• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اللغة العربية في عهد مملكة مالي خلال القرن الثامن الهجري (14م)

فوق هذا وذاك؛ إنَّ عدم تَمكُّن الماليين من اللّسان العربي، لم يُلْحِق الضّرر بالمستوى الثّقافي فحسب؛ وإنّما أصبح يُهدِّد آفاقَ العقيدة الإسلامية نفسها لدى الماليين؛ حيث أخذ يجنحُ بها نحو انحرافاتٍ خطيرة


تُمثِّل قضيةُ اللغة العربية في مملكة مالي[1] إحدى القضايا التي همّشَها وأهملها الباحثون في المصادر الأصليَّة المُتعلِّقة بالتأريخ للغة العربية، وأغفلوا النظر إليها باعتبارها مشكلة، وقد انساق وراءهم الباحثون المُعاصرون فلم يُعيروها أيّ اهتمامٍ جادّ.

نختصرُ خطواتنا، ونُسلِّم أولًا بالصيرورة التّاريخية التالية: بالنّظر إلى كوْن الإسلام انتقلَ من بلاد المغرب إلى بلاد مالي عبر بربرِ الصّحراء، وعلى اعتبار أنّ عمليةَ التعريب لم تكنْ ممكنةً في المنطقة بسبب ضآلة عددِ الفقهاء والعناصر العربية؛ فقد احتفظتِ القبائلُ الإفريقية بعد إسلامها بلُغَاتها ولَهجاتِها المحلية، ولم تُوظِّف اللغة العربية إلّا في القليل النادر من حياتها اليومية والدينية.

وترتَّب عن ذلك أنْ ظلَّت مملكةُ مالي محرومةً من عملية التعريب؛ الشيء الذي كان له مساوئ على واقع الثقافة الإسلامية بالمنطقة، بل تجاوزت تلك العيوب حدودَها، وأصبحت تُهدِّد وضعيةَ العقيدة الإسلامية نفسها لدى الماليّين. ولنتبيَّن خطورة الموقفِ يتعيّن علينا قبلَ كلّ شيء، معرفة حدودِ استعمال اللغة العربية في عهد مملكة مالي.

كما أخبرنا ابنُ بطوطة، فقد كانَ الماليون يتهافتون على المساجد يومَ صلاة الجمعة، ويَحْرصون كلَّ الحرص على احتلالِ الصفوف الأولى؛ بَيْد أنّ أصحابنا السّودانيين -ومع حماسهم ذاك- كانوا عاجزين عنْ فهم الخطبة التي تُلقَى على مَسامعهم باللغة العربية؛ لذلك، كان الخطيبُ في كلّ مسجدٍ من مساجد الإمبراطورية مضطرًّا للاستعانة بمُترجم يُبيِّن للناس بلسانهم كلامَ الخطيب.[2]

وفي البلاطِ الملكي؛ حيث كان سلاطينُ مالي مُحاطين ببطانة لا يُستهان بها من العلماء والفقهاء؛ فقدْ كانت اللغة المحليّة الماندي (Mandé) هي السائدة في مجالس السّلاطين. وقد يحدث أنْ يراسل البلاط حُكّام الأقطار الإسلامية الأخرى، وتكون المراسلةُ باللغة العربية؛ غيرَ أنّه قد تَعِب القلقشندي كثيرًا ودونَ جدوى في سبيل الحصولِ على إحدى تلك المُراسلات. وفيما يخصّ أوامرَ الملك إلى نُوّابه في الأقاليم، فيُحتمل أن تكونَ الكتابة بالعربية، لكنَّ العُمَريّ يقول لنا: إنّ المَلِك في الغالب لا يكتب شيئًا؛ بل أمره بالقول غالبًا.[3]

حقًّا كان السلطان منسى موسى يُجيدُ التّكلم باللسان العربي، شأنه في ذلك شأن بعض حكّام الأقاليم، كما أنّ الفقهاءَ السودانيين يتكلّمون ناصية اللغة العربية إلى حدّ ما، إلّا أنّ هذه المُعطيات تُمثِّل حالاتٍ استثنائية غيرَ قابلة للتعميم، كما أنّها غير كافية للتدليل على انتشارِ اللغة العربية في بلاد مالي، ولا حتى في المدن التي قلنا بشأنها: إنّ الإسلام شهدَ بها تطوُّرًا أحسنَ بكثير مقارنةً مع الأرياف.

وتستدرجُنا هذه القضية للتساؤل حولَ وسيلة التخاطب بين تجار بلاد المغرب ومصرَ، وبين الماليين؟ 

يقول ليون الإفريقي الذي زارَ المنطقة في أوائل القرن 16م، وكوّن فكرةً عامَّة عنِ استفهامنا: إنَّه بعدَ اعتناق الكثير من أهل السودان للإسلام، بدأ تجارُ بلاد المغرب حينئذٍ يذهبون إلى هذه البلاد ليتاجروا فيها حتّى تعلَّموا لغاتها.[4]

 إنّ هذه الرواية مع طابعها العمومي، تُساير توجّهنا في القضية، وتمنحُنا مزيدًا من الثقة، ونحن نُقصي اللغة العربية -مرّة أخرى- كأداةٍ للخطاب بين التّجار في المدنِ والأسواق المالية. يتّضح لنا إذًا، أنّ حدود استعمال اللغة العربية لدى الماليّين كانت ضعيفةً جدًّا، بحيث لم تَتَّخذْ دائرة حلقات الدروس والعلم، وحينما نستعين بمترجمٍ لفهم خطبة الجمعة، ثمَّ لا نتكلّم العربية في حياتنا اليومية؛ فأيُّ آفاقٍ يمكن أن ننتظرَها لنُمُوّ وازدهار الثقافة العربية الإسلامية؟

فوق هذا وذاك؛ إنَّ عدم تَمكُّن الماليين من اللّسان العربي، لم يُلْحِق الضّرر بالمستوى الثّقافي فحسب؛ وإنّما أصبح يُهدِّد آفاقَ العقيدة الإسلامية نفسها لدى الماليين؛ حيث أخذ يجنحُ بها نحو انحرافاتٍ خطيرة، ناتجة عن عدمِ فهْم مقاصد الشريعة.

مؤدَّى القول: إنّ انتقالَ الإسلام إلى منطقة مالي عبرَ بربر الصحراء، فضلًا عن قلَّة العناصرِ العربية الإسلامية التي تحمَّلت مسؤولية نشر الرسالة المحمدية مُجرَّدة من أيّ دعمٍ ماديّ أو سند معنويّ، ثمّ قلّة الحواضر المالية؛ كلّ هذا وفَّرَ ظروفًا غير مُساعِدَة على تعْريب الماليّين، وبالتّالي إمكانية ازدهار الثقافة الإسلامية بالمنطقة. وممّا زاد في تعقيد الحالة: توافُق الصحوة الثقافية السودانية مع بداية انهيار الثقافة والحضارة الإسلاميتين.[5]

مجموعُ هذه المعطياتُ تَحكَّمت بشكل قويّ وفعَّال في مسيرة وتجربة الإسلام ببلاد مالي، وأنتجتْ لنا واقعًا إسلاميًّا بالشكل الذي تتبَّعناه مع إمبراطورية مالي. لقد خاضَ الإسلامُ في منطقتنا تجربةً محرومةً من معظم الوسائل الفعَّالة التي يمكنُ أن تدعم مَوقعَه في المنطقة، ولم تتوفَّر لديه أدنى الشروط التاريخية لنجاحه. ومع ذلك فرضَ نفسَه، وأعطانا إمبراطورية مالي الإسلامية بالصّورة التي رأيناها، وبذلك أضافَ بلاد السودان لدار الإسلام، والسودانيين للأمة الإسلامية.

فهل يحقّ -بعدَ هذا- لأيّ مُؤرِّخ، أنْ يتجرّأ ويُعلن عن إخفاق، أو هامشية الإسلام في حياةِ المجتمع المالي؟


 


[1] تأسست هذه المملكة على أنقاض مملكة غانة، على يد شعب الماندي أو الماندينغ (Manding)؛ وكلمة مالي تحريف لكلمة ماندنجو، ومعناها الذين يتحدثون بلغة الماندي. اتخذت من مدينة (دو) في منطقة سيجو حاليًّا مكان الإقامة الأولى. وارتبط ظهور هذه المملكة بشخصية سندياتا (ت: 1255م)، الذي يُعتبر المُؤسِّس الحقيقي للمملكة. بلغت خلال القرن الثامن الهجري (14م) أَوْج قوّتها ومجدها؛ خاصةً في عهد السلطان منسى موسى (1330- 1349م)، وأخيه منسى سليمان (1341- 1361م)، لكن في أواخر هذا القرن، بدأ الضعف يدبّ في جسم المملكة؛ لعدة أسباب؛ منها التنافس على العرش، وتسلُّط واستبداد الموظفين الكبار من وزراء ومستشارين بالسلطة؛ فتغلَّب عليها أهل سنغاي الذين أسَّسوا إمبراطوريتهم ما بين عامي (1488- 1592م) التي كانت تشمل زمن حُكم سني علي، وغيره من أقوياء سلاطينهم، معظم السنغال الحالية ومالي والنيجر، وشمال نيجيريا. راجع: عبد الرحمن بن محمد المغربي (ابن خلدون)، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر (العِبَر)، دار الفكر، بيروت، 1981م، الجزء السادس، ص: 267.

[2] ابن بطوطة، 2009م، رحلة ابن بطوطة المسمّاة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق: محمد عبد الرحيم، دمشق: دار الأرقم، الطبعة الأولى، ص: 779.

[3]  فضل الله العمري، 2010م، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: عامر النجار، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الأولى، ص: 65.

[4] الوزان الفاسي، الحسن بن محمد (المعروف بليون الإفريقي)، 1983م، وصف إفريقيا، ترجمه عن الفرنسية: محمد حجي ومحمد الأخضر، بيروت: دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، ج2، ص17.

[5]  أحمد الشكري، 1999م، الإسلام والمجتمع السوداني، أبوظبي: المجمع الثقافي، الطبعة الأولى، ص: 294.

 


أعلى