «قسد»، وفي الوقت نفسه استغلال علاقتها القوية مع الكيان الصهيوني؛ باعتبارها الدولة الوحيدة التي يمكن أن تُلْجِم تدخلات الدولة الصهيونية في سوريا.

قام «الشرع» بضربة إستراتيجية ثلاثية الأبعاد لفكّ اللُّحْمَة بين «قسد» وأمريكا.

فجعل القوات الأمريكية في سوريا تقوم بالإشراف رسميًّا على عملية دَمْج «قسد» في الجيش السوري، كما قام الجيش السوري بتوجيه عملياته ضد «داعش»، وفي الوقت نفسه قام «الشرع» -بضغوط سعودية وتركية-، بنَسْج علاقة شخصية مع «ترامب»، وطمأنته بخصوص الاستثمارات الأمريكية في سوريا، ومراعاته للمصالح الأمريكية في المنطقة، ليخرج «ترامب» مُطالبًا الأطراف الإقليمية والداخلية بضرورة إعطاء «الشرع» فرصة ليسيطر على سوريا ويُحقّق فيها الاستقرار.

وهكذا انتزع «الشرع» من «قسد» دورها، والذي تتحجّج به وهو مكافحة «داعش»، وفي الوقت نفسه حوَّل الدور الأمريكي مِن راعٍ لـ«قسد» ضد سوريا إلى مُشْرف على دَمْج «قسد» في الدولة.

ولذلك بدت الولايات المتحدة تميل إلى رفع الغطاء عن «قسد» بنهاية المُهْلة التي حدَّدها اتفاق مارس، لتكون في نهاية العام الجاري، لكي يتم إنهاء ملفها عسكريًّا مِن قِبَل التحالف التركي السوري في حالة عدم إذعان «قسد».

وعلى الجانب الآخر، وبتوطيد العلاقات الأمريكية السورية، بدأ «الشرع» في التحرُّك المحسوب ضد التوغلات والاستفزازات الصهيونية في الجنوب السوري، وما حدث في قرية «بيت جن»، ثم في «خان أرنبة»، وفي هتاف أفراد الجيش السوري في أثناء العرض العسكري لغزة؛ يُوحي بأن الحكومة السورية بدأت في إبراز بعضٍ مِن أنيابها لكَبْح جماح الصهاينة، في غطاءٍ مِنْ «ترامب» الذي بدأ في رسم خطوط حمراء لـ«نتنياهو» في التعامل مع الملف السوري.

مستقبل أزمة الأقليات

هناك منظوران في رؤية قضية الأقليات والتعامل معها:

فهناك النظرة الإصلاحية والتغييرية، والتي تربط قضية الأقليات بالإرث الاستعماري، وسياسة «فَرِّق تَسُد»، وتنتقد رسم الحدود التعسفي، وما نتج عن ذلك مما عُرِفَ بالدولة القومية الحديثة كمشروع استعماري غربي للهيمنة.

وهناك السياسيون الذين يرون في قضية الأقليات مسألة أمنية، ويتعاملون معها كتهديد وجودي للأنظمة، مما يُبرِّر إجراءات استثنائية ضدّها، وأحيانًا يُلوِّحون بها كورقة لتخويف الأكثرية وضمان بقاء حكمهم.

ومن هنا تأتي أهمية الطرح المنظور الذي يتعامل به النظام السوري الجديد مع هذا الملف.

فعلى الرغم من شعور أهل السُّنة في سوريا، بأنهم هم الذين دفعوا أثمان مخططات الغرب في تمكين الأقليات طيلة عقود، من قتل وتهجير؛ إلا أنهم تفتَّحت أمامهم أبواب الأمل من جديد بعد أن تم التحرير، واستعادة أهل السُّنة لمكانتهم ودورهم الطبيعي.

والمتأمّل في إستراتيجية «الشرع» في التعامل مع تلك الأزمة؛ سواءٌ على مستوى تلك الأقليات، أو مع الخارج الداعم لها؛ يجد أن تلك الإستراتيجية تتَّجه إلى الحل والحسم التدريجي، خاصةً بالتفاف الغالبية الساحقة من الشعب السوري حوله.

ففي كلمة له بذكرى التحرير بعد أدائه صلاة الفجر في المسجد الأموي بدمشق بحسب ما نقلته وكالة «سانا»، قال «الشرع»: «لن يقف في وجهنا أيّ أحد مهما كبر أو عظم، ولن تقف في وجهنا العقبات، وسنواجه جميعًا كل التحديات؛ بإذن الله».

ويمضي «الشرع» قائلًا: «من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها بإذن الله... سنُعيد سوريا قوية ببناء يليق بحاضرها وماضيها... ببناء يليق بحضارة سوريا العريقة... سنُعيد بناءَها بطاعة الله -عز وجل-، ونصرة المستضعفين، والعدالة بين الناس؛ بإذن الله تعالى».

بهذه العقيدة والروح والعزم، ستتخطى سوريا أزمة الأقليات لتتَّجه نحو الصعود الإقليمي والدولي، وليتحقق ما قاله أحد العلماء: «تحرير سوريا أكبر حَدَث جذري في بلاد العرب منذ مائة سنة، وله ما بعده».

 

أعلى